وصايا لطلبة العلم


الحلقة مفرغة

تتخلى سنة الحكيم سبحانه في إرسال الرسل بمنطق أقوامهم، ليكون البيان واضحاً، فتسهل هداية من أراد الله نجاته، وتتحقق الحجة على من أراد الله ضلاله بمقتضى عزته وحكمته، ومن هؤلاء الرسل موسى عليه السلام، الذي أيده الله بالآيات الجليلة، التي لا يملك من أراد الله هدايته أمامها حيلة، ثم إنه ذكَّر وحذّر قومه أيام الله، ليضعوا الشكر في محله والصبر في محله.

الحمد لله العظيم الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عن الشبيه والمثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله هادياً ودليلاً، فنعم الهادي والدليل، اللهم صل وسلم عليه، وعلى آله، وأتباعه إلى يومٍ تصير فيه الجبال كالكثيب المهيل.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وفي بداية هذا اللقاء فإنني أشكر بعد شكر الله عز وجل جامعة أم القرى ، ممثلةً في عمادة شئون الطلاب، أن هيأت هذا اللقاء بكم على هذه الأرض الطيبة المباركة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكتب لنا ولكم الخُطا، وأن يجعلها موجبةً عنده للمحبة والرضا.

أيها الأحبة في الله! يا معشر طلاب العلم! يا من اختاركم الله عز وجل من بين الناس، لكي تأخذوا مشاعل النور والهداية، فيفتح الله بكم إذا شاء قلوباً طالما أُغْلِقت، وأسماعاً قد صُمَّت، وأعيناً طالما عَمِيت، والله على كل شيء قدير، فلِلَّهِ في أهل الخير نعم، ومن أجلِّها أنه شرفهم بالخير وجعلهم هداةً وحَمَلةً له، وأنتم يا معشر طلاب العلم! يا من فتح الله قلوبكم بكتابه، ونوّر أبصاركم وبصائركم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كم نحن بحاجة إلى أن نقف أمام هذا الحق العظيم، وهو حق طلب العلم، وكم يحتاج طالب العلم دائماً إلى من يذكره بجليل هذه النعمة وعظيم هذا الحق، فلذلك كانت هذه الكلمة، التي أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا فيها القول السديد، وأن يجعلها نافعةً لنا ولكم يوم البأس الشديد.

أيها الأحبة في الله! إن العلم كالغيث للقلوب، يُحيي الله عز وجل به الأفئدة بعد موتها، ويُوقظها بعد غفلتها، وينبهها من بعد منامها.

هذا العلم لا يكون رحمةً حقيقيةً للإنسان إلا إذا أخلص فيه لوجه الله الكريم، فأول ما يُوصَى به طالب العلم، أن يكون قلبه لله جل جلاله، أن تكون السريرةُ سريرةً تقيةً نقيةً، تراقب اللهَ جل جلاله، وتريد ما عند الله عز وجل، في كل صغيرٍ وكبير، وفي كل جليلٍ وحقير.

الإخلاص لله سبحانه وتعالى

القاعدة الأولى التي تقوم عليها هذه العبادة الجليلة، وهي: عبادة العلم: الإخلاص لله سبحانه وتعالى :-

أن نتجه إلى الله بقلوبٍ ليس فيها أحدٌ سواه، فيأخذ طالب العلم هذا النور وهذه الرحمة وقلبه يريد ما عند الله جل جلاله، يأخذ هذا النور وهو يرجو رحمة الله في كل كلمةٍ يسمعها ويقولها، فتكون أشجانُه وأحزانُه لله جل جلاله، فلا يزال بهذا الإخلاص تخطو به في صحيفة عمله الحسنات، ويستوجب بها عند الله رِفْعة الدرجات.

الإخلاص الذي رفع الله به شأن العلماء، وجعل عبادتهم بريئة من غير الله عز وجل، وهو السر الذي فضَّل الله به سلف هذه الأمة على خَلَفها، ولذلك قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو: الدين الذي لا يقبل الله سواه. فلا قبول لهذا العلم، ولا قبول للتعلم والتعليم إلا إذا أراد الإنسان وجه الله الكريم.

فتح الأسماع والقلوب للعلم

الوصية الثانية: أن نفتح لهذا العلم أسماعنا وقلوبنا، وأن نحس أن هذه الأسماع -حقيقةً- تتشرف وتتكرم بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم :-

أن ينطلق طالب العلم وهو يشتعل قلبه شوقاً لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيفتح قلبه وقالَبه لماء الوحي، حتى إذا نزل ذلك الماء على ذلك القلب كان كالغيث الطيب على الأرض الطيبة؛ وما من إنسان يُعطِي العلم سمعه وقلبه، إلا نفعه الله بهذا العلم، ولذلك كانت أول وصيةٍ من الله لموسى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:13].

وأن نستمع للعلم، وأن يكون عندنا الشوق والتلهف إلى مجالس العلماء، وإلى حِلَقِ العلماء، وأن ننطلق إلى رياض الجنة ننافس فيها إخواننا، ونسابق فيها خلاننا، حتى نكون على أفضل ما يكون عليه المجد في طاعة الله عز وجل.

إن هذا العلم رحمةٌ من الله عز وجل، وكلما ازداد الإنسان من هذه الرحمة رفع الله قدره، وأجلَّ مكانه، وأعلى ذكره.

وأن نفتح لهذا العلم أسماعنا، وأن نفتح له قلوبنا، وكان بعض السلف يقول: [من استمع للعلم وأعطاه قلبه، فإن الله ينفعه لا محالة بهذا الاستماع للعلم].

وأن نفتح لهذا العلم كل جوارحنا.

فإذا وفق الله طالب العلم لكي يكون عنده الشوق إلى مجالس الذِكر ومجالس العلماء ورياض العلماء؛ فإنه لا يلبث بعد فترة حتى يجمع خيراً كثيراً.

ترجمة العلم إلى الواقع

الوصية الثالثة: أن يُتَرْجِم هذا العلم للواقع :-

أن يخرجه الإنسان من قرارة القلب إلى القالَب، أن نخرج الأقوال والهدي الذي نسمعه إلى الواقع، فبعد أن يتأثر طالب العلم بالوحي، ويسكن في قرارة قلبه يستمسك به، ويطبقه، ويلتزمه، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43] قال: استمسك، ولم يقل له: أمْسِك، وإنما قال له: استمسك؛ فالاستمساك بهذا الدين: إذا تعلم طالب العلم سنة أو حكمة تمسك بها، وعمل بها، وأشهد الله على أنه من أهلها؛ فإذا سمعتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى سنة أو يدعو إلى خيرٍ وهدى؛ فكن عاملاً بذلك العلم، كن مطبقاً له، تترجمه على جوارحك، ولذلك إذا وفق الله طلاب العلم إلى العمل بعد العلم، جعلهم قدوة، قال الله في كتابه عـن علماء بني إسرائيل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

ترجمة العلم إلى الجوارح فيه حياة العلم، وكم من سننٍ حيت لما خرج طلاب العلم، فنشروها أمام الأمة بلسانٍ يذكرُ الله وجوارح تترسم هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطبيقُ العلم وترجمتُه بالعمل، وإخراجِه إلى الواقع حتى تراه الناس، فحينما تراك ترى السنن في أقوالك، وترى السنن في أفعالك، فبعض طلاب العلم إذا رأيته تذكرت هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طلاب العلم من شرح الله صدره للعلم والعمل، حتى إذا رأيته ذكرت الله، إذا رأيته قد عمل بما عَلِم.

الصبر والتحمل واحتساب الأجر

الوصية الرابعة والأخيرة التي أختم بها هذه الكلمة هي: الصبر والتحمل واحتساب الأجر:

طالب العلم يعامل الله، والمعاملة مع الله فيها ابتلاء واختبار وامتحان، ولا بد لطالب العلم أن يَجِدَ الشدائد، وأن يَجِدَ المحن، وأن يَجِدَ من يثبطه ومن يخذِّله.

فأول صبرٍ يُوصَى به طالب العلم: الصبر على وساوس الشيطان:

فإن الشيطان لن يدع لطالب العلم باب خيرٍ يطرقه إلا وجاءه من كل حدبٍ وصوبٍ حتى لا يَبْلُغَه، لا يمكن أن يترك طالب العلم وأن يُخَلِّي بينه وبين الخير؛ لأن الله عز وجل أخبر أن المؤمن مبتلىً، ودرجة طالب العلم فوق درجة المؤمنٍ العامِّي، فلا بد أن يكون مبتلىً، تعيش مع نفسك في الوساوس، فأول ما يأتي الشيطان للإنسان يخذِّله، يقول له: مَن أنت؟! من أنت حتى تطلب العلم؟! فلستَ بعالم، ولا أبوك بعالم، ولستَ من بيت علم، حتى يخذِّله عدو الله، ويجعلَ في قلبه اليأس من رحمة الله، والقنوط من روح الله.

فما على طالب العلم إلا أن يُحسن الظن بالله، وأن يقول: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].

فمَن فهَّم سليمان وعلَّم داوُد قادرٌ على أن يفهِّمك ويعلِّمك؛ فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكم من طلاب علمٍ كانوا على جاهلية وبُعْدٍ من الله تبارك وتعالى؛ ولكنهم أحسنوا الظن بالله! فما مضت الأيام ولا انقضت الأعوام إلا وهم أئمة هدى، ومشاعل خيرٍ وحب لله ورضا، فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكن قوي العزيمة على طاعة الله، وقد تأتيك المحن التي تحتاج إلى الصبر في أهلك وذويك؛ فتجد من يخذِّلك عن طلب العلم، ويجعل العوائق بينك وبين طلب العلم من حاجات الناس، وحاجات الأهل وأغراضهم، فاستعن بالله، فإنه نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.

لا بد من الامتحان والاختبار حتى في طلب العلم، ولا يزال طالب العلم يُبتلَى ويمتحَن، حتى أنه يبتلَى وهو في مجلس العلم، ويُختبَر حتى في العلم الذي يتعلمه، ولذلك إذا نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجدته من أول لحظةٍ في الوحي إلى آخر لحظةً من الدنيا وهو يتقلب في البلاء صلوات الله وسلامه عليه.

فأول لحظةٍ في الوحي: أخَذَه جبريل فغَطَّه حتى رأى الموت.

وآخر لحظةٍ من الدنيا قال فيها: (آه! إن للموت لسكرات).

فلا بد من البلاء، ولا بد من الامتحان، ولذلك حكمةٌ من الله عز وجل أنه جعل الدنيا دار بلاءٍ وعناءٍ وعِنَّةٍ على المؤمن؛ ولكن هذا البلاء رفعةٌ للدرجات، وتكفيرٌ للسيئات، ومضاعفةٌ للأجور والحسنات، وكم من إنسانٍ صُبَّ عليه البلاء فأمسى يوم أمسى وصحيفته مملوءةٌ بأجورٍ لا يجدها بكثير صلاةٍ ولا صيام.

فاصبر على طلب العلم واحتسب البلاء الذي تجده، واحتسب عند الله ما يقال عليكَ أو يقال لك، فقد يُبْتَلى الإنسان حتى بمدح الناس وَثنائهم، فإن الجاه والسمعة والشهرة قد تقتل الإنسان من حيث لا يدري، فما على الإنسان إلا أن يجاهد ويحتسب عند الله عز وجل أن يثبته وأن يوفقه.

ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم أئمة هدى، هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

أحبتي في الله: إن العلم مسئوليةٌ عظيمة، وواللهِ ما من جماعةٍ انفردوا بهذا العلم وأخذوا على أنفسهم أن يكونوا طلاب علم إلا تحملوا المسئولية بين يدي الله عن ذلك، ولذلك كل طالب علمٍ دخل إلى جامعة، أو جلس في حلقة، أو لازمَ شيخاً فليعلم أنه بمجرد دخوله وبمجرد ملازمته قد وَضَع قدمه على عتبة المسئولية بين يدي الله جل جلاله، وأنه سيحمل على ظهره أمانة يُوقف بها بين يدي الله، إما أن تشقيه وإما أن تسعده وترضيه.

فاعلموا إخواني أن التخصص في العلم وحل هذه الحِكَم من الكتاب والسنة ما هي إلا حجج تكون للإنسان أو على الإنسان. جاء بعض السلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكان يسألها المسائل، فقالت له يوماً من الأيام: [أَيْ بُنَي، أَكُلَّ ما عَلِمْتَه عَمِلْتَ به؟! فقال: يا أماه، إني مُقصر. وجلس يشتكي من تقصيره، فقالت له: يا بُنَي! لِمَ تستكثر من حُجَج الله عليك؟!].

فينبغي لنا أن نستشعر أن هذا العلم الذي نتعلمه حُجَجٌ لله علينا، وأن وراءنا أمم تنتظر هذا الوحي بفارغ الصبر، وراءك أهلُك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك حيُّك ينتظر هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك أهلُ بلدتك وعشيرتك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، فاتقِ الله فيما تعلمتَ، وكن غيوراً على هذا الدين، وبُث الحِكَم من كتاب الله وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

فاحتسبوا -إخواني- الأجر عند الله، واعلموا أن هذا العلم لا يُراد به الدنيا، وإنما يُراد به ما عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرِح رائحة الجنة).

اللهم إن نسألك الإخلاص في العلم والعمل، ونسألك بعزتك وجلالك أن تجعل هذا العلم حجةً لنا لا حجةً علينا.

وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.

القاعدة الأولى التي تقوم عليها هذه العبادة الجليلة، وهي: عبادة العلم: الإخلاص لله سبحانه وتعالى :-

أن نتجه إلى الله بقلوبٍ ليس فيها أحدٌ سواه، فيأخذ طالب العلم هذا النور وهذه الرحمة وقلبه يريد ما عند الله جل جلاله، يأخذ هذا النور وهو يرجو رحمة الله في كل كلمةٍ يسمعها ويقولها، فتكون أشجانُه وأحزانُه لله جل جلاله، فلا يزال بهذا الإخلاص تخطو به في صحيفة عمله الحسنات، ويستوجب بها عند الله رِفْعة الدرجات.

الإخلاص الذي رفع الله به شأن العلماء، وجعل عبادتهم بريئة من غير الله عز وجل، وهو السر الذي فضَّل الله به سلف هذه الأمة على خَلَفها، ولذلك قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو: الدين الذي لا يقبل الله سواه. فلا قبول لهذا العلم، ولا قبول للتعلم والتعليم إلا إذا أراد الإنسان وجه الله الكريم.