رسالة من طالب علم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الحج مبروراً، والسعي مشكوراً، والذنب مغفوراً.

اللهم اجعلنا مرحومين لا محرومين! واجعلنا فائزين غانمين! برحمتك يا أرحم الراحمين!

في بداية هذا الدرس الأول من النصف الثاني من العام الدراسي، سيكون حديثنا عن بعض الأمور التي يحتاجها طالب العلم؛ حتى يستطيع أن يقوم برسالته؛ ويؤدي أمانته على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.

ولاشك أن النفوس محتاجة دائمة إلى التذكير بالله عز وجل، وأي نفس مؤمنة صحبها التذكير بالله أنست بربها، واستقامت على سبيل خالقها؛ لأن الله تعالى شهد لها بالانتفاع بالذكرى فقال سبحانه وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].

الإخلاص أساس الدين وطريق الخلاص

خير ما يوصى به طالب العلم بل ويوصى به الناس جميعاً، وينبغي أن يكون في نفس كل مؤمن في كل لحظة أن يكون مخلصاً لله عز وجل؛ لأن الإخلاص هو أساس الدين، وطريق الخلاص، وطريق النجاة في الدنيا والآخرة.

فمن عرف الله وعمل لله نال ولاية الله جل جلاله، ومن كان لله قلباً وقالباً بارك الله قوله وعمله؛ وشكر سعيه؛ وجعل له حسن العاقبة التي لا تكون إلا لأهل التقوى كما قال سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

فحري بطالب العلم دائماً أن يسأل نفسه ويحاسبها عن حق الله في قوله وعمله، وظاهره وباطنه، وسريرته وسيرته، فإذا جد واجتهد في تكميل نقصه بالإخلاص، وجبر كسره بإذن الله عز وجل في ذلك نال سبيل الخلاص.

إنه الإخلاص الذي لا يمكن أن يقبل القول أو العمل إلا بتحقيقه، والقيام بحقوقه: أن يراد به وجه الله ولا يبتغى شيء سواه سبحانه وتعالى.

الجد والاجتهاد في طلب العلم

حري بطالب العلم أن يجد ويجتهد، ولا يسأم ولا يمل من حمل هذه الرسالة، وضبط هذه الأمانة، والعناية بالعلم حفظاً ومراجعة ومذاكرة؛ كل ذلك لكي يعظم أجره، ويثقل ميزانه، فأعظم الناس أجراً في طلب العلم أعظمهم تعباً، وأكثرهم مشقة ونصباً، وقرن الله العلم بالتعب، وجعل أهله أهل جد واجتهاد، فما نظر طالب علم في سيرة العلماء والأئمة الفضلاء إلا وجدهم قد اكتحلوا السهر، وجدوا واجتهدوا في طلب هذا العلم حتى نالوا بفضل الله وحده ما نالوه من الخير والبركة.

إن الجد والاجتهاد في العلم يعني المسئولية، والشعور بالمسئولية يعني إكرام العلم، والمحبة الصادقة له، لا يجد ولا يجتهد في مراجعة العلم وضبطه وإتقانه إلا الأمين، الذي يستشعر أنه مؤتمن -من أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.

فالعلم لا ينال بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة، ولا بالألقاب الفارغة، إنما هو منحة لها أسباب بفضل الله لا بفضل أحد سواه، الجد والاجتهاد لا يمكن أن يكون إلا من إنسان استشعر المسئولية والأمانة، واستشعر أن العلم ثقيل كما قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5].

الأسباب المعينة لطالب العلم على ضبط العلم وإتقانه

ولذلك يجب على كل طالب علم أن يبحث عن الأسباب التي تقوي روحه ونفسه على ضبط العلم وإتقانه.

ومن أعظم هذه الأسباب: أن يستشعر أن كل آية وحديث وحكم شرعي يسمعه في مجلس عالم أو في فتوى أو يقرؤه في كتاب إنما هو أمانة في عنقه، وأن العالم إذا بين العلم فقد وضع الأمانة في رقاب طلابه، ومن حضر واستمع فقد حمل الأمانة.

قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أمناء على دين الله وشرعه، وأنهم مطالبون بتبليغ الرسالة، وجعل اجتماعهم وشهودهم أمانة عليهم، وعليهم مسئولية عليهم أن يبلغوا، وهذا لا شك أنه يحفز نفس طالب العلم إلى ضبط العلم وإتقانه.

وعلى كل طالب علم أن يهيئ الأسباب، وينظم وقته ويرتبه للمذاكرة وللجد والتحصيل، ويبحث عن طالب علم يثق في دينه وأمانته وجده واجتهاده، فيذاكر ويراجع معه، وإذا لم يجد فإن الله نعم المولى ونعم النصير، فيكون له من ربه معين وظهير؛ لكي يضبط هذا العلم ويقوم بحقه وحقوقه.

ضرورة التعرف على العوائق والشواغل المثبطة عن طلب العلم واجتنابها

إذا أخلص طالب العلم لله وجد واجتهد في ضبط هذا العلم وإتقانه، عليه أن يعلم أن هناك عوائق تحول بينه وبين هذه الغاية، وبين الوصول إلى هذه المراتب العالية في ضبط العلم وإتقانه.

وهذه العوائق والشواغل تثبط العباد عن طاعة الله عز وجل، وهي من امتحان الله لخلقه؛ لأنه ما من عمل صالح إلا وقد جعل الله بين العبد وبينه ابتلاءات، وبقدر هذه الابتلاءات ترتفع الرتب وتعلو الدرجات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره) .

ومن أعظم ما يجابه المسلم وطالب العلم في طلبه للعلم عدم تقدير العلم والعلماء، الذي يكون من النفس الأمارة، تكون من إنسان لا يعرف حق العلم ولا قدره ولا قدر العلماء، فتارة يستهزئ بالعلم الذي يتعلمه، وقد يشكك في الحق الذي تتعلمه، وتارة يستهزئ في جلوسك في مجالس العلم والعلماء.

ولذلك تجد بعض العوام والجهلة يستخف بطلاب العلم.. وأين يذهب؟! وأين يجلس؟! ويقول له: إنه يضيع عمره؛ لأنه لم يجده في تجارة ولا بيع ولا شراء، لا يريده إلا في حطام الدنيا! فيستخف به، وربما وجد من الناس من يقول له: لماذا تضيع وقتك مع العلماء، وهؤلاء العلماء فيهم.. وفيهم؟! فينتقص العلماء ويتكلم فيهم.

وإن أعظم ثلمة في الدين -بعد ضياع حق الله عز وجل- إضاعة حق الرسل وحق ورثتهم من العلماء، فالتشكيك في العلماء، والطعن في مكانتهم وأمانتهم، وتتبع عثراتهم وزلاتهم، ونزع ثقتهم من قلوب الناس أمر لا خير فيه، بل هو شر، وبلاء لا عافية، وما عاشت هذه الأمة إلا على حب علمائها، وحسن الظن بصلحائها، واحترامهم وتقديرهم وحملهم على أحسن المحامل، فإذا نزعت هذه الثقة من قلوب الناس، من الذي يعلم الناس دينهم؟! ومن الذي يدلهم على ربهم؟! ومن الذي يرشدهم على خالقهم؟!

وهب أن عند العلماء أخطاء، فهل معنى ذلك أن تتبع عوراتهم، وأن تكشف سوآتهم والعياذ بالله؟!

فعلى طالب العلم أن يوطن نفسه بمحبة أولياء الله، وليعلم أن أهل العلم بشر يخطئون ويصيبون؛ ولكن لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولا يمكن أن يسوى من وضع الله في قلبه أنوار التنزيل بمن كان جاهلاً بدين الله عز وجل، ولا يفقه شرعه، ولا يعرف حكمه؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

فإذا وجدت من ينتقص العلماء ويثبطك عن طلب العلم في هذا الزمان فاحذر! إنها الفتن التي أصبح الإنسان فيها غريباً في كل شيء فيه طاعة الله ومرضاته، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) فمن غربة الإسلام أن يصبح العلماء غرباء لا يسلمون من العامة، ولا من الخاصة، إن تكلموا وبينوا ثلبوا، وإن سكتوا رعاية لمصالح نظروا إليها باجتهادهم ثلبوا، فهم لا يسلمون لا من هؤلاء ولا من هؤلاء: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].

عليك أن تحذر من هذه الآفة التي أصبح الناس يخبطون فيها خبط عشواء، وقل أن تجد إنساناً يتقي الله يكف لسانه عن ذلك، فضلاً عمن يدافع عن أهل العلم ويحسن الظن بهم.

فإذا وجد طالب العلم مثل هذا التخذيل فلا يلتفت إليه، ولو أن الأمة -في أزمنة الفتن والمحن- التفتت إلى هذه الفتن، وشغلت علماءها بها، وأصبحت تشكك في علمائها؛ لما انتقل الدين إلينا.

حاصر الحجاج بن يوسف مكة ورمى الكعبة بالحجارة، وكان العلماء في مساجدهم يعللون ويبينون، ومنهم من آثر ما آثر من رعاية المصالح ودرء المفاسد مما يراه قربة لربه، وسيلقى الله باجتهاده، وفيهم من الصحابة رضوان الله عليهم أئمة العلم والفتوى وغيرهم، وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه، الذين أمرنا باتباع سنته، المحدث الملهم- كان يمنع الفقهاء من الصحابة أن يخرجوا إلى الجهاد والأمة بحاجة إليهم، وكانت الأمة أحوج ما تكون إلى خروجهم إلى ثغور الشام للفتوحات.

كان يحرم على الصحابة الذين كانوا على علم بالسنة أن يخرجوا من المدينة؛ لعظيم حق العلم وشدة الحاجة إليه، فلا يمكن للأمة أن تستغني عن علمائها، ولا يمكن للأمة أن تصيب الحق إذا نزعت الثقة من علمائها، علينا أن ندرك ذلك، وأن نعلم أنه لا خير في طعن بعضنا في بعض، وتشكيك بعضنا في أمانة ونزاهة بعض.

علينا أن نجد ونجتهد في محبة هذا العلم، والتضحية من أجله، والصدق في رغبته؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يرى منا ما يرضيه.

ابتاع العلم بالعبادة والقول بالعمل

كذلك أيضاً مما ينبغي لطالب العلم: أن يشوب علمه بالعبادة، والقول بالعمل، وأن يحرص على أن تكون بينه وبين الله عبادات من الحرص على ذكر الله عز وجل، وحسن عبادته، ومن ذلك كثرة تلاوة القرآن، فما عرف لأهل العلم شيء أعظم بركة ولا خيراً من كتاب الله عز وجل.

فطالب العلم ينبغي عليه أن يكون له حظ من كتاب الله وافر، فيكثر من تلاوة القرآن وتدبره، والخشوع عند سماعه وتلاوته، فإن الله يبارك له في علمه، وإذا استطاع طالب العلم ألا يمر عليه أسبوع أو لا تمر عليه ثلاث ليالٍ إلا وقد ختم القرآن فذلك خير كثير.

كم من الأوقات يجد الإنسان نفسه فيها في سراب! كم من الأوقات يجد الإنسان فيها نفسه صامتاً! وكم من الأوقات يجد الإنسان نفسه فيها متحدثاً بما لا خير فيه من فضول أحاديث الدنيا! فليشغل وقته بذكر الله، وأطيب الذكر وأفضله كتاب الله عز وجل؛ لأن الله يحفظ به دينه؛ ويسدد به قوله؛ ويصوب به عمله.

القرآن نعم المؤنس في الوحشة! ونعم المعلم من الجهالة! ونعم الهادي من الضلالة! فهو نور من الله ورحمة، فمن استبصر بالقرآن سلمت بصيرته، ومن اهتدى بالقرآن تمت هدايته.

اللهم اجعلنا من أهل القرآن، واجعله ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا يا حي يا قيوم!

وأسعد الناس نجاة من الفتن من أكثر من تلاوة القرآن، وبالأخص أن يكون له حظ من قيام الليل، وليسأل كل طالب علم كم للقرآن من حظ في ليله؟! وكم يعطي القرآن في قيامه بالليل ومن ساعات ليله؟! فإذا وجد خيراً حمد الله عز وجل، وسأل الله الثبات، وإذا وجد التقصير كمل نقصه وجبر كسره.

يا طالب العلم: لابد لك من قيام الليل؛ فإنه روحك ومدد من الله لك؛ وفيه خير لك في الثبات إذا عظمت الفتن وكثرت المحن؛ لأن الله يحفظ عبده بدعائه وسؤاله وعبادته، فمن تهجد بالليل حفظ الله له دينه في النهار وعصمه، ولذلك قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6].

وكان العلماء والأئمة يوصون طلاب العلم بالمحافظة على قيام الليل، فليسأل كل طالب علم نفسه كم يقوم من الليل؟! وفي كم يختم كتاب الله عز وجل؟!

عيب على طالب العلم ألا يكون قواماً لليل! وعيب على طالب العلم ألا يكون ذكاراً لله! وألا يكون صواماً للإثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر! وألا تكون عنده عبادات بينه وبين الله.. فكيف يذكر الناس غداً؟!

ولذلك تجد بعض من يتصدر للوعظ وتذكير الناس في إمامته وخطبته أو في بعض مجالسه -وليست عنده عباده- تجده يقول قولاً لا يجد طعمه في قلبه، وكثيراً ما يشتكي البعض، يقول: أنا أذكر الناس وأجد الغفلة! نعم، لم يذكر الناس أحد بلسانه! ولن تنفع الذكرى إذا كانت باللسان دون الجوارح والأركان! فكيف يُخشع الإنسان القلوب ويذكر بالله علام الغيوب وهو أغفل الناس عن ربه؟!

وكيف يكون هادياً مهدياً واعظاً مؤثراً إذا كان لا يقوم الليل، ولا يصوم النهار، ولا يتلو القرآن إلا هجراً أو بعد مدة طويلة؟! كيف يكون لأقواله ومواعظه أثر في النفوس؟! نسأل الله السلامة والعافية!

ولذلك استضاف الإمام أحمد بعض طلابه، فوضع عنده الماء بعد صلاة العشاء ثم نام الإمام أحمد ، فلما كان الفجر وجد الماء لم يتغير، فعلم أن هذا الطالب لم يقم الليل، فصار يتعجب الإمام أحمد ويقول: طالب علم لا يقوم الليل!

فمن يريد أن يطلب العلم عليه أن يعلم ما هي حقوق طلب العلم؟! وأين مكان طالب العلم في العبادة وفي النزاهة وفي التحفظ وفي الصيانة؟!

إن الجلوس في مجالس العلماء له حق، والتأدب بصحبة العلماء له حق، فأنت غداً الأمل فيك -بعد الله عز وجل- أن تكون للأمة في قولك وعملك، فمن اختار الخير في بداية طلبه للعلم، واختار الذكر والطاعة والاستقامة، وأصبح له لسان ذاكر، وقلب شاكر، وإنابة صادقة لله عز وجل، وخشية لله سبحانه وتعالى، ووطن نفسه على محاسن الأمور من العبادات الصالحة والكلمات الطيبة، واستقام لربه كما ينبغي أن تكون الاستقامة، فإنه بإذن الله سيبارك له في علمه ودعوته غداً.

إن الله مطلع على القلوب والقوالب، ومطلع على السرائر والضمائر، والله لا يخادع، ولن ينال الله من عباده القول والعمل فالله غني عن خلقه، قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

فعلى طالب العلم أن يوطن نفسه بأن يكون كما ينبغي أن يكون عليه من طلب العلم، تجد من ينتسب إلى العلم من طلاب العلم يقول: أنا في قسوة! أنا في غفلة! أجد ضيقاً! أجد هماً! حتى أصبح بعض طلاب العلم مثل العوام يشتكي مما يشتكي منه العوام! نعم.. لأن أحوالنا كأحوال العوام وقد تكون أردأ، وقد تجد في العامة من ذكر الله والخوف منه مالا تجده في بعض طلاب العلم.

فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نوطن أنفسنا لطلب العلم، وعلى طاعة الله عز وجل.

قال الإمام إبراهيم النخعي -يحكي حال السلف في طلبهم للعلم-: كان الرجل إذا طلب العلم ظهر في وجهه وسمته ودله.

مجرد ما كان يجلس الشخص في مجالس العلماء تجد في وجهه نور العبادة، ومن الخشوع والسكينة والوقار مثل ما تجده في العلماء؛ لأن أشبه الناس بالعلماء هم طلاب العلم.

إنها وصية لكم ولأنفسنا المراد بها المعونة على طاعة الله عز وجل.

وجوب التمسك بالكتاب والسنة

وآخر ما نختم به هذا المجلس: وصية بالتمسك بالكتاب والسنة، وعدم الالتفات إلى الفتن والمحن، والاستعصام بحبل الله عز وجل، فإن الله عز وجل وصى عباده بالرجوع إلى دينه، والاستمساك بحبله، والاستعصام به، وقرن النجاة في ذلك، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام -والأمر له ولأمته-: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43] فمن أراد النجاة من الفتن الظاهرة والباطنة فليستمسك بكتاب الله عز وجل، وليعلم أن الله جعل القرآن نوراً وشفاءً وهدى ورحمة لمن استهدى به.

والاستعصام بكتاب الله والسنة يعني الرجوع إليهما في الصغير والكبير والجليل والحقير، وتطبيق ما قال الله وقال رسوله؛ حتى يكون الإنسان المسلم مستسلماً لله ومنقاداً لشرعه كما أمر الله عز وجل، وأي حكم من أحكام الله عز وجل في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يبلغك تطبقه بكل تسليم وإذعان، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].

ولا يمكن للإنسان أن يحكم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمحبة العلماء، والرجوع إلى العلماء الربانيين الموثوق بدينهم وعلمهم، وسؤالهم، والعمل بما يقولون، وأن يحرص طالب العلم عند سؤال العلماء على الأدب، ورعاية الحرمة، وعدم التشويش والتضييق عليهم؛ فإن أذية العلماء عواقبها وخيمة، وكم من مصاحب للعلماء رفع الله قدره بصحبتهم! وكم من صاحب لعالم جعله الله في سفال في صحبته من الأذية له والتضييق عليه، وعدم الإحسان في السؤال، وعدم التهذب في الألفاظ، وعدم رعاية الحرمة.

ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يوطن نفسه بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وإذا كان العالم يرى من سائله ما يعينه على أداء الحق وبيان الحق بين له.

إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما

فاقنع بدائك إن جفوت طبيبها واقنع بجهلك إن جفوت معلما

فعلى الإنسان أن يحرص على الرجوع إلى الكتاب والسنة، ففيهما نجاة من الفتن والمحن، حتى إن طالب العلم الموفق السعيد قد جعل القرآن أمام عينيه في جميع أموره، ولذلك الفتن لا تجد سبيلاً لما قد يقال بالعلم، الموفق المسدد يخرج من بيته فيرى فتنة من الفتن أمام عينيه يتذكر أن الله يقول له: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] فيغض بصره.

يجلس في مجلس فيسمع أحداً يغتاب مسلماً يقول له: لا تغتب. فإن امتنع قام من المجلس؛ لأنه يعلم أن الله نهاه أن يغتاب مسلماً، ونهاه أن يجلس في مجلس فيه ظلم للمسلمين، وخوض في آيات الله، وانتهاك لحرمة أولياء الله.

هكذا إذا حرص الإنسان على تطبيق الإسلام -كما ينبغي- في نفسه وأخلاقه وشئونه وفقه الله وسدده، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله وقاه وجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، ونسألك أن تبلغنا مقام الرضا، اللهم اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تقدمنا إلى شر ولا تؤخرنا إلى شر، اللهم احفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك وعنايتك، سدد أقوالنا.. وصوب آراءنا.. يا حي يا قيوم! وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وكمل نقصنا، والطف بنا، يا حي يا قيوم!

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

خير ما يوصى به طالب العلم بل ويوصى به الناس جميعاً، وينبغي أن يكون في نفس كل مؤمن في كل لحظة أن يكون مخلصاً لله عز وجل؛ لأن الإخلاص هو أساس الدين، وطريق الخلاص، وطريق النجاة في الدنيا والآخرة.

فمن عرف الله وعمل لله نال ولاية الله جل جلاله، ومن كان لله قلباً وقالباً بارك الله قوله وعمله؛ وشكر سعيه؛ وجعل له حسن العاقبة التي لا تكون إلا لأهل التقوى كما قال سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

فحري بطالب العلم دائماً أن يسأل نفسه ويحاسبها عن حق الله في قوله وعمله، وظاهره وباطنه، وسريرته وسيرته، فإذا جد واجتهد في تكميل نقصه بالإخلاص، وجبر كسره بإذن الله عز وجل في ذلك نال سبيل الخلاص.

إنه الإخلاص الذي لا يمكن أن يقبل القول أو العمل إلا بتحقيقه، والقيام بحقوقه: أن يراد به وجه الله ولا يبتغى شيء سواه سبحانه وتعالى.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المشكلات الزوجية وعلاجها 3459 استماع
رسالة إلى الدعاة 3432 استماع
وصية نبوية 3324 استماع
أهم الحقوق 3302 استماع
توجيه الدعاة إلى الله تعالى 3214 استماع
كيف نواجه الفتن؟ 3161 استماع
حقيقة الالتزام 3141 استماع
وصايا للصائمين والقائمين 3080 استماع
الوصايا الذهبية 3038 استماع
مناقشة لرسالة الدكتوراه (2) 3005 استماع