كيف ترق قلوبنا


الحلقة مفرغة

الحمد لله علام الغيوب، الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعز مطلوبٍ وأشرف مرغوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، وعلى جميع من سار على نهجه واتبع سبيله إلى يوم الدين.

أما بعد .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إخواني في الله: إن رقة القلوب وخشوعها، وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن، وعطيةٌ من الديان، تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزاً مكيناً وحصناً حصيناً من الغي والعصيان، ما رق قلبٌ لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات، مشمراً في الطاعات والمرضاة، ما رق قلبٌ لله عز وجل وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكِّر إلا تذكّر، ولا بُصِّر إلا تبصر، وما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئناً بذكر الله، يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى، وما رقّ قلبٌ لله عز وجل إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل.

فالقلب الرقيق قلبٌ ذليلٌ أمام عظمة وبطش الله تبارك وتعالى، ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفاً وخشيةً للرحمن سبحانه وتعالى، ولا دعاه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه وتعالى.

القلب الرقيق صاحبه صدّيق وأي صديق، القلب الرقيق رفيقٌ ونعم الرفيق؛ ولكن من الذي يهبُ رقة القلوب وانكسارها؟ ومن الذي يتسبب بخشوعها وإنابتها إلى ربها؟ من الذي إذا شاء قلب هذا القلب فأصبح أرق ما يكون لذكر الله عز وجل، وأخشع ما يكونُ لآياته وعظاته من هو؟ هو الله سبحانه لا إله إلا هو.

القلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلباً، ولكن يأبى الله إلا رحمته، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه، حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة، التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب، بعد أن أذن الله تعالى أن يصطفى ويجتبى صاحب ذلك القلب، فلا إله إلا الله من ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة، ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة، بعد أن كان فظاً جافياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه، إذا بذلك القلب الذي كان جريئاً على حدود الله عز وجل، وكانت جوارحه تتبعه في تلك الجرأة إذا به في لحظةٍ واحدة يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يتغير لكي يصبح متبصراً يعرف أين يضع الخطوة في مسيره.

أحبتي في الله: إنها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمةٌ أجل وأعظم منها: نعمةُ رقة القلب، وإنابته إلى الله تبارك وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل أنه ما من قلبٍ يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله، فقال سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].

ويلٌ: عذابٌ ونكالٌ لقلوب قست عن ذكر الله عز وجل، ونعيم ورحمةٌ وسعادةٌ وفوزٌ لقلوب انكسرت وخشعت لله تبارك وتعالى؛ لذلك إخواني في الله: ما من مؤمنٍ صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبي رقيقاً؟ كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؟ فأكون حبيباً لله عز وجل، ولياً من أوليائه، لا يعرف الراحة والدعة والسرور إلا في محبته وطاعته سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أنه لن يحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئاً كثيراً؛ ولذلك كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون فيها إلى من يرقق قلوبهم!

فالقلوب شأنها عجيب وحالها غريب، تارةً تقبل على الخير، وإذا بها أرق ما تكون لله عز وجل ولداعي الله، لو سُئِلتْ أن تنفق أموالها جميعها لمحبة الله لبذلت، ولو سُئِلتْ أن تبذل النفس في سبيل الله لضحت، إنها لحظات ينفح فيها الله عز وجل تلك القلوب برحمته، وهناك لحظات يتنعر فيها المؤمن لله تبارك وتعالى، لحظات القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه، ويتعلل فيها فؤاده، حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله.

وللرقة أسباب وللقسوة أسباب، ولكن الله تبارك وتعالى تفضل وتكرم بالإشارة إلى بيانها في كتابه العزيز.

الإيمان بالله عز وجل

ما رقّ القلبُ بسببٍ أعظم من سبب الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقاً لله عز وجل، وكان وقّافاً عند حدود الله، لم تأته الآية من كتاب الله ولم يأته حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال بلسان الحال والمقال: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

فما من عبدٍ عرف الله بأسمائه الحسنى، وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وهو يجير ولا يجار عليه، إلا وجدته إلى الخير سباقاً وعن الشر محجاماً، فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل وتنكسر من هيبته المعرفة بالله تبارك وتعالى، أن يعرف العبد ربه، وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب، يذكره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم، وتذكره النعمة والنقمة بذلك الحليم الكريم، ويذكره الخير الشر بمن له أمر الخير والشر سبحانه وتعالى، فمن عرف الله رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، والعكس بالعكس، فما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله وعذابه، وأجهلهم بنعيم الله ورحمته، حتى أنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكونون من رحمة الله، وأيئس ما يكونون من روح الله والعياذ بالله؛ لمكان الجهل بالله، فلما جهل معرفة الله جرؤ على حدوده، وجرؤ على محارمه، ولم يعرف إلا ليلاً ونهاراً وفسوقاً وفجوراً، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا الذي يعده هدفاً في وجوده ومستقبله.

لذلك أحبتي في الله المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، ولذلك كلما وجدت الإنسان يديم العبرة، ويديم التفكر في ملكوت الله وجدت في قلبه رقة، ووجدت في قلبه خشوعاً وانكساراً لله تبارك وتعالى.

تدبر القرآن

السبب الثاني: الذي يكسر القلوب ويرققها، ومعين العبد على رقة قلبه من خشية الله عز وجل: النظر في آيات هذا الكتاب، النظر في هذا السبيل المفضي إلى السداد والصواب، النظر في كتاب وصفه الله بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].

فما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قراءته حاضر القلب متفكراً متأملاً إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع، والنفس تتوهج إيماناً من أعماقها، تريد المسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طريةً للخير، ومُحبة لله عز وجل ولطاعته، فما قرأ عبدٌ القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها والتأمل فيها رقيقاً قد اقشعر قلبه، واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى: كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].

فالقرآن تأثيره عجيب! هذا رجل من الصحابة تليت عليه بعض آيات القرآن، فنقلته من الوثنية إلى التوحيد ومن الشرك بالله إلى عبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى في آياتٍ يسيرة، هذا القرآن موعظة رب العالمين، وكلام إله الأولين والآخرين: ما قرأه عبدٌ إلا تيسرت له الهداية بقراءته؛ ولذلك قال الله في كتابه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، هل هناك من يريد الذكرى؟ هل هناك من يريد العظة الكاملة والموعظة السامية؟ هذا كتابنا؛ لذلك أحبتي في الله ما أدمن قلبٌ ولا أدمن عبدٌ على تلاوة القرآن وجعل القرآن معه إذا لم يكن حافظاً يتلوه آناء الليل وآناء النهار إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.

تذكر الآخرة

ومن الأسباب التي تعين على رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى تذكر الآخرة؛ أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر، أن يتذكر أن لكل بدايةٍ نهاية، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة، وأن المتاع فانٍ وأنها غرورٌ حائل، دعاه والله ذلك إلى أن يحتقر الدنيا ويقبل على ربها إقبال المنيب الصادق وعندها يرق قلبه، ومن نظر إلى القبور، ونظر إلى أحوال أهلها انكسر قلبه، وكان قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور والعياذ بالله.

ولذلك لن تجد إنساناً يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل والتدبر؛ إذ يرى فيها الآباء والأمهات، والإخوان والأخوات، والأصحاب والأحباب، والإخوان والخلان، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم، وأنهم جيرانٌ بعضهم لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة، وأنه قد يتدانى القبران وبينهما كما بين السماء والأرض نعيماً وجحيماً، ما تذكر عبدٌ هذه المنازل التي ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذِكْرها إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، ولا يقف على شفير قبرٍ -فرآه محفوراً- فهيأ نفسه أن لو كان صاحب ذلك القبر، وما وقف على شفير قبرٍ فرأى صاحبه يدلى فيه، إلا سأل نفسه على ماذا يغلق وعلى من يغلق وعلى أي شيءٍ يغلق، أيغلق على مطيعٍ أم على عاصٍ، أيغلق على جحيمٍ أم على نعيم، فلا إله إلا الله هو العالم بأحوالهم، وهو الحكم العدل الذي يفصل بينهم.

ما نظر عبدٌ هذه النظرات، ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات، إلا اهتز القلب من خشية الله، وانشطر هيبةً لله تبارك وتعالى، وأقبل إلى الله تبارك وتعالى إقبال صدقٍ وإنابةٍ وإخبات.

ما رقّ القلبُ بسببٍ أعظم من سبب الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقاً لله عز وجل، وكان وقّافاً عند حدود الله، لم تأته الآية من كتاب الله ولم يأته حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال بلسان الحال والمقال: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

فما من عبدٍ عرف الله بأسمائه الحسنى، وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وهو يجير ولا يجار عليه، إلا وجدته إلى الخير سباقاً وعن الشر محجاماً، فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل وتنكسر من هيبته المعرفة بالله تبارك وتعالى، أن يعرف العبد ربه، وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب، يذكره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم، وتذكره النعمة والنقمة بذلك الحليم الكريم، ويذكره الخير الشر بمن له أمر الخير والشر سبحانه وتعالى، فمن عرف الله رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، والعكس بالعكس، فما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله وعذابه، وأجهلهم بنعيم الله ورحمته، حتى أنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكونون من رحمة الله، وأيئس ما يكونون من روح الله والعياذ بالله؛ لمكان الجهل بالله، فلما جهل معرفة الله جرؤ على حدوده، وجرؤ على محارمه، ولم يعرف إلا ليلاً ونهاراً وفسوقاً وفجوراً، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا الذي يعده هدفاً في وجوده ومستقبله.

لذلك أحبتي في الله المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، ولذلك كلما وجدت الإنسان يديم العبرة، ويديم التفكر في ملكوت الله وجدت في قلبه رقة، ووجدت في قلبه خشوعاً وانكساراً لله تبارك وتعالى.