تفسير: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم)
مدة
قراءة المادة :
31 دقائق
.
تفسير قول الله تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
الظن: اسم لما يحصل عن أمَارة، ومتى قويت أدَّت إلى العلم، ومتى ضعُفت جدًّا لم يتجاوز حد التوهم، ومتى قوي أو تصوَّر تصوُّرَ القوي استعمل معه (أنَّ) المشددة و(أَنْ) المخففة منها، ومتى ضعف استعمل أن المختصة بالمعدومين من القول والفعل فقوله: ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 46]، وكذا فمن اليقين: ﴿ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴾ [القيامة: 28]، وقوله: ﴿ يَظُنُّ أُولَئِكَ ﴾ [المطففين: 4]، وهو نهاية في ذمهم، ومعناه: ألا يكون منهم ظن لذلك؛ تنبيهًا أن أمارات البعث ظاهرة.
وقوله: ﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾ [يونس: 24] تنبيهًا أنهم صاروا في حكم العالمين لفرط طمعهم وأملهم، وقوله: ﴿ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ [ص: 24]؛ أي: علم، والفتنة ها هنا كقوله: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ [طه: 40]، وقوله: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ [1] أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: 87]، فقد قيل: الأولى أن يكون من الظن الذي هو التوهم؛ أي: ظن أن لن نضيق عليه، وقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 39]؛ تنبيهًا أنهم اعتقدوا ذلك اعتقادَهم للشيء المتيقَّن، وإن لم يكن متيقنًا، وقوله تعالى: ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ﴾ [آل عمران: 154]؛ أي: يظنون أن النبي لم يَصْدُقْهم فيما أخبرهم به، كما ظن أهل الجاهلية؛ تنبيهًا أن هؤلاء المنافقين في حيز الكفار، وظنوا أنهم اعتقدوا اعتقادًا كانوا منه في حكم المتيقنين، وعلى هذا قوله: ﴿ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [فصلت: 22]، وقوله: ﴿ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ [الفتح: 6]، هو مفسَّرٌ بما بعده، وهو قوله تعالى: ﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ ﴾ [الفتح: 12] - ﴿ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ﴾ [الجاثية: 32]، والظن في كثير من الأمور مذموم؛ ولذلك قال: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ﴾ [يونس: 36]، ﴿ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ ﴾ [الجن: 7])، وقرئ: ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ ﴾ [التكوير: 24]؛ أي: بمتهَم[2].
يقول تعالى ناهيًا عبادَه المؤمنين عن كثير من الظن؛ وهو التهمة والتخون للأهل والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، قال عمر بن الخطاب: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً.
وعن عبدالله بن عمر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبَك وأطيبَ ريحَك، ما أعظمَك وما أعظمَ حرمتَك، والذي نفسى بيده لحرمةُ المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمةً منك: مالِه ودمِه، وأن نظنَّ به إلا خيرًا))[3]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تجسَّسُوا، ولا تحسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يَخطِب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك))[4].
وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾؛ أي: على بعضكم بعضًا، والتجسس - غالبًا - يطلق في الشر، ومنه الجاسوس، وأما التحسُّسُ: فيكون في الخير، كما قال عز وجل إخبارًا عن يعقوب عليه السلام: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 87]، وقال الأوزاعي: التحسسُّ: البحث عن الشيء، والتجسس: الاستماع إلى حديث القوم، أو يتسمَّعُ على أبوابهم.
وقوله: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ فيه نهي عن الغِيبة، وقد فسَّرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((ذكرُك أخاك بما يكره))، قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته))؛ أي ظلمته، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسْبُك من صفيةَ كذا وكذا - تعنى: أنها قصيرة - فقال صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلتِ كلمة لو مُزجِتْ بماء البحر لمزجتْه))، قالت: وحكيت له إنسانًا (أي: قلدت إنسانًا بحركاته) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب أني حكيتُ إنسانًا وأن لي كذا وكذا))[5].
والغيبة محرَّمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحتُه، كما في الجرح والتعديل والنصيحة[6].
إن الصرح الشامخ من المؤاخاة والترابط والتعاون والتآلف الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم، بل وتعهده إلى آخر حياته - أعظم ما يدمره، وأكبر المعاول التي تأتي على آخره: هي الآفة الاجتماعية التي انتشرت بين المسلمين ومع الأسف، فقد تكون هذه الآفة بين الأشقَّاء وبين التجار، وقد تكون بين طلبة العلم، وهذه شرها وأقبحها وأكثرها ضررًا على الأفراد والمجتمعات؛ فالحذر كل الحذر من طلاقة اللسان للنَّيْل من أعراض الناس بالغيبة والنميمة.
واعلم - يرحمك الله - أن كلا الأمرين أو أحدهما إذا تفشَّى في مجتمع، لحقت به الفُرقة والشقاق والخلاف والتنازع، ثم يؤول المجتمع إلى الضعف والهوان، وهذا ما نعيشه في زماننا المعاصر، فنجد المسلمين وأهل العقيدة السليمة، قد أصابهم هذا الوباء القاتل، فتجدهم شِيَعا وأحزابًا، لكل فرد منهم جماعة، ولكل واحد منهم فئة يتعصب لها، ويوالي ويعادي من أجلها بغير برهان ولا دليل واضح قاطع الدلالة.
قال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الإسراء: 53].
فليعلم المسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو حريص على تفريق الإخوان، وقد صح الحديث في ذلك: ((إن الشيطان قد أَيِس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم))[7].
وقال تعالى ناهيًا عباده عن تتبع خطوات الشيطان: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ...
﴾ [النور: 21]، فالحذر كل الحذر من ذلك العدو المبين الذي أخذ الميثاق على نفسه بإغواء بني آدم.
ورحم الله عمر بن عبدالعزيز؛ فقد روي عنه أنه دخل على رجل فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك؛ فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك، فقال الرجل: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((وتجدون من شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه))[8]، فهم شر الخلق عند الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بشراركم؟))، قالوا: بلى، قال: ((المشَّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت))[9].
أخي الكريم، عندما تتأمل ألسنة الناس، ستجدها نارًا تحترق، وأفاعي تلدغ، فيا لها من ألسنة تزرع الهموم، وتثمر الغموم، وتحصد الشرور! إنه عضو صغير الحجم، ولكنه عظيم الأثر والمفعول، فكم من كلمة أنشبت حربًا بين الناس!
وكم من كلمة سوء نُقلَت بين الإخوان؛ فقطعت أواصر المحبة بينهم!
وكم من كلمة مزَّقت أسرة، وشردت أطفالاً، بعدما كانت السعادة ترفرف على ربوعهم!
وكم من كلمة كانت سببًا في قتل مؤمن، وهتك عرض مسلمة، ودمار للممتلكات العامة والأموال!
وكم من كلمة أخرجت المسلم من دائرة الإيمان والتوحيد إلى دائرة الكفر والشرك والطغيان!
وكم من كلمة سوء أذاعها المرجفون بين صفوف الشباب المسلم، فبدلت وحدتهم لشتات، وقوةَ كلمتهم لوهنٍ وذل وعار!
وكم من مسلم قال كلمة كتب له بها رضوان الله تعالى إلى يوم يلقاه!
وكم من كلمة خرجت لا يلقي صاحبها لها بالاً قذفته في نار جهنم أبعد ما بين المشرق والمغرب!
وكم من الويلات والآهات والجحيم صَلِيَتْ بها الأمة بسبب الغيبة والنميمة؛ لتساهل الناس بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)) [10].
أخي الكريم:
اعلم وفقني الله وإياك لكل خير، وهداك وسدد على الصراط المستقيم خطاك: أن الغيبة والنميمة من كبائر الذنوب وعظائمها؛ فقد توعَّد الله سبحانه وتعالى ونبيُّه صلى الله عليه وسلم مرتكبَهما بالعذاب الأليم، وبشره بالنَّكال والأغلال - أعاذنا الله وإياك - وما ذلك إلا لعظم آثار الغيبة والنميمة في المجتمعات، وخاصة المجتمعات التي تتميز بالالتزام والاستقامة على منهج الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه الطبقات هي التي يجدر بها الابتعاد عن هذه العظائم؛ لأن انزلاقها في هذه الشهوة له تَبِعات وآثار لا يُحمَد عُقباها على عامة المسلمين، فمتى ما نظر الناس إلى الملتزمين الذين هم بمثابة القدوة الحسنة الصالحة وهم الذين يتمثَّلون بهدي خير العباد عليه الصلاة والسلام، ثم يفاجأ العامة بأن أولئك المنتسبين للإسلام هم من أكثر خلق الله خلافًا وجدالاً ومِراء على المسائل الخلافية في الإسلام، ووسائل الدعوة والإرشاد - إلا من رحم الله - فلا شك أن هذه المفاجأة سوف تؤثر تأثيرًا مباشرًا على قناعة الناس ومدى استقبالهم وتأثرهم بالوعظ والتوجيه والإرشاد.
والله الذي لا إله غيره، إن القلب ليحزن! وإن العين لتدمع! والكبد يتفطر حزنًا وأسًى عندما يتفكر المسلم الغيور في هذه الحال المزرية التي وصل إليها بعض دعاة الإسلام وحماته؛ من طعن وشتم وسب، ولعن وغيبة ونميمة، وتهم باطلة، ومناظرات جوفاء لا طائل من ورائها، وكره وشحناء، وتدابر وقطيعة لأواصر المحبة والأخوة التي أمر الله تعالى بها، وتشاهد على صفحات الجرائد والمجلات إذاعةً للخلاف بين من ليس له في الأمر ناقة ولا جمل، وتأليف الرسائل والكتب في الرد على دعاة الإسلام المخلصين والتشنيع عليهم و...
و...
و...
كل هذا الشقاق والفُرقة حدثت، ومع الأسف من بعض أولئك المنتسبين لهذا الدين العظيم، الذي يأمر بكل ما يصلح بين الناس، ويزرع بذور المحبة والإخلاص والوفاء والتضحية والإيثار في تربة المجتمع المسلم، وما ذاك إلا بسبب فهمهم القاصر لمقاصد هذا الدين العظيم، وبسبب ضعف إدراكهم لدرجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهلهم بأن الاختلاف أنواع، فمنه ما هو سائغ كاختلاف التنوع فلا ينكر فيه على المخالف، ومنه ما هو غير سائغ وغير معتبر شرعًا كاختلاف التضاد.
وهناك آفات كثيرة ينبغي على المسلم أن يحفظ لسانه عنها، منها:
حفظ اللسان عن فضول الكلام وزيادته بما لا فائدة من ورائه.
حفظ اللسان عن الكلام فيما لا يعني ((من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))[11].
حفظ اللسان عن المراء والمجادلة؛ لما تورث من الضغائن والكراهية ((ما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل))[12].
حفظ اللسان عن الفحش والسب والطعن واللعن ((ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللَّعان، ولا الفاحش، ولا البذيء))[13]، والفحش هو التعبير عن الأمور المستقبحة بألفاظها الصريحة الدارجة على ألسنة العامة.
حفظ اللسان عن رمي المؤمن بالكفر، كمن يقول: هذا يهودي أو كافر؛ ((من قذف مؤمنًا بكفر، فهو كقتله))[14].
حفظ اللسان عن الاستهزاء والسخرية بالناس واحتقارهم ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم))[15].
حفظ اللسان عن كثرة المزاح، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن كثر ضحكه قلَّت هيبته، ومن مزح استُخِفَّ به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامُه كثُر سقطه، ومن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ وَرَعه، ومَن قلَّ ورعُه مات قلبُه).
حفظ اللسان عن الكذب خاصة في وقت المزاح، وأعظم الكذب على الإطلاق الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء عليه والتقوُّل عليه بغير علم.
حفظ اللسان عن شهادة الزور؛ وهي أن تشهد على شيء لم تكن حاضرًا فيه ﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30].
حفظ اللسان عن المن بالعطية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ [البقرة: 264].
الأسباب الباعثة على الغيبة:
تشفي الغيظ والغضب: بأن يقوم المغتاب بذكر سلبيات وسيئات الذي أغضبه، أو ضره بشيء من الأشياء أمام الملأ؛ تشفِّيًا وانتقاصًا وتصغيرًا لقدره أمام الناس.
موافقة الأصدقاء والجلساء ومجاملتهم؛ فإنه إن أنكر عليهم غيبتهم للناس استثقلوه؛ لذا فهو يجاملهم بالجلوس معهم، وليتذكر هذا الأخ الكريم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله، وكَلَه الله إلى الناس))[16].
إرادة رفع نفسه، وتنقيص غيره، وأن يسلط أنظار الناس واهتمامهم له ويصرف ذلك عن أخيه الذي اغتابه بأن يقول: فلان جاهل، أو فلان لا يحسن إدارة العمل، أو فلان ضعيف الشخصية، وما شابه ذلك مما يوحى بالنقيصة.
اللعب والهزل: فيذكر غيره بما يضحك الناس عليه على سبيل النكات والفكاهة، فليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له!))[17].
ومن الناس من أخذها كوظيفة يتكسب منها كالمسرحيات الكوميدية والأفلام والمسلسلات التي يحاكي بها شخصيات واقعية على شكل الدعابة والضحك والسخرية.
الحسد: وربما مُدِح شخص في المجلس وفيه أحد الحاسدين، فلا يجد سبيلاً إلا الاستهزاء بذلك الممدوح، وذكر بعض سلبياته وسيئاته وفضائحه.
كثرة الفراغ والشعور بالملل والسآمة: فلا يجد ما يشغل به نفسه سوى الانشغال بالناس وعيوبهم وذكر ما يكرهون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))[18].
التقرب لدى أصحاب الأعمال والمسؤولين عن طريق ذم العاملين معه، بشكل يوافق هوى المسؤول؛ وذلك ليرتقي إلى منصب أفضل، أو درجة أرفع.
العُجْب ورؤية النفس وعدم تذكُّر عيوبها ومثالبها وازدراؤه للخلق: فلا يرى الناس إلا مقصرين متهاونين بعيدين عن الحق، يرى القذاة في أعين الناس، ويرى نفسه أنه الكامل والشخصية المتميزة.
عدم التثبت في نقل الأخبار: وبما نُقل إليه خبر عن فلان من الناس، فظن فيه السوء، وأخذ بانتقاصه والهجوم عليه دون تثبت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما يسمع))[19].
من ذبَّ عن عرض أخيه:
أخي الحبيب، ألا تحب أن يقيض الله تعالى لك مَن يدافع عنك في الدنيا والآخرة، وأن يرد عن عرضك متى تطاول الناس عليه، إذًا أحبِبْ للناس ما تحب لنفسك، وخالق الناس بما تحب أن يخالقوك به، وعاملهم بما تود أن يعاملوك به؛ عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن رد عن عرض أخيه، كان له حجابًا من النار))[20]، وقال: ((مَن ردَّ عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة))[21] ، وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من امرئ يخذل امرأً مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن يُنتقَصُ فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))[22].
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
(اعلم: أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره باليد، فإن لم يستطع باليد ولا باللسان، فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة لشيخه أو غيره ممن له حق عليه، أو من أهل الفضل والصلاح كان الاعتناء بما ذكرنا أكثر)[23].
ما يباح من الغيبة:
اعلم رحمك الله أن الغيبة تباح لغرض شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهي ستة مواضع، قال الناظم ابن أبي شريف:
القدح ليس بغيبة في ستة
متظلم ومعرف ومحذِّرِ
ومجاهر فسقًا ومستفتٍ ومَن
طلب الإعانة في إزالة منكرِ
1- التظلُّم: فيجوز للمتظلم أن يتظلم للقاضي أو السلطان، أو من له ولاية يقدر على إنصافه من ظالمه، والدليل: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح (بخيل)، وليس يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ قال: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف))[24] ، فإن كانت هذه غيبة لا تباح، لأنكرها النبي صلى الله عليه وسلم على هند؛ لأنه لا يقر على باطل صلوات الله وسلامه عليه.
2- الاستفتاء: وذلك كأن تقول للمفتي أو العالم: ظلمني أخي أو فلان، وفعل كذا وكذا، فما هو الحق في ذلك؟ والأحوط: ألا يُعيِّن بالاسم، كأن يقول: ما حكم الشرع فيمن وقع عليه كذا وكذا؟ والتصريح جائز؛ لحديث عائشة رضي الله عنها السابق؛ فإنه يصلح للتظلم والاستفتاء معًا.
3- الاستعانة على تغيير المنكر أو رفع البلاء عن مسلم؛ لحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه))[25]، وفي رواية لمسلم: ((وأما أبو الجهم، فضرَّاب للنساء)).
4- تحذير المسلمين ونصحهم من أصحاب الشر، وممن له ضرر بالمسلمين، ومنها جرح المجروحين من الرواة والشهود؛ وذلك للذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ائذنوا له، بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة))، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟! قال: ((أي عائشة، إن شرَّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة مَن تركه الناس اتِّقاءَ فُحشه))[26].
ومن ذلك النصيحة لمن استشارك وطلب رأيك في زواج، أو مشاركة، أو جوار، أو غيرها، فالمستشار مؤتمن، ومنها كما ذكر النووي رحمه الله: إذا رأى متفقهًا يتردد على مبتدع وخاف من التضرر بأفكاره، أو رجلاً متولِّيًا لأمر من أمور المسلمين وهو غاشٌّ للمسلمين مضيِّع لمصالحهم، يتعامل بالرشوة وينبذ أهل الخير والصلاح ويتولى أهل الفساد والانحراف؛ فإنه يجوز لمن يستطيع أن يرفع أمره لمسؤوله أو من هو أعلى منه ليعزله أو يؤدبه؛ وذلك لرفع الحرج عن المسلمين، ويراعى في هذا الباب النية الخالصة للنصيحة وحدها؛ فإن كانت في ظاهرها النصح وفي الباطن التشهير والفضيحة، حَرُم ذلك.
5- المجاهرة بالفسق والبدعة: إذا كان الفاسق أو المبتدع مظهرًا لفسقه وبدعته وجب أولاً الإنكار عليه والنصح له بالتي هي أحسن، وأن يهجر ويذم على ذلك، أما إذا كان مستترًا بذنبه مستخفيًا، فإن هذا يستر عليه، لكن ينصح سرًّا، ويهجره مَن عرف حاله؛ حتى يتوب ويذكر أمره على وجه النصيحة، أما إن كان الفاسق يدعو إلى فسقه وكذلك المبتدع يدعو إلى بدعته وإلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، ويخاف أن يضل الناس بذلك - بيَّن أمره للناس؛ ليتقوا ضلاله، ويعلموا حاله، وذلك بعد الإعراض عن النصيحة، ويكون غرض الناصح أن يكفي الله المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم.
6- التعريف به: التعريف بإنسان معروفٍ عند الناس باسم أو لقب أو وصف معين، بحيث لا يعرف إلا به، كأن تقول: جاء الأعمش، أو الأعمى، أو الأعرج...
بشرط ألا يقصد بذلك التنقيص والاحتقار، وإلا حرم[27].
أمور يُظنُّ أنها ليست بغيبة، وهي غيبة:
1- قد يذكر المرء أخاه بما يكره ويغتابه، فإذا أنكر عليه الغيبة، قال: (أنا على استعداد أن أقول ذلك أمامه وأردَّ عليه)، فما الداعي للتكلم من خلفه إذا كان يستطيع فعلاً التكلم أمامه؟
2- قول القائل: (الحمد لله الذي عافنا) أو (ونعوذ بالله من قلة الحياء) أو (نسأل الله العافية)، ويكون ذلك إذا فهم السامع تنقيص المتكلم عنه، وهذا من أعظم ما يخفى على المسلم؛ لأنه يأتي بصيغة دعاء، وهو في الحقيقة انتقاص وسخرية بمن تكلم عنه.
3- قول بعض الكلمات التي تشعر بالنقيصة، مثل: (حضرة الأفندي) أو (جناب السيد) أو (الأخ المحترم).
4- قول القائل: "هذا صغير تجوز غيبيته"، وهذا باطل؛ فالغيبة محرَّمة.
5- التساهل في غيبة العاصي والجاهل وأهل الذنوب، وأكثر ما يوجد ذلك عند بعض الدعاة وأئمة المساجد والمصلحين، فهم بقصد الإنكار والتحذير يقعون في هذه المزالق، وليس ذلك على الإطلاق، فإذا كانت الغيبة في أمر من الفساد قد ذاع عن ذلك العاصي، فلا بأس مع عدم التصريح باسمه.
6- التعريض مثل التصريح، والفعل مثل القول والإشارة والإيماء والغمز بالعين ومد الشفاه والتلويح بالكف على شكل الازدراء والتحقير.
أخي العزيز، اعلم أن الغيبة لا تكون إلا للشخص الغائب، أما الحاضر فتسمَّى سبًّا وشتمًا، وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن كل ذلك.
غيبة غير المسلم:
قال ابن المنذر في قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الغيبة: ((ذكرك أخاك بما يكره)): فيه دليل على أن من ليس أخاك في الإسلام لا غيبة له؛ كاليهودي أو المجوسي، ومَن أخرجته بدعته عن الإسلام؛ كالبهائية والقاديانية والقرامطة.
أما الذمي (وهو الذي يعيش في حماية المسلمين وعهدهم)، فتحرم غيبته؛ لأنه معصوم المال والدم والعرض كما هو معلوم...
وأما المبتدع فإن كفر فهو كالحربي: غيبته ليس بحرام، وإلا فهو كالمسلم، وأما ذكره ببدعته فليست مكروهة.
وينبغي إذا عرضت للمسلم غيبة أن يتفكر في عيوب نفسه، ويشتغل بإصلاحها، ويستحي أن يعيب وهو معاب، كما قال بعضهم:
فإن عبت قومًا بالذي فيك مثله
فكيف يعيب الناسَ من هو أعورُ
وإن عبت قومًا بالذي ليس فيهم
فذلك عند الله والناس أعظمُ
ويجب التوبة من الغيبة واستحلالها ممن اغتابه، ويطلب منه الاستغفار، فإذا خشي حصول مفسدة فإنه يتجنبه ويكتفي بالدعاء.
أقوال طيبة ومأثورة عن السلف رحمهم الله تعالى:
• قال الحسن البصري: والله لَلغيبة أسرع في دين الرجل من الأكَلة في الجسد.
• قال عمر بن الخطاب: عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء.
• قال ابن عباس: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك، فاذكر عيوبك.
• وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب آخر فقال له: إياك والغيبة؛ فإنها إدام الكلاب.
• ويروى عن الحسن البصري أن رجلاً قال له: تغتابني؟! فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
• وروي عن ابن المبارك أنه قال: لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق بحسناتي.
• وقال آخر: إن ضعفت عن ثلاث فعليك بثلاث: إن ضعفت عن الخير فأمسك عن الشر، وإن كنت لا تستطيع أن تنفع الناس فأمسك عنهم ضرك، وإن كنت لا تستطيع أن تصوم فلا تأكل لحوم الناس.
المرء إن كان عاقلاً ورعًا
أشغله عن عيوب غيره ورعُه
كما العليل السقيم أشغله
عن وجع الناس كلِّهم وجعُه[28]
[1] فظن هنا بمعنى اليقين؛ أي: تيقن أن الله لن يضيق عليه، وهو حسن ظن الأنبياء بالله تعالى.
[2] المفردات في غريب القرآن - الراغب الأصفهاني ص: 320.
[3] أخرجه ابن ماجه رحمه الله تعالى في سننه.
[4] رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم رحمهم الله تعالى - ص.
ج رقم 2679.
[5] مختصر تفسير ابن كثير - الصابوني ج2 ص: 364.
[6] مختصر تفسير ابن كثير - الصابوني ج2 ص: 364.
[7] صحيح الجامع للألباني رقم 1651.
[8] رواه أحمد والبخاري ومسلم رحمهم الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه - ص.
ج رقم 2916.
[9] صحيح الأدب المفرد للبخاري رحمه الله تعالى ص: 323.
[10]رواه الطبراني رحمه الله تعالى، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم: 534.
[11]رواه الترمذي وابن ماجه رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه - ص.
ج رقم 5911.
[12] رواه الترمذي رحمه الله تعالى عن أبي الدرداء رضي الله عنه - ص.
ج رقم: 5633
[13] رواه أحمد وابن ماجه والحاكم رحمهم الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما - ص.
ج رقم :5381.
[14] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
[15] رواه مسلم رحمه الله تعالى.
[16] رواه الترمذي رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها - ص.
ج رقم 6097.
[17] رواه أحمد وأبو داود وغيرهما رحمهم الله تعالى - ص.
ج رقم 7136.
[18] رواه البخاري والترمذي وابن ماجه رحمهم الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[19] رواه أبو داود والحاكم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه - ص.
ج رقم 4480.
[20] رواه البيهقي رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه - ص.
ج رقم 6263.
[21] رواه أحمد والترمذي رحمهما الله تعالى - ص.ج رقم 6262.
[22] رواه أحمد وأبو داود رحمهما الله تعالى عن جابر وأبي طلحة رضي الله عنهما - ص.
ج رقم 5690.
[23] الأذكار النووية ص: 294.
[24] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
[25] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
[26] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى وغيرهما.
[27] أمسك عليك لسانك - الشيخ / ناصر الشمري ص 48 - 51.
[28] نفس المصدر السابق ص 58، 59.