صراع مع الشهوات [1-2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

أيها الإخوة والأخوات .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيا الله هذه الوجوه وحرمها على النار، ونضرها بالنظر إلى المليك الغفار، في جنة المأوى ودار الأبرار، حياتنا فتن ومجاهدة وشهوات ومعركة، ميدان الشهوات كبير والصراع فيه خطير، إنها معركة الإنسان مع غريزته المستترة في أغوار نفسه، والهالكون في أغوار هذه المعركة من البشر كثير ، والناجون قليل قليل، يجتمع للمنتصر في معركته إقامة المروءة .. صون العرض .. وحفظ الجاه .. راحة البدن .. قوة القلب .. طيب النفس .. إقامة الفؤاد على الدين .. انشراح الصدر .. قلة الهم والغم والحُزن .. عز المكانة .. نضرة الوجه .. مهابة في قلوب العباد .. زوال الوحشة .. قرب الملائكة .. بعد الشياطين .. ذوق حلاوة الطاعة .. طعم حلاوة الإيمان .. زيادة في العقل والفهم.. وهكذا فضائل الدنيا وعظيم فضائل الآخرة.

لقد حذرنا سلفنا من خطورة الشهوة، قال يحيى بن معاذ: "من أرضى الجوارح باللذات فقد غرس لنفسه شجر الندامات".

وقال عبد الصمد: "من لم يعلم أن الشهوات فخوخ فهو لعاب".

وقال ابن القيم رحمه الله: ولما كانت طريق الآخرة وعرة على أكثر الخلق لمخالفتها لشهواتهم، ومباينتها لإراداتهم ومألوفاتهم؛ قل سالكوها، وزهدهم فيها قلة علمهم، وما هيئوا له وما هيئ لهم فقل علمهم بذلك، واستلانوا مركب الشهوة والهوى على مركب الإخلاص والتقوى، وتوعرت عليهم الطريق، وبعدت عليهم الشقة، وصعب عليهم مرتقى عقباتها وهبوط أوديتها وسلوك شعابها، فأخلدوا إلى الدعة والراحة، وآثروا العاجل على الآجل، وقالوا: عيشنا اليوم نقد وموعودنا نسيئة، فنظروا إلى عاجل الدنيا وأغمضوا العيون عن آجالها، ووقفوا مع ظاهرها ولم يتأملوا باطنها، ذاقوا حلاوة مبادئها وغاب عنهم مرارة عواقبها، اشتغلوا عن التفكر وقال مغترهم بالله وجاحدهم لعظمته: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به.

وقد حذرنا الله تعالى من خطر الشهوات، فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] الآية، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) وقال: (اتقوا النساء فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).

وهنا يأتي السؤال ويقول: لماذا خلقت الشهوة أصلاً؟ ما هي الحكمة من وجودها؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجيباً: إن الله خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، فإن ذلك في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا، وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل، فإذا استعين بهذه القوى على ما أمرنا كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمةً مطلقة، وإن استعملنا الشهوات فيما حظره علينا بأكل الخبائث في نفسها، أو كسبها كالمظالم، أو بالإسراف فيها، أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا؛ كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته.

قال تلميذه ابن القيم: اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن جعل فيها -أي: في النفس- بواعث ومستحثات تؤزه أزاً إلى ما فيه قوامه وبقاؤه ومصلحته، فلو لم يوجد شهوة هل كان هناك زواج وأولاد وبقاء النسل البشري؟

وقال مذكراً ليتأمل المسلم كيف جمع الله -سبحانه وتعالى- بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه.. قال: جعل الله فينا أمرين: الشهوة والعقل، الشهوة لهذه الحكم، والعقل ليتحكم في الشهوة، ويصرفها فيما أراد الله.

الوعيد لمن صرف الشهوة في الحرام

إذاً: الشهوة نعمة أنعم الله بها على المخلوق، وهي ابتلاء يبتلي الله بها عباده لينظر أيطيعونه أو يطيعون الشهوة، وإنما المحظور صرف الشهوة في الحرام.. ما هو الوعيد على صرف الشهوة في الحرام؟ ما هي الأشياء التي تجعل الإنسان يخاف من الحرام؟

لقد توعد الله تعالى أهل الفجور والفساد بالعذاب الشديد يوم القيامة، فقال: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68]، وقبل هذا العذاب في النار يتعرض الزناة والزواني للعذاب في القبر، ويحدثنا صلى الله عليه وسلم عن شيء مما يعذب به هؤلاء في قبورهم: (فقال لي الملكان: انطلق انطلق؛ فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فإذا فيه لغط وأصوات، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم -من مكان الجريمة، أين مكان الجريمة؟ الأعضاء التناسلية، أين هي؟ تحت، من أين يأتيهم؟ من تحت- فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: صاحوا- وارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت له: وما هؤلاء؟ قال: أما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني) هذا بعض ما يتعرض له الزناة من العقوبة، فمن يطيق ذلك؟!

وليعلم الشباب والفتيات الذين لم يصلوا إلى ممارسة الفاحشة أن المقدمات من النظر والكلام واللمس هي الخطوات الأولى في طريق الفاحشة، وأن الجرأة عليها تقود إلى ما بعدها..

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتـها     من الحرام ويبقى الوزر والعار

تبقى عواقب سوء في مغبتـها     لا خير في لذة من بعدها النار

كل شهوة تستدعي ما دونها حتى يهلك الإنسان، لقد أقسم الشيطان أمام الله تعالى أن يسعى لإغواء عباده جاهداً في ذلك، قال تعالى عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17] إنه يسعى بكل وسيلة لإضلالنا وإغوائنا وإيقاعنا في الصغائر والكبائر.

لقد أخبرنا الله عن الذين فروا في أحد أنه استزلهم الشيطان، قال تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ [آل عمران:155] وهكذا الذين يسقطون في فخاخ الشهوة إنما استزلهم الشيطان، يستدرجك لإيقاعك في الصغيرة.. نظرة .. كلمة .. مغازلة.. ثم يقول بعد ذلك لك: استمر، ثم تقع الخسارة الكبرى ويقع الانحراف.

إذاً: الشهوة نعمة أنعم الله بها على المخلوق، وهي ابتلاء يبتلي الله بها عباده لينظر أيطيعونه أو يطيعون الشهوة، وإنما المحظور صرف الشهوة في الحرام.. ما هو الوعيد على صرف الشهوة في الحرام؟ ما هي الأشياء التي تجعل الإنسان يخاف من الحرام؟

لقد توعد الله تعالى أهل الفجور والفساد بالعذاب الشديد يوم القيامة، فقال: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68]، وقبل هذا العذاب في النار يتعرض الزناة والزواني للعذاب في القبر، ويحدثنا صلى الله عليه وسلم عن شيء مما يعذب به هؤلاء في قبورهم: (فقال لي الملكان: انطلق انطلق؛ فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فإذا فيه لغط وأصوات، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم -من مكان الجريمة، أين مكان الجريمة؟ الأعضاء التناسلية، أين هي؟ تحت، من أين يأتيهم؟ من تحت- فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: صاحوا- وارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت له: وما هؤلاء؟ قال: أما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني) هذا بعض ما يتعرض له الزناة من العقوبة، فمن يطيق ذلك؟!

وليعلم الشباب والفتيات الذين لم يصلوا إلى ممارسة الفاحشة أن المقدمات من النظر والكلام واللمس هي الخطوات الأولى في طريق الفاحشة، وأن الجرأة عليها تقود إلى ما بعدها..

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتـها     من الحرام ويبقى الوزر والعار

تبقى عواقب سوء في مغبتـها     لا خير في لذة من بعدها النار

كل شهوة تستدعي ما دونها حتى يهلك الإنسان، لقد أقسم الشيطان أمام الله تعالى أن يسعى لإغواء عباده جاهداً في ذلك، قال تعالى عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17] إنه يسعى بكل وسيلة لإضلالنا وإغوائنا وإيقاعنا في الصغائر والكبائر.

لقد أخبرنا الله عن الذين فروا في أحد أنه استزلهم الشيطان، قال تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ [آل عمران:155] وهكذا الذين يسقطون في فخاخ الشهوة إنما استزلهم الشيطان، يستدرجك لإيقاعك في الصغيرة.. نظرة .. كلمة .. مغازلة.. ثم يقول بعد ذلك لك: استمر، ثم تقع الخسارة الكبرى ويقع الانحراف.

من عقوبة الشهوات المحرمة: سوء الخاتمة، قال صلى الله عليه وسلم: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).

كان السلف يخشون سوء الخاتمة، بكى سفيان الثوري ليلةً إلى الصباح، فقيل له: أكل هذا خوفاً من الذنوب؟ قال: [الذنوب أهون! إنما أبكي خوفاً من الخاتمة]..

إن التعلق بالشهوات واستيلاؤها على القلب من أكبر أسباب سوء الخاتمة؛ فإن هذه الأشياء التي تشغل بال الإنسان من الحرام، وانشغاله بها وانهماكه، إذا نزل به الموت سيطفو على السطح، وسيظهر على لسانه، وحين تخونه قواه وتخور يطفو ما كان مخبأً من هذه الشهوات المحرمة.

يروى أن رجلاً عشق فتى واشتد كلفه به، وتمكن حبه من قلبه حتى مرض ولازم الفراش بسببه، حتى أوشك على الهلاك، وأراد أن يراه فلم يستطع، فأسقط في يده وانتكس، وبدت عليه علامات الموت، فجعل يقول والموت نازل به:

أسلم يا راحة العليل     ويا شفاء المدنفِ النحيل

رضاك أشهى إلى فؤادي     من رحمة الخالق الجليل

فقيل له: يا فلان! اتق الله. قال: قد كان. فما أن جاوز باب داره حتى سمعوا صيحة الموت.

وآخر كان واقفاً بإزاء داره، فمرت به فتاة لها منظر جميل، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ وكانوا من قديم يغتسلون في الحمامات العامة، فأغواه الشيطان فقال: هذا حمام منجاب، وأشار إلى باب داره، فدخلت المسكينة وهي لا تدري ما الأمر، فأغلق الباب فأسقط في يدها، لكنها كانت ذكية، فأظهرت البشر والسرور، وقالت: يصلح أن يكون معنا ما يطيب عيشنا من طعام، فخرج وترك الدار ولم يغلقها فهربت بذكائها وحسن تدبيرها، وهكذا الفتاة لو تآمروا عليها فهي صالحة وإيمانها يدفعها للنجاة، فلما رجع ووجدها قد هربت هام وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطريق كالمجنون، ويقول:

يا رب قائلة يوماً وقـد تعبت     أين الطريق إلى حمام منجاب

فبينما هو يوماً على ذلك إذ سمع صوتاً يقول له:

هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها     حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب

فازداد هيامه حتى حضرته الوفاة، فكان آخر كلامه من الدنيا:

يا رب قائلة يوماً وقـد تعبت     أين الطريق إلى حمام منجاب

ولم ينطق بالشهادة، حمانا الله من مثل هذا المصير!

إن هذه الشهوات المحرمة تخرج العبد من محبة الله، وتخرج محبة الله من قلب هذا الضال، والضدان لا يجتمعان: محبة الشهوات ومحبة الرحمن، فإذا امتلأ القلب من محبة الشهوات فماذا يبقى له نصيب من محبة الرحمن؟ إنه خيار واحد، حدد مصيرك واختر طريقك، وإذا أردت محبة الله ولذة الإيمان فلن تحصل إلا بطرد نصيب الشيطان.

إن الذين تستغرقهم الشهوات المحرمة ويتحولون إلى عبيد لها تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فيخضعون، وإذا رأى الواحد هذه المرأة التي هام بها وأحبها يفعل مثلما فعل ذلك الذي أحب عزة فقال فيها شركاً وكفراً:

رهبان مدين والذين عهدتـهم     يبكون من حذر العقاب قعوداً

لو يسمعون كما سمعت حديثها     خروا لـعزة ركعاً وسجوداً

نعوذ بالله من الخذلان!

قال ابن القيم رحمه الله في حال هؤلاء: فلو خُيِّر بين رضاه -رضا المعشوق- ورضا الله لاختار رضا المعشوق على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه.. يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة إذا زاد شيء.

قد اتخذه وراءه ظهرياً، وصار لذكره نسياً.. إن قام في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه وفرح بها، خفيفةً لا يستثقلها ولا يستطيلها، ولو نظرت في أشعار العاشقين والعاشقات وما يغني به المغنون والمغنيات لترى الأدلة على ذلك، اقرأ ما يكتبه هؤلاء من الأبيات والعبارات، وتأمل واعتبر بما يصنع الشيطان في أهل العشق والشهوة المحرمة.. هل يستحق هذا الهوى والغرام أن تختصر فيه الحياة كلها؟

مخاطر الأمراض والأوجاع في الدنيا..

إن من سنة الله تعالى -أيها الإخوة والأخوات- معاقبة من عصاه في الدنيا قبل الآخرة، ولمن يأتون الفواحش عقوبة من النوع الخاص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) حديث صحيح.. وقد تحققت هذه السنة الربانية في عصر الفحش والفجور الذي نعيش فيه، فهؤلاء مصابون بالزهري والسيلان، ثم بالأخطر من ذلك بالهربز والإيدز، أعاذنا الله من هذا!

يبلغ الذين ينقل إليهم مرض الإيدز يومياً على مستوى العالم عشرة آلاف، في كل دقيقة يصاب ستة دون سن الخامسة بالمرض، وفي عام ألفين لقي ما يقارب ثلاثة ملايين شخص من حاملي المرض مصرعهم، وتسبب الإيدز في إضافة ثلاثة عشر مليوناً ومائتي ألف طفل إلى قائمة الأيتام، وعدد الذين أصيبوا به في عام ألفين أكثر من أربعة وثلاثين مليون شخص، أما الآن فقد وصلوا إلى خمسين مليوناً من الأشخاص، ثلثهم من الشباب بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين.. بقي أن تعلم أن ثلاثةً (73%) من هؤلاء من الذين يعملون عمل قوم لوط..!

وها هو أحد المصابين به وهو السينمائي الأمريكي روك هيدسون، يقول على فراش مرض الإيدز، فراش الموت: أنا في انتظار القدر، إنه يدق بابي، أستمع إلى صوته من أعماقي، لم أكن أود أن أتعذب هكذا وأنا في هذا المرض سرطان العصر، ورغم ابتسامات الكثيرين وتهنئتي بالتماثل للشفاء، ومحاولاتهم رفع معنوياتي، إلا أنني على موعد مع القدر، إنه يدق بابي في اللحظات الأخيرة.

وها هو أحد الشباب الذي كان يعاشر أحد الفتيات بالحرام خارج البلاد، لما أراد أن يعود وجد ورقةً قد كتب عليها: مرحباً بك عضواً في نادي الإيدز. فضاق عليه الأمر وصعق، يعودون من الإجازات فيعانون الأوجاع والالتهابات، فيعملون التحليلات ويكتشفون النتائج الفاجعات؛ فيعتزلهم الناس أشد من اعتزال الأجرب، نعوذ بالله من هذا المسلك وهذا المصير!

من عقوبة الشهوات المحرمة والولوغ فيها: أن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية وسنة ربانية لا تتخلف أن يجزي الله العامل من جنس عمله، انظر إلى من يطلق العنان لشهوته دون وازع أو ضابط، أتظنه يسلم؟ لا، فجزء يسير من عقوبته أن يدخل في هذه القاعدة، كما قال الشافعي :

عفوا تعف نساؤكم في المـحرم     وتجنبوا ما لا يليق بمسلم

إن الزنا دين فإن أقرضته     كان الوفا من أهل بيتك فاعلم

من يزن يزنَ به ولو بجداره     إن كنت يا هذا لبيباً فافهم

وفي رواية:

يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعـاً     سبل المودة عشت غير مكرمِ

لو كنت حراً من سلالة ماجدٍ     ما كنت هتاكاً لحرمة مسلمِ

من يزن يزن به ولو بجداره     إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ

إذاً: من يتجرأ على انتهاك عرض الآخرين معرض أن يرى ذلك في ابنته أو أخته، ومن لا يبالي بمحارم الله قد تخونه زوجته، ومن تتجرأ على ذلك معرضة أن تراه في بناتها ونسلها.. جنبنا الله كل مكروه!

فحافظ أخي وحافظي أختي على هذا العرض، واعلموا أنه قد يجازى الإنسان من جنس عمله فيقع لأهله ما أوقعه بالناس.

أما قبح الفاحشة وخطرها وعظيم ضررها فقد قال ابن القيم رحمه الله في فصل جامع لمضار الزنا: والزنا يجمع الشر كله؛ من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تكاد تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة على الأهل، فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرام، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.

ومن موجباته غضب الرب بإفساد حرمه وعياله، ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بهذا لقابله أسوأ مقابلة.

ومنها: سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين.

ومنها: ظلمة القلب وطمس نوره، فتذهب حرمة الفاعل، وتسلب أحسن الأسماء من أسماء العفة والبر والعدالة، ويتصف بعكسها كاسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن، يسلب اسم المؤمن.. (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فإذا زنا العبد خرج من الإيمان ولم يخرج خروجاً كلياً إلا بالكفر، ويعرض نفسه لسكنى التنور، يفارق الوصف الطيب.. والطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور:26] ويلزمه الوصف الخبيث .. الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26]، وقد حرم الله على الجنة كل خبيث، وجعلها مأوى الطيبين، فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [النحل:32].. وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] والزناة من أخبث الخلق، وقد جعل الله جهنم دار الخبثاء، ويوم القيامة يميز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض فيركمه في جهنم.

ومن عقوبات الزاني والزانية: الوحشة التي يجعلها الله في هذه القلوب الموحشة، فتعلو الوجه، ويزول الأنس.. هذه الوحشة التي يراها حتى أقرب الناس إليه.. تفوح رائحة الزنا منه.. ضيق الصدر وما يحصل له من الغم والهم بسبب هذه المعصية.. معذب يقول: في بطنها، في أحشائها ولد مني، ما هو واجبي؟ ماذا علي؟ هل علي نفقته؟ هل علي تربيته؟ هل علي أن أضيفه لاسمي؟ ماذا أفعل؟ لقد تورطت، ويعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن، وإذا كان الله يعاقب لابس الحرير في الدنيا بأن يحرمه منه في الآخرة، وشارب الخمر في الدنيا بأن يحرمه منه في الآخرة إلا إذا تاب، وكذلك الزاني معرض للحرمان من الحور العين.

هذا الزنا يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة العيال.. هناك أناس ضيعوا الزوجات والأولاد بسبب السفر إلى أماكن الحرام، زوجته تستغيث وتقول: هل يجب علي أن أطلب الطلاق؟ هل يجوز لي الفراق؟ لم أعد أتحمل.. أأسكن؟ أأعاشر شخصاً في الفراش وأنا لا أعلم هل ينقل إلي مرضاً في هذا الوقاع أم لا؟ ما حال أولادي؟ هل انتقل إليهم المرض أم لا؟ وهكذا يكون العذاب.. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].

أيها الإخوة.. نحن الآن في عصر الشهوات، نحن الآن في عصر تفجر الشهوات، نحن الآن في عصر الإباحية، الحياة الغربية التي طغت في هذا الزمان، تجارة الدعارة والإباحية في أمريكا رائجة جداً.. ثمانية مليار دولار لها أواصر قوية تربطها بالجريمة المنظمة، تجارة الدعارة بالكتب والمجلات، وأشرطة الفيديو، والقنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت، والنوادي الليلية، وغير ذلك، تجارة الدعارة ثالث أكبر مصدر للجريمة في أمريكا، في الوقت الحاضر يوجد أكثر من تسعمائة دار سينما متخصصة للأفلام الإباحية، وأكثر من خمسة عشر ألف مكتبة ومحل فيديو تتاجر بالأفلام والمجلات الإباحية.

بعد القمار والمخدرات الفاحشة، أماكن الحرام في أمريكا أكثر من مطاعم ماكتونلد بثلاثة أضعاف، كانوا فيما مضى يحاربونها بالقوانين، لكن نجحت الاستديوهات في تخفيف المراقبة على الأفلام وتغيير مفاهيم الإباحية؛ حتى صارت كثيرٌ من الأفلام التي كانت تحت بند "x" قد أعيد تقويمها اليوم لتصبح تحت بند "r" الأخف؛ وبذلك تعرض على الكبار والصغار، وإلغاء قانون العفة في الاتصالات مما نجحوا به أولياء الشهوات هناك؛ فزالت كثير من القيود القانونية.

أمريكا أول دولة في العالم في إنتاج المواد الإباحية، تصدر سنوياً مائة وخمسين مجلة إباحية بثمانية آلاف عدد، تجارة تأجير الأفلام زادت من خمسة وسبعين مليون دولار في عام (1985م) إلى ستمائة وخمسة وستين مليون دولار في عام (1996م)..!

هؤلاء الناس الذين اتبعوا الشهوات وأرادوا نشرها في العالم، وترسل هذه المغلفات بألوان معينة -بزعمهم- للحماية، أنشئت هذه المواقع العجيبة، حتى أن إحدى شركات الإباحية تدعي أن أربعة ملايين وسبعمائة ألف زائر يزور موقعهم أسبوعياً!! قامت بعض الشركات بدراسة عدد الزوار في صفحات الدعارة والإباحية في الإنترنت، ففي شركة " ويب سايد ستوري" بعض هذه الصفحات يزورها مائتان وثمانون ألفاً وأربعمائة وثلاثون زائراً في اليوم الواحد.. حسب إحصائيات هذه الشركة المسئولة عن الإحصائيات، وهناك أكثر من مائة صفحة مشابهة تستقبل كل صفحة أكثر من عشرين ألف زائر يومياً، وأكثر من ألفي صفحة مشابهة تستقبل أكثر من ألف وأربعمائة زائر يومياً.

هناك أحد المواقع استقبلت خلال سنتين ثلاثةً وأربعين مليوناً وستمائة وثلاثة عشر ألفاً وخمسمائة زائر، وواحدة من هذه الجهات تزعم أن لديها أكثر من ثلاثمائة ألف صورة خليعة تم توزيعها على الشبكة أكثر من مليار مرة، وقام باحثون في جامعة "كارنيجي ميلُن" بإجراء دراسة إحصائية على تسعمائة وسبع عشرة ألف وأربعمائة وعشر صور من الصور استرجعت ثمانية ونصف مليون مرة من ألفي مدينة في أربعين دولة، نصف الصور المستعادة هي صور إباحية، ثلاثة (83%) من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية "نيوز جروبز" في الإنترنت صور إباحية، مؤسسة "زوجبي" في مارس عام (2000م) وجدت أن أكثر من (20%) من سكان أمريكا -وليس من المستخدمين في أمريكا - يزورون المواقع الإباحية.

المواقع الإباحية لا تمثل إلا (1%) من عدد المواقع الكلية في الإنترنت، لكن نحو (90%) من المشتركين في الإنترنت يدخلون على هذا الـ(1%).

مواقع الحرام تبدأ -كما يقولون هم- بفضول بريء، ثم تتطور إلى إدمان مع عواقب وخيمة؛ كإفساد العلاقات الزوجية وتبعات الشر، يغلقون الأبواب على أنفسهم.. الزوجات يشتكين من الأزواج، وتنتهي العملية بشراء الدش واقتناء القنوات الخليعة، وهذه الرسيفرات المبرمجة والمشفرة، والبطاقات، هذه القضية التي وجدت اليوم طريقاً للربح بثمانية عشر مليار دولار.. التجارة الإلكترونية (8%) منها دعارة.. تسعمائة وسبعون مليون دولار حجم التجارة يتوقع أن يرتفع إلى ثلاثة مليارات دولار في عام (2003م).. حجم التجارة الإباحية على الشبكة لم يسبق في فترة من تاريخ العالم أن وصلت القضية إلى هذه الدرجة.. (63%) من المراهقين يرتادون صفحات وصور الدعارة ولا يدري أولياؤهم عنهم بأنهم يدخلون إليها.. أكثر مستخدمي المواد الإباحية تتراوح أعمارهم ما بين سن اثنتي عشرة سنة وسبع عشرة سنة!

ثم يصدرون الإباحية إلينا.. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]، الغرب في زماننا بقيمه الفاسدة وأمراضه الخبيثة ومبادئه الذميمة لم يكتفِ بإفشاء الرذائل والمنكرات واستدعاء غضب الجبار، لكن يتمادى إلى محاولة تصدير هذه المصائب إلينا؛ ولذلك نجد جمعية مراقبة حقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتس" تذم وتنكر أية محاولات لدول الخليج العربي لحجب الإنترنت، ويدعونها إلى الانفتاح والحرية!!

أما القنوات الفضائية الإباحية التي تعرض الأفلام والأغاني الجنسية، وتعرض الدعايات الجنسية والاتصالات الهاتفية المباشرة المصورة، وما يسمى بخطوط الصداقة، والغرف الجنسية، وأفلام محاكاة الواقع بالمناظير، والغرف المظلمة، والمسارح، وحفلات الفنادق، وغرف التأجير، والشقق المفروشة، وسفن الدعارة، اليخوت الراسية على الموانئ العائمة؛ شيء هائل وشر مستطير، زد على ذلك أسطوانات الليزر المدمجة، والمجلات، وما يتبادله الطلاب في المدارس من الدسكات، وما يرسل بالبريد الإلكتروني.. النكت القذرة.. رسائل الجوال المهيجة للغرائز.. الكلام الفاحش... لقد صار البلاء عاماً أيها الإخوة!!

وما حول الشباب والصغار والكبار اليوم جنس في جنس؛ عورات مكشوفة .. أعمال محرمة .. أوحال .. قاذورات .. مستنقعات .. عفن .. قرف .. أشياء تدعوا أصحاب الفطر السليمة للتقيؤ والمرض والهم والغم لما آل إليه الأمر وصار إليه الحال، والله المستعان وإليه المشتكى وعليه التكلان!

وهنا يأتي السؤال الكبير: كيف الخلاص من هذا الفساد الهائل والحرام الخطير والشر المستطير؟

والجواب: إن شريعتنا وإسلامنا وديننا الحنيف فيه العلاج لكل مشكلة ومرض ومعضلة، وهذه نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، فتعالوا نتعرف على قواعد المواجهة، قواعد الصراع مع الشهوات، كيف نتغلب وكيف نفوز:

القاعدة الأولى: مراقبة الله تعالى

القاعدة الأولى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23].. إني أخاف الله.

إن الإيمان بالله والخوف منه صمام الأمان العاصم للعبد من مواقعة الحرام والانسياق وراء الشهوات .. مَعَاذَ اللَّه [يوسف:23] قالها يوسف عليه السلام فأعاذه الله وصرف عنه الكيد.. إني أخاف الله، يقولها الذين يستظلون بظل العرش في يومٍ لا ظل إلا ظل الرحمن.. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) قال الحافظ ابن حجر : والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه؛ إما ليزجرها عن الفاحشة، أو ليعتذر إليها ويقيم الحجة، ويحتمل أن يقولها بقلبه.

وقال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوفٍ من الله تعالى ومتين تقوى وحياء، ولا تصدر مثل هذه الكلمة وما كان من جنسها: مَعَاذَ اللَّه [يوسف:23] في ذلك الموطن إلا ممن راقب الله في سره وفي علانية أمره، وخافه في الغيب والشهادة.. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ [ق:31-33] أين؟ أين خشي الرحمن؟ بِالْغَيْبِ [ق:33] إذا غاب عن الناس وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:33-34].

فالمؤمن إذا تربى على مراقبة الله، ومطالعة أسرار أسمائه وصفاته كالعليم والسميع والبصير والرقيب والشهيد والحسيب والحفيظ والمحيط والمهيمن؛ أثمر ذلك خوفاً من الله في السر والعلانية، وانتهاءً عن المعصية، وصدوداً عن الشهوة المحرمة.. قال الشعبي رحمه الله في معنى "المهيمن": المطلع على خفايا الأمور وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً. ويجب على العبد أن يتذكر لحظة عرض الشهوات عليه هذه النصوص التي جاءت في رقابة الله عليه، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235].. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب:52].. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4].. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

وإذا خلوت بريبة في ظلمة     والنفس داعية إلى العصيان

فاستحي من نظر الإله وقل لـها     إن الذي خلق الظلام يراني

أيها المسلم:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل     خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة     ولا أن ما تخفي عليه يغيب

فالمؤمن إذا تربى على معاني هذه الآيات السابقة وعمل بمقتضاها أصبح إنساناً سوياً، ونشأ شاباً تقياً، لا تستهويه مادة ولا تستعبده شهوة، ولا يتسلط عليه الشيطان، ولا تعمل النفس الأمارة بالسوء فيه، بل يصرخ إن دعته الشهوة: إني أخاف الله، وإذا وسوس إليه الشيطان صرخ فيه: إنه ليس لك علي سلطان. وإذا زين له قرناء السوء شيئاً في هذا من الفاحشة أسكتهم بقوله: لا أبتغي الجاهلين.

من فوائد قول الله عن يوسف: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً [القصص:14] قال: إنما أعطاه ذلك إبّان غلبة الشهوة لتكون له سبباً للعصمة.

إن هذا العبد المتربي على الخوف من الله جل وعلا هو الذي تؤثر فيه كلمة "اتق الله" إذا قارب الحرام يوماً وجاءت "اتق الله" أثرت ونفعت، تأمل ذلك الرجل في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة الذي قال: اللهم كانت لي ابنة عم أحب الناس إلي -لكن ما أرادته وتزوجت غيره- فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين -قحط وجوع- فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك -رمت بآخر سهم في جعبتها، المرأة تحت ضغط الحاجة ولا يجوز لها أن تفعل ذلك، لكن تحت ضغط الحاجة جاءت، فلما قعد بين رجليها قالت آخر شيء يمكن أن تبذله في ذلك الحال- اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -(اتق الله) كلمة كبيرة- قال: فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها.. كم أعطاها حسب الحديث؟ مائة وعشرين ديناراً، والدينار كم يبلغ غراماً من الذهب؟ أربعة وربع، مائة وعشرون في أربعة وربع يساوي قرابة نصف كيلو من الذهب، وإذا قلت: إن كيلو الذهب بحوالي أربعين ألفاً، فيكون أعطاها عشرين ألف ريال، وقام عنها وهي أحب الناس إليه وترك المال..!

قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً. بسبب هذا الرجل الذي عمل هذا العمل، هذه كلمة "اتق الله" أثرت فيه، ما الذي أثر فيه؟ مراقبة الله والخوف منه (اتق الله) صار لها معنى.

لا خير فيمن لا يراقب ربه          عند الهوى ويخافه إيماناً

حجب التقى سبل الهوى فأخو التقى     يخشى إذا وافى المعاد هواناً

ولذلك يقوم عن الحرام ولا يأتيه، ومتى أصلح العبد قلبه وعمره بالتقوى دخل في زمرة عباد الله المخلصين، هؤلاء يحفظهم الله.. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] والشيطان ممنوع من غوايتهم، لا تعمل فيهم حيله وتلبيساته؛ لأن الله قال عنه: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] وهو الذي قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40] إذاً.. من أراد النجاة من مستنقع الشهوات فعليه أن يربي نفسه تربية إيمانية متكاملة يضمنها معاني التقوى والمراقبة والخوف من الله ورجاء الله ومحبته .. وهكذا، ثم يحاسب نفسه ويسائلها ويعاتبها، يتفقد قلبه ويفتش عمله، يستعرضه، ما نصيب الذكر من يومه؟ ما نصيب القرآن من قراءاته؟ ما نصيب الرقائق من مسموعاته؟

القاعدة الثانية: احذر خائنة الأعين

القاعدة الثانية في مواجهة الشهوات في إدارة الصراع: احذر خائنة الأعين، قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] قال ابن عباس : [هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به، فإذا غفلوا لحظ إليها، وإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض... وهكذا]. قال سفيان الثوري : [الرجل يكون في المجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة تمر بهم، فإذا رأوه ينظر إليها اتقاهم فلم ينظر، وإن غفلوا نظر.. هذه خائنة الأعين].

وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] قال: ما يجد في نفسه من الشهوة، قال العلامة الأمين الشنقيطي : فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، والعبد موقوف بين يدي الله، مسئول عن حواسه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] إنها النظرة، السهم المسموم، رائد الشهوة، النظر المحرم يثمر في القلب خواطر سيئة، وأفكاراً رديئة، تتطور لتصبح عزائم وإرادات وأعمال، وتأمل الآية كيف ربطت بين أول خطوات الحرام وآخره، ذلك في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] فيه ربط بين أول خطوات الحرام وهو النظر، وآخر ذلك وهو الوطء، قال ابن كثير : أمر الله عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عنما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر.

مشكلتنا في النظر.. مشكلتنا في الصور.. مشكلتنا في تتبع هذه الأشياء.. الإدمان على النظر إلى الحرام في الأسواق .. في المستشفيات .. في المكاتب .. الشركات .. على أبواب مدارس البنات .. في الشاشات .. في المجلات.. وهكذا، إدمان، نظر وراء نظر، والعقل يخزن في ذاكرته الصلبة، فماذا تتوقع أن تكون المستعادات إذا فتح الجهاز؟!

أيها الإخوة.. النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، النظرة ألم ما بعده ألم..

كل الحوادث مبدؤها من النظر     ومعظم النار من مستصغر الشرر

لا تستهن بالنظر..

كم نظرة فعلت في قلب صاحبها     فعل السهام بين القوس والوتر

والعبد ما دام ذا طرف يقلبـه     في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجتـه     لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

يورث الحسرات والزفرات والحرقات، يرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً     لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قـادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

فترى المرأة المتزوجة في الشارع تسير، وتقلب فيها النظر، فيتعلق بها القلب، ولا يستطيع الانصراف عنها ولا التقدم لخطبتها لأنها مشغولة بزوج، ولذلك يسعى كثير من الفساق إلى تطليق المعشوقات من أزواجهن، وفي هذا قصص متعددة.

ثم مرسل النظرات يقع صريعاً لها..

يا ناظراً ما أقلعت لحظاته     حتى تشحق بينهن قتيلاً

ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكاناً في قلب الناظر!

يا رامياً بسهام اللحظ مجتهـداً     أنت القتيل بما ترمي فلا تصب

وباعث الطرف يرتاد الشفاء له     احبس رسولك لا يأتيك بالعطب

وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحاً فيتبعه جرح على جرح، ثم لا تمنعه آلام الجراحة من استدعاء تكرار النظر!

ما زلت تتبع نظرة في نظـرة     في إثر كل مليحة ومليح

وتظن ذاك دواء جرحك وهـ     ـو في التحقيق تجريح على تجريح

فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا     فالقلب منك ذبيح أي ذبيح

حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات.. احبس نظرك أولاً أسهل من المعاناة بعدها، وتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (زنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه) رواه البخاري.. تأمل التقبيح بوصف هذه النظرة للحرام بالزنا، الشارع يريد أن يكرهنا في النظرة المحرمة، فقال: (زنا العين النظر) حتى نكره النظر إلى الأشياء المحرمة، وحتى نكره النظر إلى ما حرم الله.

إن حال من ينظر إلى الحرام كحال من يشرب من ماء البحر المالح، أفتراه يروى؟ لا، بل لا يزداد مع الشرب إلا عطشاً، فهو بهذا النظر لا يزيد شهوته إلا تأججاً وشدة، بعض الناس المساكين يظنون أن النظر يخفف من غلواء الشهوة، يظنون أن متابعة النظر تسكن من آلام النفس.. كلا والله!

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً     لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قـادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

يقول ابن الجوزي : فاحذر يا أخي -وقاك الله- من شر النظر، فكم قد أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد، فاحذر من النظر فإنه سبب الآفات، غير أن علاجه في بدايته قريب وسهل، فإذا كرر تمكن الشر فصعب العلاج.

إنه كأس مسكر، فاحذر هذا السهم من سهام إبليس؛ في المجلات والجرائد ومواقع الإنترنت وخادمات في البيوت.

هناك نظر يقع فجأةً، نحن الآن نعيش في مجتمع فيه كثير من التبرج والسفور، وأكثر الناس ولو حرصت ليسوا بمؤمنين، وأكثر النساء ولو حرصت لسن بمتمسكات بالحجاب، يقع النظر على الصور الواقعية الموجودة التي تمشي على الأرض، وعلى الشاشات، قال عليه الصلاة والسلام لـجرير بن عبد الله عندما سأله عن نظر الفجأة، قال: (فأمرني أن أصرف بصري) والفجأة: البغتة، أن يقع البصر على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم في أول الأمر، لكن يجب أن يصرفه في الحال وإلا أثم، من استدام النظر عوقب.. (يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) حديث صحيح.. والإتباع: أن يعقبها إياها، لا تجعل نظرةً بعد نظرة، الأولى ليست باختيارك، فجأةً، لكن الثانية حرام عليك، وبهذا يظهر لك فساد قول بعض الهازلين اللاعبين الذين يقولون: يجوز لك استدامة النظرة الأولى ما لم ترمش العين.

وليحذر العاصي المصر على المعاصي من بطش الله وأخذه الأليم الشديد؛ لأن الذي أعطى الحواس قادر على سلبها والمعاقبة بحرمانه.. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [الأنعام:46] فهدد بهذا، فالبصر نعمة من الرب، وينبغي على العبد أن يخشى الرب ولا يصرف هذه النعمة في الحرام، استعمل النعم في شكر المنعم.

وغض البصر فيه فوائد كثيرة: امتثال أمر الرب جل وعلا يمنع وصول السهم المسموم إلى قلبك.. يورث قلبك أنساً بالله ولذةً لا تجدها ولا يجدها من أطلق بصره في الحرام، ويقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه، وغض البصر يكسب البدن والقلب نوراً، كما أن إطلاق البصر يكسبه ظلمة.. وغض البصر يورث العبد فراسةً صادقة، ويورث القلب شجاعة، ويجمع الله لصاحبه بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، ويسد أبواب الشيطان، ويفرغ القلب للأفكار الصالحة، لتدبر مسائل العلم.

لو أن شخصاً دائماً ينظر ويفكر، ودائماً يتصور ويتخيل، إذا رأى امرأةً في الطريق تصورها عارية، هكذا يصور له الشيطان، كيف شكلها من تحت هذا الجلباب؟ هذا كيف يفكر في مسائل العلم؟ أو كيف يدعو إلى الله؟ أو كيف يتفكر في عيوب نفسه؟ أو كيف يفكر حتى في مصالحه الدنيوية؟ هؤلاء طلاب يذاكرون في الاختبارات ويفتحون الكتب، كيف يركزون في الفصول الدراسية؟ إذا كان كل الشغل النظر وتخزين الصور في الذهن، واستعادة المناظر، قال عليه الصلاة والسلام مبيناً المنفذ بين العين والقلب، وأن الجنة لمن صدق في غض البصر.. (اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) حديث صحيح.

القاعدة الثالثة: مدافعة الخواطر السيئة

القاعدة الثالثة في الصراع مع الشهوات: مدافعة الخواطر السيئة.. الخواطر تهجم، وليس لك حيلة في منع هجومها في البداية، إنها تتسلل تسللاً وتأتيك على حين غرة فتفاجأ، بأن عندك خاطرة محرمة، ماذا تفعل؟ إذا انساق العبد معها تطورت وصارت الخاطرة فكرة، ثم تتطور الفكرة فتصير هماً وإرادة، ثم تتطور الإرادة فتصير عزيمة، ثم تتطور العزيمة فتصير إقداماً فصارت فعلاً، فتكرر فعلها فصار عادةً.. وكيف التخلص من العادات؟ من أصعب الأشياء.

مبدأ الخير والشر خواطر، ترتقي بعد ذلك في القلب، أول ما يطرق القلب الخاطرة، فإذا دفعها استراح، وإذا لم يدفعها قويت، وصارت وسوسة، وصار دفعها أصعب، هذه الخطرات تتردد على القلب حتى تصير مُنى باطلة كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39] خطرات تتحول إلى إرادات محرمة تحول بينك وبين العفة.. بينك وبين الطاعة.. بينك وبين التفكر في أسماء الله وصفاته وآياته وآلائه.

الخواطر رحمانية وشيطانية ونفسانية، شيء من الله؛ تفكر في آياته، وشيء من الشيطان؛ تفكر في الحرام، وشيء عادي؛ تفكر في هموم الدنيا، ولا بد من العلاج من المبدأ، ولا بد من استدراك القضية من البداية، أنت لم تعط إماتة الخواطر لكن أعطيت القدرة على المجاهدة ودفع هذه الخواطر، أنت إذا تأذيت منها وكرهتها فأنت بخير، ولكن إذا استروحت إليها، هذه هي المشكلة مع الخواطر -يا إخوان- إذا استروح العبد إليها صار ينساق معها.. هذه هي المشكلة، ولذلك اطردها من البداية، استعذ بالله من الشيطان، أشغل نفسك بالمفيد، فكر في الأشياء المفيدة، دافع الخطرة، دافعها! أصلح الخواطر، أقبل على الله وأخلص النية له.

وهكذا؛ فإنه رأس الأمر -يا إخوان- أن الإنسان يصلح خواطره، ويجعل هذه الخواطر مع الله سبحانه وتعالى.. عش مع ربك .. مع القرآن .. مع سيرة نبيك صلى الله عليه وسلم، يا أخي! عش مع مآسي المسلمين في فلسطين وغير فلسطين، إذا استحييت من الله ستطرد الخواطر الرديئة، إذا أجللته وخفته وآثرت الله لن تسكن قلبك هذه الخواطر الرديئة، كل قضايا الحرام والشهوات والفواحش تبدأ بخواطر، تبدأ بأفكار فدافعها، وتأمل أن الرقيب على الخواطر هو الحي القيوم الرقيب سبحانه وتعالى.

القاعدة الرابعة: الزواج

القاعدة الرابعة: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) مئونة النكاح.. القدرة على الجماع.. القدرة على النفقة.. الوجاء بالصيام إذا عجز عن النكاح.

هذا النكاح مأمور به، قال عليه الصلاة والسلام: (النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا -هذا أمر- فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح -هذا الأمر الثاني، أي: ذا قدرة- ومن لم يجد فعليه بالصيام؛ فإن الصوم له وجاء) صحيح سنن ابن ماجة .

لا تتم عبادة الشاب حتى يتزوج كما قال العلماء، والزواج نصف الدين، قال عليه الصلاة والسلام: (من رزقه الله امرأةً صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب .

شهوة الفرج لا تتحصن إلا بالمرأة الصالحة، احرص عليها، خير متاع الدنيا على الإطلاق المرأة الصالحة، إنها مصالح عظيمة، يحصل بالنكاح الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).

المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، والجماع مع تصحيح النية إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف وإعفاف نفسه وابتغاء الولد، هذه حسنات في ميزانه يوم القيامة، وقد وعد الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الناكح الذي يريد العفاف معان من ربه، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة حق على الله عونهم) حق على الله، هو الذي جعله حقاً على نفسه.. (المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء) المكاتب الذي يكاتب سيده، يدفع له أقساطاً ليحرر نفسه (والناكح الذي يريد العفاف) حديث حسن.

وعدك الله بالمعاونة يا أيها الشاب إذا أردت إعفاف نفسك بالزواج، ويا أيتها الشابة.. إذا قلتِ: كيف أطبق حديث (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)؟ التطبيق: ألا تحولي بينك وبين الذي يتقدم إليك إن كان صاحب دين وخلق، وألا ترفضي لا لأجل إكمال دراسة، ولا لأجل شهادة، ولا لأجل وظيفة، ولا لأجل لهو ولعب في مقدم العمر، وبعد ذلك نتفرغ للجد.. كما يقول العابثون والعابثات!! يقول: خذها أول سهالة، استمتع بحياتك، العب قليلاً، بعد ذلك لاحقين على الهم.. سبحان الله! وإذا نصحت بعض الناس بتزويج أبنائهم قالوا: لا يزال صغيراً، لن يتحمل المسئولية!

إن نقص تحمل المسئولية عنده مفسدة، لكن تركه هكذا مفسدة أكبر، أو هذه التي يتعلمها بالتدريج، إذا تزوج الشخص في بداية الزواج هناك مصاعب دائماً في الغالب، لكن تحمل المصاعب والتغلب عليها أسهل أم معاناة الحرام أسهل؟ يجب على الأب القادر مالياً أن يزوج ولده العاجز مالياً.

ثم -يا أيها المتزوج- العلاجات الآن في قضية الصراع إذا لم تندفع الشهوة بزوجة واحدة فالتعدد، والمرأة يعرض لها ما يمنع الرجل من وطئها كالحيض والحمل وغير ذلك، فالسبيل الشرعي لتسكين الشهوة هو التعدد.. هذا الحل، ثم هناك قضية أخرى مهمة، وهي: أن من رأى امرأةً أعجبته في الشارع .. في الشاشة .. في الإنترنت .. في الصورة، في أي مكان وهو متزوج فعليه أن يأتي أهله.. هذه وصية مهمة، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً فأتى امرأته زينب، مع أنه عليه الصلاة والسلام منزه عن هذه الشهوات المحرمة، لكن ليعلم العباد، وإذا وقع نظره على شيء فهو نظر فجأة، أتى زينب وهي تمعس منيئةً لها، أتى وزينب رضي الله عنها تدبغ جلداً لها، فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، فقال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه) رواه مسلم .

وفي رواية لـأحمد عن أبي كبش الأنماري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه، فدخل ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله! قد كان شيء؟ قال: أجل، مرت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء -وليس شهوة هذه المرأة- فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال) قال الألباني: في السلسلة الصحيحة: إسناده حسن.

الله يعلم ما يصلح النفس البشرية، وهذا وحي منقول إلينا الآن بالكتاب والسنة، المرأة الأجنبية يصورها الشيطان بأجمل مما هي عليه، ولو كانت قبيحة يراها الناظر جميلة، ولذلك قال: (تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان) ولذلك عدد من الزوجات العفيفات اللاتي ابتلين بأزواج فسقة، إذا رجع الزوج من السفر ورأت صورة هذه التي عاشرها بالحرام وكان معها، ربما رأت صورتها أقبح من الزوجة بكثير، حتى تقول له: أف لك، هذه المرأة التي ذهبت معها بالحرام؟ قارن بيني وبينها، فالشيطان يزين الحرام، فلو كان فيه قبح ستر قبحه وجمله، وهذا معنى الحديث: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان) وإذا كانت جميلةً زادها جمالاً، وإذا كانت عادية أظهرها بأنها جميلة؛ ولذلك لا مفر من غض البصر والتحصن إلا بالزواج.

إن قال قائل: هل من العلاج أن يأخذ دواءً لكي يقلل الشهوة؟

قال الحافظ ابن حجر في الفتح : واستدل به الخطابي -أي: بحديث: (فعليه بالصوم)- على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في شرح السنة، وينبغي أن يحمل -أي: كلام الخطابي- على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالةً.

إذاً: لا يجوز تعاطي دواء يقطع الشهوة بالكلية، وإذا كان هناك دواء يجب ألا يكون له أضرار؛ لأن بعض الأدوية لها أضرار جانبية، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، وعندنا علاج أفضل من هذا وهو الصيام.. (فإنه له وجاء) وهذه هي القاعدة التي بعدها..

القاعدة الخامسة: الصوم

عليك بالجنة الحصينة.. قد لا يتيسر للعبد الزواج، فماذا يفعل؟ يؤمر بالاستعفاف، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] وفي أثناء البحث عن النكاح عليك بالصوم؛ لأن البحث عن امرأة سيأخذ وقتاً، العقد وتجهيز البيت سيأخذ وقتاً.. وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] الصيام جنة يقيك ألم الشهوة (يا معشر الشباب.. قال: ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) قال ابن القيم : فأرشدهم إلى الدواء الشافي الذي وضع لهذا الأمر، وهو النكاح، ثم نقلهم عنه عند العجز إلى البدل وهو الصوم؛ فإنه يكسر شهوة النفس ويضيق عليها مجال الشهوة، فإن هذه الشهوة تقوى بكثرة الغذاء والطعام، وكيفيته وكميته.. إن ابن القيم طبيب يقول: الشهوة تزيد بكيفية الطعام وكميته، فالذي يريد أن يعالج من هذه الجهة فعليه أن يراعي قضية الطعام، وعدم الإكثار منه وهو أعزب شاب لئلا يزيد في توليد الشهوة وبالتالي يعاني.

قال القرطبي: كلما قلَّ الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي قال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جُنة) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (يدع شهوته من أجلي) فالصيام جنة ووقاية من النار وعبادة عظيمة.. الإثنين والخميس .. أيام البيض .. شعبان .. محرم .. صيام يوم وإفطار يوم، وهو صيام داود عليه السلام.

القاعدة السادسة: الفرار من أهل الفحش والتفحش

حذارِ من أهل الفحش والتفحش، لقد حرم الله البذاءة ومنع الفحش، كما قال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا بالفاحش البذيء) إن الأشياء التي تثير الشهوات هي الألفاظ الغزلية، كلمات الأغاني، الألفاظ الفاحشة، تثير الساكن، وتحرك الكامن، تسمعها بالهاتف، بالرسائل، رسائل الجوال، نكت -بزعمهم- ما هي هذه النكت بزعمهم؟ يرسلونها بالجوال، نكت بذيئة، تثير الشهوة، وتحث على الفاحشة..

الحب أول شيء يهيم به     قلب المحب فيلقى الموت كاللعب

يكون مبدؤه من نظرة عرضت     ومزحة أشعلت في القلب كاللهب

كالنار مبدؤها من قدحـة فإذا     تضرمت أحرقت مستجمع الحطب

القاعدة السابعة: الفرار من أماكن الفتن

القاعدة التي تليها: عليك بالفرار من أماكن الفتن.. لا يخفى أننا نعيش اليوم -أيها الإخوة- في مجتمع مليء بالفتن.. إعلانات، مجلات، معاكسات، فضائيات، شبكة الإنترنت، ماذا تفعل؟ فروا إلى الله وَاسْتَبَقَا الْبَابَ [يوسف:25] هرب! هرب من المعصية، إن هذه الشهوة إذا تعرضتَ لما يثيرها فينبغي الهرب، اهرب بنفسك، طبّق القاعدة فِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50].. وَاسْتَبَقَا الْبَابَ [يوسف:25] نجِّ نفسك.

القاعدة الثامنة: أشغل نفسك بالطاعات

أشغل نفسك بالطاعات.. نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.. (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) لا تغبن يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9]، المؤمن لا يتحسر على شيء يوم القيامة إلا على ساعة مرت به لم يذكر الله فيها، فاحرص على ذكر الله، ما من مجلس إلا وصلِّ تصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، لا تجعل بيتك قبراً من القبور، مارس فيه العبادة.

يا أيها الطالب الجامعي.. غرفتك غرفتك! اجعل فيها نصيباً من صلاتك .. افتح مصحفك .. أقبل على الله .. استغفر بالأسحار .. واصل الدعاء .. (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).

عمرك ستسأل عنه سؤالاً عاماً (وعن عمره فيما أفناه) وسؤالاً خاصاً (وعن شبابه فيما أبلاه) بماذا أبليت الشباب؟ إن الفراغ مفسد للنفس إفساد الطاقة المختزلة بلا ضرورة، إن الولد إذا اختلى إلى نفسه وقت فراغه ترد عليه الأفكار الحالمة، والهواجس السارحة، والتخيلات الجنسية المثيرة، فلا يجد نفسه إلا وقد تحركت شهوته وهاجت غريزته أمام هذه الموجات من التأملات والخواطر، فعندئذ لا يجد بُداً من أن يلجأ إلى الحرام ليخفف من طغيان شهوته ويحد من سلطانها..هذه هي العادات السيئة السرية.

إذاً: لا بد من إشغال النفس بالطاعات .. بكر إلى الصلوات .. حافظ على الجماعات دائماً .. انقل نفسك من عبادة إلى عبادة؛ قراءة كتاب .. حفظ سورة .. مذاكرة مادة .. زيارة أخ في الله .. حضور درس .. حفظ حديث .. دعوة إلى الله .. كتابة مقالة .. إعداد برنامج دعوي .. زيارة مقبرة .. محاسبة نفس .. تبكير إلى صلاة .. قراءة طيبة ونافعة .. صلة رحم .. زيارة الجيران، أشغل نفسك بالطاعة.

ثم الترهيب من استرسال الرجل مع شهوته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى) حديث صحيح وقال: (حفت النار بالشهوات) النار حفت بالشهوات، ليس هناك طريق إلى النار إلا بالشهوات، فإذا أردت دخول النار فأطلق لنفسك العنان وارتع في الشهوات، لا بد أن يعظ الإنسان نفسه، ولا بد أن يقاوم داعي العودة إلى الجاهلية، قاوم العودة إلى الجاهلية.. بعض الشباب تاب الله عليهم لكن تركوا آثاراً من الجاهلية؛ مفكرات فيها أرقام هواتف.. أرقام مخزنة في الجوال لا زالوا يحتفظون بها.. عناوين للحرام، أتلف كل شيء يتعلق بالماضي.

ثم قد تتعرض لموقف محرج تذكرك فيه امرأة بعلاقة محرمة، فماذا تفعل؟ اسمع معي هذه القصة..

الصحابة الذين كانوا في الجاهلية يفعلون ما يفعلون، ولما نور الإسلام قلوبهم استعلوا على شهواتهم، واستجابوا لأمر ربهم، وهذا سبب نزول قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] روى الترمذي وهو حديث صحيح أن رجلاً من الصحابة يقال له: مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، كان مُهرباً في الإسلام لكن ماذا كان يهرب؟ كان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، يذهب إلى مكة دار الحرب في ذلك الوقت ليهرب إخوانه المستضعفين من المسلمين واحداً وراء الآخر، يهربهم إلى المدينة ، وفي ليلة من الليالي بينما

القاعدة الأولى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23].. إني أخاف الله.

إن الإيمان بالله والخوف منه صمام الأمان العاصم للعبد من مواقعة الحرام والانسياق وراء الشهوات .. مَعَاذَ اللَّه [يوسف:23] قالها يوسف عليه السلام فأعاذه الله وصرف عنه الكيد.. إني أخاف الله، يقولها الذين يستظلون بظل العرش في يومٍ لا ظل إلا ظل الرحمن.. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) قال الحافظ ابن حجر : والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه؛ إما ليزجرها عن الفاحشة، أو ليعتذر إليها ويقيم الحجة، ويحتمل أن يقولها بقلبه.

وقال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوفٍ من الله تعالى ومتين تقوى وحياء، ولا تصدر مثل هذه الكلمة وما كان من جنسها: مَعَاذَ اللَّه [يوسف:23] في ذلك الموطن إلا ممن راقب الله في سره وفي علانية أمره، وخافه في الغيب والشهادة.. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ [ق:31-33] أين؟ أين خشي الرحمن؟ بِالْغَيْبِ [ق:33] إذا غاب عن الناس وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:33-34].

فالمؤمن إذا تربى على مراقبة الله، ومطالعة أسرار أسمائه وصفاته كالعليم والسميع والبصير والرقيب والشهيد والحسيب والحفيظ والمحيط والمهيمن؛ أثمر ذلك خوفاً من الله في السر والعلانية، وانتهاءً عن المعصية، وصدوداً عن الشهوة المحرمة.. قال الشعبي رحمه الله في معنى "المهيمن": المطلع على خفايا الأمور وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً. ويجب على العبد أن يتذكر لحظة عرض الشهوات عليه هذه النصوص التي جاءت في رقابة الله عليه، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235].. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب:52].. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4].. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

وإذا خلوت بريبة في ظلمة     والنفس داعية إلى العصيان

فاستحي من نظر الإله وقل لـها     إن الذي خلق الظلام يراني

أيها المسلم:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل     خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة     ولا أن ما تخفي عليه يغيب

فالمؤمن إذا تربى على معاني هذه الآيات السابقة وعمل بمقتضاها أصبح إنساناً سوياً، ونشأ شاباً تقياً، لا تستهويه مادة ولا تستعبده شهوة، ولا يتسلط عليه الشيطان، ولا تعمل النفس الأمارة بالسوء فيه، بل يصرخ إن دعته الشهوة: إني أخاف الله، وإذا وسوس إليه الشيطان صرخ فيه: إنه ليس لك علي سلطان. وإذا زين له قرناء السوء شيئاً في هذا من الفاحشة أسكتهم بقوله: لا أبتغي الجاهلين.

من فوائد قول الله عن يوسف: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً [القصص:14] قال: إنما أعطاه ذلك إبّان غلبة الشهوة لتكون له سبباً للعصمة.

إن هذا العبد المتربي على الخوف من الله جل وعلا هو الذي تؤثر فيه كلمة "اتق الله" إذا قارب الحرام يوماً وجاءت "اتق الله" أثرت ونفعت، تأمل ذلك الرجل في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة الذي قال: اللهم كانت لي ابنة عم أحب الناس إلي -لكن ما أرادته وتزوجت غيره- فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين -قحط وجوع- فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك -رمت بآخر سهم في جعبتها، المرأة تحت ضغط الحاجة ولا يجوز لها أن تفعل ذلك، لكن تحت ضغط الحاجة جاءت، فلما قعد بين رجليها قالت آخر شيء يمكن أن تبذله في ذلك الحال- اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -(اتق الله) كلمة كبيرة- قال: فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها.. كم أعطاها حسب الحديث؟ مائة وعشرين ديناراً، والدينار كم يبلغ غراماً من الذهب؟ أربعة وربع، مائة وعشرون في أربعة وربع يساوي قرابة نصف كيلو من الذهب، وإذا قلت: إن كيلو الذهب بحوالي أربعين ألفاً، فيكون أعطاها عشرين ألف ريال، وقام عنها وهي أحب الناس إليه وترك المال..!

قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً. بسبب هذا الرجل الذي عمل هذا العمل، هذه كلمة "اتق الله" أثرت فيه، ما الذي أثر فيه؟ مراقبة الله والخوف منه (اتق الله) صار لها معنى.

لا خير فيمن لا يراقب ربه          عند الهوى ويخافه إيماناً

حجب التقى سبل الهوى فأخو التقى     يخشى إذا وافى المعاد هواناً

ولذلك يقوم عن الحرام ولا يأتيه، ومتى أصلح العبد قلبه وعمره بالتقوى دخل في زمرة عباد الله المخلصين، هؤلاء يحفظهم الله.. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] والشيطان ممنوع من غوايتهم، لا تعمل فيهم حيله وتلبيساته؛ لأن الله قال عنه: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] وهو الذي قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40] إذاً.. من أراد النجاة من مستنقع الشهوات فعليه أن يربي نفسه تربية إيمانية متكاملة يضمنها معاني التقوى والمراقبة والخوف من الله ورجاء الله ومحبته .. وهكذا، ثم يحاسب نفسه ويسائلها ويعاتبها، يتفقد قلبه ويفتش عمله، يستعرضه، ما نصيب الذكر من يومه؟ ما نصيب القرآن من قراءاته؟ ما نصيب الرقائق من مسموعاته؟