الاستغفار سيد الأذكار


الحلقة مفرغة

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.

ومعنى: حياكم الله وبياكم: هو أن آدم لما أنزل إلى الأرض، جاءه ملك، فقال له: حياك الله يا آدم وبياك يعني: حياك الله وأصلح حالك، فبياكم معناها: أصلح حالكم، ونحن في حاجة إلى صلاح الحال؛ لأننا ذوو أخطاء، فمن منا لم يخطئ قط؟ ومن له الحسنى فقط؟ (كل بني آدم خطاء) ولا عصمة لأحد، فنحن ننسى لأننا ضعفاء.

وفي مرة من المرات تعبت حتى عافت نفسي الطعام والشراب، ولم أستطع أن أنام فقلت: ماذا حل بي؟ فهرولت إلى الطبيب، فقال: لا بأس عليك، قلت: ما المشكلة؟ قال: ارتفاع درجتين فقط في درجة الحرارة! قلت: درجتان صنعتا بي ما صنعتا! كم نحن ضعفاء! ولضعفنا لا نؤدي العبادة على الوجه الكامل، فمن منا إذا دخل صلاته لم يحدث نفسه؟ ولم يخطر على باله خاطر؟ ما منا أحد.

ومن منا إذا صلى وصام وقام لم يخالف ذلك العمل نقصاً أو خطأً؟ ومن منا إذا حج أو اعتمر لم يرفث ولم يفسق ولم يجادل؟ ما منا أحد.

فكان من رحمة الله بنا أن شرع لنا الاستغفار، في أدبار العبادات، وفي سائر الأوقات؛ لأن الاستغفار يجبر النقص، والخطأ؛ ولأن الاستغفار يقوم مقام النسيان؛ ولأن الاستغفار يقوي الضعف؛ ولأن الاستغفار يكمل العبادة الناقصة، فأول لفظ نلفظه بعد الصلاة: أستغفر الله (ثلاثاً) فمن منا لم يحدث نفسه ولم تأخذه الخواطر يمنة ويسرة وهو في الصلاة؟ لذلك نستغفر الله بعد أداء العبادة، فمن هديه صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ من صلاته قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله يقولها ثلاثاً)، ومن هديه: (أنه كان يعد له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)، في كل مجلس يجلسه يردد هذا الاستغفار أكثر من مائة مرة.

ومن هديه أنه قال: (من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك) فلا تنس هذا الدعاء، فمن منا إذا جلس مجلساً لم يلغ فيه؟

وقد قيل: إن رجلاً كان مشهوراً بالكذب، نزل بيت إنسان يعرفه، فضيفه صاحب البيت وهو يعرف أنه كذاب، فقال: الليلة سأعمل لك عشاء، لكن توجد مشكلة، قال: ما هي المشكلة؟ قال: لقد جمعت أهل الحي كلهم، قال: وما هي المشكلة في ذلك؟ قال: المشكلة أنك تكذب كذباً لا يُصدق، قال: وماذا أعمل، لقد تعودت على هذا، يقول الشاعر:

عود لسانك قول الصدق تحظ به إن اللسان لما عودت معتاد

فالمضيف ما أحب أن يضيق عليه فقال له: خذ راحتك، لكني إذا رأيتك تماديت في الكذب فسأعطيك علامة، قال: وما هي العلامة؟ قال: السعال، فإذا سعلت فاعلم أنك قد تماديت في الكذب.

وعند اجتماع الضيوف بدأ الرجل يعطيهم من الكذب يميناً ويساراً، فقال لهم: يا جماعة الخير! أنا بنيت مسجداً طوله ألف متر، فسعل صاحب البيت أي: أعطاه العلامة، فقال: وعرضه متر واحد، فقالوا له: لماذا ضيقته؟ قال: ما ضيقته أنا، ولكنهم ضيقوا علي! فهذا يجب عليه أن يتوب وأن يقول إذا قام من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

فمن رحمة الله بنا أن شرع لنا هذه الكلمات اليسيرة ليكفر عنا بها السيئات، ويرفع لنا بها الدرجات.

فمن منا لم تلزمه الهموم والغموم؟ ومن الذي يرتاح دائماً؟ ما منا أحد، فالحياة لا تكون على وتيرة واحدة، فإذا ضحكت اليوم فستبكي غداً.

إن أضحكتك الأيام يوماً

لابد أن تبكيك أياماً

اليوم تفرح وغداً تحزن، اليوم تستقبل مولوداً، وغداً تودع ميتاً، اليوم إذا كنت في سعة من العيش، غداً ستكون في ضيق من العيش، (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فالأيام تتقلب بي وبك.

فمن منا من لم يحمل هم الرزق وهم العيال؟ هل سأبني لهم داراً؟ وهل سأفعل لهم كذا وكذا؟ وهذه هموم نحملها بشكل طبيعي بالليل وبالنهار، لكن اسمع بارك الله فيك! عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) بشرط: أن يلزم الاستغفار، وهل تريد سعة الرزق؟ هل تريد تفريج الهموم؟ هل تريد كشف الغموم وقضاء الحاجات؟ أكثر من قول: أستغفر الله العظيم، جرب واجعل ذكرك في ذلك اليوم من أوله إلى آخره الاستغفار في كل غدوة وروحة.

إن المسكين: هو من لا يستطيع أن يكسب أمثل هذه الدرجات الحسنات جزاء أعمال يسيرة، (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، كتبت له ألف حسنة، وحطت عنه ألف خطيئة) وهذا العمل يسير، والأجر المترتب عليه كبير، فأسهل العبادات وأيسرها ذكر الله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، بالليل والنهار، الهج بحمده، ويكفيك شرفاً يا من تذكر الله قول الله: اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، من أنت حتى تذكر في ذلك المجلس؟

هناك من يقول: هل دعاء المجلس يكفر الغيبة؟ لا؛ لأن الغيبة كبيرة من الكبائر، والكبائر لا يكفرها إلا التوبة، فإذا اغتبت أحداً، فكفارتها التوبة، ومن شروط التوبة: أن ترد المظالم إلى أهلها، وقد يتقبل الاعتذار، ويقول: عفا الله عنك، وبعضهم لا يتقبل، فدرءاً للمفسدة اقصد المجلس الذي ذكرته فيه بغيبة أو بشر واذكره فيه بخير، وادعو له واستغفر له، واسأل الله أن يعفو عنا وعنه.

وحديث: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصحح إسناده أحمد شاكر .

إذاً: فأمر الاستغفار عظيم، فما خرج الاستغفار من لسان صادق وقلب خاشع إلا غفر لصاحبه الذنب مهما كان، فعن زيد رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثاً غفر له وإن كان فر من الزحف)، والفرار من الزحف من الموبقات السبع لكنه إذا صدق بلسانه وخشع بقلبه، وقال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له ما كان منه، ولو فر من الزحف، ومهما كان الذنب، وهذا مصداق قول الله في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة).

فلماذا يغلق الباب أمام المذنبين والمقصرين؟ فلما قال ذلك العابد للذي قتل تسعة وتسعين نفساً: ليس لك توبة، كانت النتيجة أنه قتله، فمن يغلق باب الرحمة؟! كل الأبواب تغلق إلا باب الرحمة، بل إن آخر باب يغلق باب التوبة والاستغفار، فإذا طلعت الشمس من مغربها فذلك حين لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فهذه آخر العلامات وبعدها يغلق الباب، ولكن قبلها مهما بلغت الذنوب فالباب مفتوح.

والكثير من الناس يرسلون لنا ويقول أحدهم: أنا فعلت، وأنا فعلت، وأنا فعلت، وأنا فعلت، فهل يغفر الله لي؟ نعم يغفر لك مهما كان الذنب، بشرط: أن تصدق في توبتك، وتصدق في رجوعك إلى الله، حتى لو زنيت أو سرقت أو أكلت مال ربا، وفعلت كل شيء، مهما فعلت، لكن بشرط أن تعود وتستغفر وتلين وترجع إلى الله.

فالذنب لا يضر الله لا من قريب ولا من بعيد: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني).

ومن أسماء الله الحسنى: الغفور والغفار جل ثناؤه، وهما من أسماء المبالغة، ومعناهما: الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، فلا يسترها فقط، بل ويتجاوز عنها، والغفران والمغفرة من الله تعالى تكون: بأن يصون الله العبد من أن يمسه العذاب إذا غفر له، فلا عذاب عليه.

قال الغزالي : الغفار هو: الذي أظهر الجميل وستر القبيح، ومن منا ليس عنده قبيح من الأفعال؟ فالله يعلم بهذا ويعلم بذاك، فمن مغفرته أنه يظهر الجميل ويستر القبيح.

قال الخطابي : الغفار هو: الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى، كلما تكررت التوبة من الذنب تكررت المغفرة.

قال ابن منظور : أصل الغفر: التغطية والستر، فقولهم: غفر الله له أي: ستر له ذنوبه.

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدني الله العبد منه حتى يضع عليه كنفه -أي: ستره-، فيقرره بذنوبه، فيقول: تذكر يوم كذا، تذكر يوم كذا، حتى إذا ظن العبد أنه هلك، قال أرحم الراحمين: فإني قد سترتها لك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم)، فيخرج العبد بين الملأ وقد أعطي كتابه بيمينه وهو رافع رأسه يَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20] فما أحلم الله! وما أرحم الله جل في علاه! قال أهل العلم: ومن أسماء الله الحسنى: غافر الذنب، وعن أبي هريرة مرفوعاً: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) وليس المعنى: أنها فقط هي أسماء الله الحسنى ولا يوجد غيرها، بدليل حديث: (اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيِّ حكمك، عدل فيِّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) إذاً: فلله أكثر من تسعة وتسعين اسماً.

وليس معنى أحصاها: أي عدها، فمن السهل على أحدنا أن يسردها سرداً، لكن أين أثرها؟ أين أثر السميع؟ أين أثر البصير؟ أين أثر القادر؟ أين أثر المحيي؟ أين أثر المميت؟ أين أثر الضار النافع؟ فالمطلوب عند إحصائها: أننا نعرف ونستشعر أثرها، بصير يعني: أنه في كل مكان يراني، السميع أي أنه: يسمع سري وعلانيتي، الخبير أي أنه: لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الحكيم أي أنه: لا يضع الأمور إلا في نصابها، العزيز أي أنه: لا يغلب جانبه ولا يقهر، والعزة مستمدة منه ومن كتابه ومن دينه، فلابد أن نستشعر معاني الأسماء والصفات، وإلا ماذا يعني أن نقول: سميع ثم نتكلم بغيبة ونميمة.

فقد جاء في خبر المجادلة التي جاءت تشتكي إلى رسول الله قول عائشة : والله! الذي لا إله إلا هو ما بيني وبينها إلا ستار، ووالله! ما سمعت شيئاً من كلامها، وفي لحظات يأتي وحي رب الأرض والسماوات من فوق السماء السابعة، وما بين سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة ويقول: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1]، رفع الله عنها الظلم والعدوان، تقول عائشة : (تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، والله! ما بيني وبينها إلا ستار، ثم تأمل في قوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

الفرق بين الغفران والعفو

فإن قيل: فما الفرق بين الغفران والعفو؟ فالجواب قال الكفوي : إن الغفران يقتضي إسقاط العقاب، ولا يقتضي الثواب، ولا يستحق ذلك إلا المؤمن الذي يتوب ويرجع إلى الله، قال الله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] يعني: ثم استقام على طريق الاستقامة، وقال الله: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70] ولا يستعمل الغفار إلا في حق الباري تعالى، فلا يقال: فلان غفار، ولا يقال: غفرت لفلان، لكن العفو يقال في حق البشر أيضاً، قال بعضهم: العفو يقتضي إسقاط اللوم والندم، ولا يقتضيه الثواب، فقد يعفو عنك لكنه لا يثيبك على هذا، لكن إذا غفر لك أثابك وبدل سيئاتك حسنات، وبدل ذلك إلى مغفرة ورضوان.

الغفران دليل على سعة رحمة الله

وقد تكرر لفظ الغفران في القرآن مرات ومرات مما يدل على سعة رحمة الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها في الأرض رحمة واحدة يتراحم بها العباد، حتى ترفع الدابة حافرها عن وليدها حتى لا تطأ عليه، فإذا كان يوم القيامة بسط الرحمن رحمته فغفر الذنوب وستر العيوب) أو كما قال رسول الله، ومن واسع رحمة الله في ذلك اليوم أن الشيطان الرجيم يظن أن رحمة الله ستناله، فلماذا نغلق الباب أمام الناس؟ لماذا نضيق على الناس ونقول لهم: لابد من كذا وكذا؟! فباب الرحمة واسع، فإذا تحققت التوبة غفر الذنب مهما كان، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25] بشرط: أن تتحقق في قلوبنا التوبة والندم، والعزم على عدم الرجوع إلى الذنب، فإذا تحققت هذه الشروط -بإذن الله- يغفر الله الذنب مهما كان.

لقد قتل رجل مائة نفس ومع ذلك استقبلته ملائكة الرحمة، مع العلم أنه ما صنع خيراً قط، إلا أنه خرج بقلب تائب، وصدق في توبته، فصدق الله معه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، تقول ملائكة الرحمة: يكفي أنه خرج بقلب تائب، وتقول ملائكة العذاب: إنه ما صنع خيراً قط، فاختصموا فيه، فأرسل الله ملكاً على صورة بشر يحكم بينهم فقال: قيسوا المسافة بين هذه القرية وتلك، فكان إلى القرية التي خرج إليها أقرب بشبر واحد.

وجاء في رواية: أن الله أمر تلك القرية أن تقاربي، من أجل هذا الذي خرج تائباً. هذا واحد فكيف لو تاب الناس ورجعوا إلى ربهم جل في علاه؟

إذاً: فالغفران دليل الرحمة، وقد تكرر قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ عشرات المرات في القرآن مما يدل على ذلك، والمغفرة والتجاوز عن الذنوب دليل عزة لا دليل ضعف، ولذلك لما خاطب الله عيسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118] ولم يقل: إنك أنت الغفور الرحيم؛ لأن الموقف موقف عزة، وموقف تفضل وكرم، فلو عذب الله البشرية من أولها إلى آخرها لما كان ظالماً لها، (إنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا) والذي يقول هذا هو خير من صلى وصام وقام، وخشي الله في السر والعلانية، يقول: وحتى أنا لن أدخل الجنة بعملي، وقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، (إلا أن يتغمدني الله وإياكم بفضل منه ورحمة)، لذلك يقول الله يوم القيامة: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] ليس بأعمالهم، وإنما يفرحون بفضل الله ورحمته، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عن لقاء ربه جل في علاه) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:118-119].

فإن قيل: فما الفرق بين الغفران والعفو؟ فالجواب قال الكفوي : إن الغفران يقتضي إسقاط العقاب، ولا يقتضي الثواب، ولا يستحق ذلك إلا المؤمن الذي يتوب ويرجع إلى الله، قال الله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] يعني: ثم استقام على طريق الاستقامة، وقال الله: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70] ولا يستعمل الغفار إلا في حق الباري تعالى، فلا يقال: فلان غفار، ولا يقال: غفرت لفلان، لكن العفو يقال في حق البشر أيضاً، قال بعضهم: العفو يقتضي إسقاط اللوم والندم، ولا يقتضيه الثواب، فقد يعفو عنك لكنه لا يثيبك على هذا، لكن إذا غفر لك أثابك وبدل سيئاتك حسنات، وبدل ذلك إلى مغفرة ورضوان.

وقد تكرر لفظ الغفران في القرآن مرات ومرات مما يدل على سعة رحمة الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها في الأرض رحمة واحدة يتراحم بها العباد، حتى ترفع الدابة حافرها عن وليدها حتى لا تطأ عليه، فإذا كان يوم القيامة بسط الرحمن رحمته فغفر الذنوب وستر العيوب) أو كما قال رسول الله، ومن واسع رحمة الله في ذلك اليوم أن الشيطان الرجيم يظن أن رحمة الله ستناله، فلماذا نغلق الباب أمام الناس؟ لماذا نضيق على الناس ونقول لهم: لابد من كذا وكذا؟! فباب الرحمة واسع، فإذا تحققت التوبة غفر الذنب مهما كان، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25] بشرط: أن تتحقق في قلوبنا التوبة والندم، والعزم على عدم الرجوع إلى الذنب، فإذا تحققت هذه الشروط -بإذن الله- يغفر الله الذنب مهما كان.

لقد قتل رجل مائة نفس ومع ذلك استقبلته ملائكة الرحمة، مع العلم أنه ما صنع خيراً قط، إلا أنه خرج بقلب تائب، وصدق في توبته، فصدق الله معه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، تقول ملائكة الرحمة: يكفي أنه خرج بقلب تائب، وتقول ملائكة العذاب: إنه ما صنع خيراً قط، فاختصموا فيه، فأرسل الله ملكاً على صورة بشر يحكم بينهم فقال: قيسوا المسافة بين هذه القرية وتلك، فكان إلى القرية التي خرج إليها أقرب بشبر واحد.

وجاء في رواية: أن الله أمر تلك القرية أن تقاربي، من أجل هذا الذي خرج تائباً. هذا واحد فكيف لو تاب الناس ورجعوا إلى ربهم جل في علاه؟

إذاً: فالغفران دليل الرحمة، وقد تكرر قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ عشرات المرات في القرآن مما يدل على ذلك، والمغفرة والتجاوز عن الذنوب دليل عزة لا دليل ضعف، ولذلك لما خاطب الله عيسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118] ولم يقل: إنك أنت الغفور الرحيم؛ لأن الموقف موقف عزة، وموقف تفضل وكرم، فلو عذب الله البشرية من أولها إلى آخرها لما كان ظالماً لها، (إنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا) والذي يقول هذا هو خير من صلى وصام وقام، وخشي الله في السر والعلانية، يقول: وحتى أنا لن أدخل الجنة بعملي، وقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، (إلا أن يتغمدني الله وإياكم بفضل منه ورحمة)، لذلك يقول الله يوم القيامة: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] ليس بأعمالهم، وإنما يفرحون بفضل الله ورحمته، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عن لقاء ربه جل في علاه) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:118-119].

وقد أمرنا الله بالاستغفار في كل حال، قال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، وقال متعجباً من حال الناس: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]، وقال: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20]، وما دعا الله الأنبياء وأقوامهم إلا إلى الاستغفار فهذا محمد صلى الله عليه وسلم يؤمر بإعلان التوحيد وبالاستغفار من الشرك، قال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ... [هود:1-5] إلى آخر الآيات.

فأمرنا الله بالتوحيد ثم بالاستغفار بعده، فمن منا لم يخطئ قط؟ كلنا صاحب ذنب وخطأ.

ماذا تريد من هذه الحياة؟ أنت تسعى من الصباح حتى المساء ألا تريد داراً؟ ألا تريد مالاً؟ ألا تريد عيالاً؟ ألا تريد زوجة؟ ألا تريد قضاء حاجات من حوائج الدنيا؟ ستنالها بإذن الله إذا صدقت في الاستغفار، قال الله على لسان نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].

جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: انقطع المطر فماذا نصنع؟ قال: أكثر من الاستغفار، وجاء رجل يشكو الفقر فقال له: أكثر من الاستغفار، وجاءه رجل يريد الذرية، فقال له: أكثر من الاستغفار، فقال الجالس له: عجباً لك يا أبا سعيد ! جاءك هذا يطلب كذا فقلت: أكثر من الاستغفار، وجاءك هذا يطلب كذا، فقلت: أكثر من الاستغفار، وجاءك ذاك يطلب كذا، فقلت: أكثر من الاستغفار، قال: هذا هو العلاج، أما قال الله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].

عجيب أمرنا! فلله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ثم لا نرجوه في حاجاتنا، ولماذا هذا؟ لأننا ما صدقنا في التعامل معه، ولذلك حين أُخبر أحد الصالحين بما حدث من ارتفاع في الأسعار قال: كيف أخاف الفقر أو أخشاه وسيدي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟ أنت تتوكل على الغني، على القوي، على العزيز، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، وقال سبحانه: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61].

والاستغفار من صفات الأنبياء والصالحين، قال الله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، وقال عنهم: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا [آل عمران:193]، وقال عن نوح: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47]، وقال عن السحرة: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا [طه:73]، وقال عن داود: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، وقال عن سليمان: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]، ليس عيباً أن نخطئ، لكن العيب أن نتمادى في الخطأ، وتكرار الذنب تلو الذنب، بلا توبة ولا ندم ولا استغفار.

أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً

على المعاصي وعين الله تنظرني

يا زلة كتبت في غفلة ذهبت

يا حسرة بقيت في القلب تحرقني

دعني أنوح على نفسي وأندبها

وأقطع الدهر بالتذكير والحزن

دع عنك عذلي يا من كنت تعذلني

لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني

دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها

فهلا عسى عبرة منها تخلصني

فأحب الناس إلى الله الذين يطأطئون الرءوس ويقولون: أستغفر الله، قال الله لأحد أنبيائه: (بشر المذنبين أنهم إن تابوا قبلت منهم، وحذر الصالحين أني إذا أخذتهم بعدلي عذبتهم) وهذا حتى لا يغتر الصالح بعمله، ولا يقنط العاصي من رحمة الله جل في علاه، لكن لا بد أن تعلم أن قبول الله للاستغفار يرتبط بالتوبة والعمل الصالح، كما قال الله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] وقال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:60] وفي الحديث القدسي: (أذنب عبدي ذنباً، فاستغفرني، علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، غفرت لعبدي، ثم أخطأ، ثم استغفر، فقال الله: أذنب عبدي ثم استغفرني، علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي)، وفي الحديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يستغفرون الله فيغفر لهم).

فالله اسمه التواب، ولابد أن هناك ناساً يذنبون ويتوبون حتى يتوب الله عليهم، والله اسمه الغفار، ولابد أن هناك أناساً يخطئون فيستغفرون الله فيغفر لهم، قال الفضيل : استغفار بلا إقلاع، وبلا توبة وبلا ندم هذا استغفار الكذابين، ولاحظ من يقول بعد الصلاة ثلاثاً: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ثم انظر في حاله إذا خرج من مسجده، شاشات وقنوات، ودخان، ومقاه وآهات، أين ذهبت أستغفر الله وأتوب إليه؟! لذلك قال أحد الصالحين: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

وقد سئل سهل بن سعد عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب قال: أول الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة، فأول الاستغفار الاستجابة، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:24] ثم الإنابة: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54] ثم توبوا.

إذاً: فاستجابة ثم إنابة ثم توبة، قال: فالاستجابة عمل الجوارح، فلا ينظر ولا يسمع ولا يرى ولا يذهب ولا يأتي إلا في طاعة، ثم الإنابة: وهي عمل القلب، فيخضع ويستكين لله رب العالمين، ثم التوبة والإقبال على الله بالقلب والجوارح.

إن الاستغفار هو الأمن والأمان للذي يستحق بتركه العذاب، قال الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، قال الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب الأمان الأول وبقي الأمان الثاني، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ؛ لأنك كنت أمانهم فذهبت وبقي لهم الأمان الثاني: وهو الاستغفار: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).

قال ابن الجوزي : إن إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب، فلما رأيت فيهم ذلك نفثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104].

فكثير من الناس يعيش في ضياع وهو يظن أنه على خير، وقد قال لي أحدهم: إن فلاناً مرءوسه في العمل يقول: فلان أخلاقه عالية لكن فيه عيباً واحداً، قلت: وما هو؟ قال: لا يصلي مع الناس في المسجد، ثم لقيته بعدها بأيام وأنا خارج من المسجد وهو خارج من الصالة الرياضية، فهو يحرص على جسمه كما قال الله عن المنافقين: َإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4] يهتمون بالمظاهر، أما السرائر فخاوية لا يعلمها إلا الله، والمشكلة مصيبة المضيعين أنهم يظنون أنفسهم على خير، قال: لقيته فقلت له: كيف حالك؟ قال: بخير، فقلت: رئيسك يذكرك بخير؟ فضحك وابتسم لأنه يرضي الخلق ولا يرضي الخالق، نسأل الله العفو والعافية، قلت: يقول رئيسك: إنك على خير وأخلاق وكذا، وهو يضحك، ثم قلت: لكنه يقول: إن فيك عيباً واحداً قال: وما هو؟ لأنه حريص على ألَّا يراه رئيسه على خطأ معين، قلت: يقول: إنك لا تصلي مع الناس في جماعة، قال: والله! صحيح، فنحن مقصرون، قلت له: قلت: مقصرون؟! لا يا عبد الله! فعندما لا تراني في تكبيرة الإحرام كل يوم فأنا مقصر، وعندما لا أدرك ركعتي السنة قبل الفجر فأنا مقصر، وعندما تفوتني قراءة وردي في وقت قراءته فأنا مقصر، لكنك مضيع، وتعيش في ضياع وأنت لا تشعر: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37]، فمن لا يشهد جمعة ولا جماعة هل يقول: أنا على خير، أنا مقصر؟! بل هو رجل مفرط بكل ما تعني الكلمة، ذكرناه فقال: أنا أحسن من فلان! فبعد أن كان التنافس في درجات الجنان أصبح التنافس في الإقلال من المعاصي، وانقلب الميزان! نسأل الله العفو والعافية! وأحد الجالسين الآن معنا تاب واستقام وصلح حاله فآذاه أصحاب الماضي، يقول: كنت لا أصلي ولا أقوم، وهذا أول رمضان أقومه، فأتى إلي أصحاب الماضي يقولون: ما لك ولهذا الطريق؟ أنت على خير، قلت: وأي خير هذا؟ فهم على ضلال، ويريدون أن يضل صاحبهم معهم، وفي المثل: ودت الزانية لو أن كل النساء زواني، وهكذا حال كثير من الناس يزين بعضهم لبعض الضياع، يقولون: أنت على خير، لماذا التشدد؟ ولماذا التعصب؟ ولماذا التطرف والإيمان في القلب؟ فلا يحتاج أن تفعل كذا وكذا، قلت: فهم مساكين، يريدون شيئاً والطريق في الاتجاه الآخر.

فإن قيل: فما هي أحسن أوقات الاستغفار؟

فأنا وأنت ابتلانا الله، فمنذ أن خرجنا إلى هذه الحياة ونحن في ابتلاء.

أنت الذي ولدتك أمك باكياً

والناس حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا

في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

فالعبرة النهايات، فاعمل أنت في فترة الابتلاء التي قال الله عنها: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:14-15] من هم العباد؟ قال: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]، ما هي صفاتهم؟ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17].

فهل نحن منهم حتى ننجوا؟! إذا أردت أن تنجو فاتصف بصفاتهم، قال الله عنهم: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

سبحان الله! على ماذا يستغفرون وهم لم يذنبوا؟ لقد صفوا الأقدام أمام الله، يبكون ويتضرعون، ولما انتهوا خافوا ألا يقبل منهم، ولذلك لما سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم: عن قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:57-60] قالت: يا رسول الله! أهم الذين يسرقون ويزنون؟ قال: (لا، بل هم الذين يصومون ويقومون، ويعملون العمل ويخافون ألا يتقبل منهمكَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ينزل إلى السماء الدنيا -نزولاً يليق بجلاله- فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟)، ولك أن تنظر إلى حال أهل الأرض في تلك الساعة! يقول تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3543 استماع
بر الوالدين 3428 استماع
أحوال العابدات 3413 استماع
يأجوج ومأجوج 3350 استماع
البداية والنهاية 3336 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3271 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3255 استماع
أين دارك غداً 3205 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3099 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3097 استماع