خطب ومحاضرات
لبيك اللهم لبيك
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمناً! يترددون إليه ويرجعون عنه ثم لا يرون أنهم قضوا منه وطراً، أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه، ونسبه إليه بقوله عز وجل لخليله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26] فتعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذكر لهم ذلك البيت الحرام حنوا إليه، وكلما تذكروا بعدهم عنه أنوا، قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96-97].
بيت بنته يد التقوى وشيده أبو النبيين للأجيال يرفعه
أمجاده في كتاب الدهر حافلة ثوب الجلال عليه الرب يخلعه
تدرعت بسياج الدين حرمته والله من عبث الباغين يمنعه
أولاه بالحج تشريفاً وتكرمةً حتى غدت موئل التقديس أربعه
وكعبة الروح للتوحيد شاهدة كالشمس تسطع نوراً وهي منبعه
بيت خلق من الحجر، وأضيف إلى الله فأصبح محط أفئدة البشر، بيت من ذكره نسي مزاره، وهجر دياره، بيت من صبر عنه فقلبه أقسى من الحجارة.
حج قوم من العباد، فجعلت عابدة منهم تقول:
أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فكانوا يصبرونها قائلين: الآن ترينه، فلما لاح البيت قالوا: هذا بيت ربك، فأسرعت مهرولة إلى البيت وهي تقول: بيت ربي! بيت ربي! حتى وضعت جبهتها على البيت باكية فما رفعت إلا وهي ميتة! قتلها شوقها إلى بيت ربها:
الطائفون الراكعون لربهم خفقت قلوبهم وضج لسان
تتزاحم الأقدام في ساحاته وترق بين ظلاله الأبدان
وكيف لا يحبونه وهو بيت ربهم؟ وقد أخبر الله أن فيه آيات: كالحجر الأسود وما أدراك ما الحجر؟ إنه من الجنة، فكيف يكون في الأرض شيء من الجنة ثم لا نشتاق إليه؟! وكيف يكون في الأرض شيء من الجنة ثم لا نذرف الدموع عنده وحواليه.!
قال صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من الجنة).
وقال أيضاً بأبي هو وأمي: (إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً) وهو حديث صحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر واستلمه، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، فالتفت فإذا
فكم سكبت عند الحجر من عبرات؟! وكم رفعت عنده ومن حوله من طلبات ودعوات؟! وكم سمعت هناك من آهات وزفرات؟!
وتتجلى صور التوحيد: يوم أن يقف الحاج خلف المقام بعد الطواف ليصلي ركعتين، فيقرأ في الركعة الأولى بـ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2] فيعلن الموحد رفضه لأي عبودية سوى الله، ثم يجدد الولاء في الركعة الثانية فيقرأ بـ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] والتي تتضمن التوحيد الخالص لله عز وجل.
إنه التوحيد: يوم أن يلقى الصفا قائلاً: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] ثم يردد في دعائه: الحمد لله وحده، أنجز وعده، وصدق عبده، وهزم الأحزاب وحده.
إنه التوحيد: يوم أن يردد الحاج في يوم عرفة خير الدعاء.
فمن مكة انطلق محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد، ويضحي هو وأصحابه من أجل التوحيد، ومن هناك ومن تلك المشاعر والبقاع ودع محمد صلى الله عليه وسلم أمته وهو يردد معهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
وقد كانت حجة الوداع أول حجة حجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته وآخر حجة في حياته؛ ولذا سميت بحجة الوداع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع فيها المسلمين وهو يقول لهم: (خذوا عني مناسككم) فهو سيد المرسلين ومعلم التوحيد الذي ورثه من الأنبياء قبله، ثم بين لهم الحقيقة التي لا بد منها وهي: أن مصير كل إنسان كائن من كان هو الموت، فقال لتلك الجموع التي التفت من حوله: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) أي: لعلي لا أحج معكم بعد عامي هذا.
ثم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم في عشية عرفة قوله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فيبكي عمر رضي الله عنه عند نزولها ويقول: وهل بعد التمام إلا النقصان؟!
ثم في أواسط أيام التشريق ينزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه قوله تبارك وتعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3] ، وعندها يعلم العارفون من الصحابة أن منيته صلى الله عليه وسلم قد اقتربت، وأن نفسه قد نعيت إليه، وأنه يودع أمته.
ولذلك أطلق النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في تلك الأيام وصايا وثوابت ومسلمات ليتنا تدارسناها من حين إلى حين، ومن تلك العبارات والكلمات: قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد).
فأين الأمة اليوم من هذا الدرس العظيم، وقد تفرقت واختلفت بين قومية ووطنية؟! فقتلتها العصبية القبلية، والعادات الجاهلية؛ لأن التفاخر بالأنساب والألوان والأجناس باطل؛ فكلنا لآدم، وآدم من تراب، ألا تراهم في الحج بلباس واحد ونداء واحد؟!
فأين دعاة التحرر والمطالبون بحقوق المرأة من هذه الكلمات والعبارات؟
أين أنت -يا أمة الله- حتى تعرفي قدرك وقيمتك في هذا الدين؟ فأنت عزيزة مكرمة.
ودع نبي الأمة أمته في تلك المواقف والمشاعر بعد أن أوصى الحاضر بتبليغ الغائب، ودع الأمة وقد أتم الله به الدين وأقام به الملة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
نسينا في ودادكم كل غال
فأنتم اليوم أغلى ما لدينا
تسلى الناس في الدنيا وإنا
لعمر الله بعدكم ما سلينا
ولما نلقكم ولكن شوقاً
يذكرنا فكيف إذا التقينا
وسأسوق بعضاً من الأحاديث التي شوقنا بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج إلى بيت الله الحرام فقال: (تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
ولما سألته عائشة قائلة: (نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال لها: لكن أفضل الجهاد حج مبرور).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة في ضمان الله عز وجل - أي: في حفظه ورعايته - : رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله - فأبشروا يا عمار المساجد - ، ورجل خرج غازياً في سبيل الله - فأبشروا أيها المجاهدون -، ورجل خرج حاجاً) فأبشروا يا حجاج بيت الله! فلما سمع الصادقون هذه الأخبار والآثار انطلقوا ملبين مجيبين: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وإليك بعضاً من أخبار الملبين والمشتاقين:
قال الجريري : ( أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله عز وجل، فقيل له، فقال: يا ابن أخي! هذا هو الإحرام ) فكيف لو رأى اشتغال الحجيج اليوم بالقيل والقال وكثرة السؤال، بل بالتدخين والغناء في أحب البقاع إلى الله؟!
وحج مسروق فما نام إلا ساجداً.
فلله درهم! عرفوا قيمة الزمان وحرمة المكان.
ووقف مطرف بن الشخير وبكر بن عبد الله المزني في عرفات فقال أحدهما: ما أحلى هذا الجمع، لولا أني فيهم! وقال الآخر: اللهم لا تردهم من أجلي.
رحم الله العابدين، فعلى كثرة علمهم وخوفهم وجهادهم كانوا لا يرون أنفسهم شيئاً.
وفي زحام منى اصطدم رجل بـسالم بن عبد الله بن عمر ، فقال له الرجل: ما أراك إلا رجل سوء، فقال سالم : ( والله! ما عرفني إلا أنت ) فأين الذين يزكون أنفسهم؟!
وهذا الأوزاعي الذي كان بعلم الله واعياً يقول عنه ضمرة بن ربيعة : حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار؛ بل كان يصلي فإذا غلبه النوم استند إلى القتب.
وروى سليمان بن أيوب فقال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: شهدت ثمانين موقفاً في عرفة، وكان في كل موقف يقول: اللهم لا تجعل هذا آخر عهدي بك وببيتك، فوقف مرة ولم يقل ذلك، فقيل له: لمَ لم تقل؟ قال: استحييت من ربي، فمات من سنته.
كرر علي حديثهم يا حادي
فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
قال مالك : أحرم علي بن الحسين ، فلما أراد أن يلبي قالها فأغمي عليه وسقط من ناقته وهشم رأسه.
فلله درهم! كم امتلأت قلوبهم خشية ورهبة من ربهم، فلسان حالهم:
إليك إلهي قد أتيت ملبياً
فبارك إلهي حجتي ودعائيا
قصدتك مضطراً وجئتك باكياً
وحاشاك ربي أن ترد بكائيا
كفاني فخراً أنني لك عابد فيا
فرحي إن صرت عبداً مواليا
أتيت بلا زاد وجودك مطعمي وما خاب من يهفو لجودك ساعيا
إليك إلهي قد حضرت مؤملاً خلاص فؤادي من ذنوبي ملبيا
ونقلت الأخبار عن الحافظ البرزالي صاحب التاريخ والمعجم الكبير: أنه كان إذا قرأ الحديث فمر به حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغطوا رأسه، وكفنوه بإحرامه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، أنه كان إذا قرأ هذا الحديث بكى بكاءً شديداً ورق قلبه، فمات رحمه الله محرماً في مكة.
روح دعاها للوصال حبيبها
فسعت إليه تطيعه وتجيبه
يا مدعي صدق المحبة هكذا
فعل الحبيب إذا دعاه حبيبه
وأقول: قولوا لمن لم يكن صادقاً: لا يتعنى ولا يتعب نفسه.
ألف ابن القيم رحمه الله كتابه: (مفتاح دار السعادة) بمكة، يقول في مقدمة الكتاب: وكان هذا من بعض النزول والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله.
إن الله تفضل عليكم في جمعكم هذا؛ فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله مغفوراً لكم، فسبحان الله كم ترفع في ذلك اليوم من الدعوات! وكم ترفع فيه من الطلبات! وكم تغفر فيه من الذنوب والزلات، اللهم نحن عبيدك فأعتقنا من النار.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في
رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا رب أولى بذا كرماً فقد شبنا في الرق فأعتقنا من النار
قال ابن المبارك : جئت إلى سفيان عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع؟ فقال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم.
فما أعظم حسن ظنهم بربهم! وهو أرحم الراحمين.
ووقف أحد الخائفين بعرفه فمنعه الحياء من الدعاء، فقيل له: لم لا تدعو؟ فسكت، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتاً.
وكان أبو عبيدة الخواص إذا غلب عليه الشوق في ذلك الموقف قال: واشوقاه! إلى من يراني ولا أراه.
فهنيئاً لمن رزقه الله الوقوف بعرفة بجوار قوم يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ودموع منسكبة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه! وكم فيهم من محب ألهبه الشوق وأحرقه! وكم فيهم من تائب نصح لله في التوبة وصدقه! وكم فيهم من هارب لجأ إلى باب الله وطرقه! وكم فيهم من مستوجب للنار أنقذه الله فأعتقه! وكم فيهم من أسير للأوزار فكه الله وأطلقه! وكم فيهم من راجٍ أحسن الظن بالله فوفقه!
سبحان من لو سجدنا بالعيون له على حمى الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمته
ولا العشير ولا عشراً من العشر
هو الرفيع فلا الأبصار تدركه سبحانه من مليك نافذ القدر
سبحان من هو أنسي إذ خلوت به
في جوف ليلي وفي الظلماء والسحر
فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون! وكم من ليلة طاردتهم السباع في الغابات وفارقهم لذيذ المنام، وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛ فقطاع الطرق يعترضون المسافرين في كل وادٍ وفي كل مكان:
رب ليل بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
يقول الحاج عثمان : توقفنا للمبيت ليلة قريباً من إحدى الغابات، فلدغتني حية فبدأ سمها يسري في جسمي، وأصابتني حمى شديدة وألم عظيم وحتى شممت رائحة الموت تسري في عروقي، فكان أصحابي يذهبون للعمل وكنت أمكث تحت ظل الشجرة إلى أن يأتوا آخر النهار، وكان الشيطان يوسوس لي: أما كان الأولى أن تبقى في أرضك بدل أن تكلف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط؟! قال: فأثرت هذه الوساوس في نفسي وبدأت أثقل وأضعف وكدت أرجع إلى أرضي وداري، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفت عنه ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس بما فيني فقال: قم فتوضأ وصل ولن تجد إلا خيراً بإذن الله؛ أما قال الله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46]، قال: فقمت فتوضأت وصليت، فانشرح صدري وأذهب الله عني الحزن، يقول: كان الشوق للوصول إلى بيت الله الحرام قد ملأ قلوبنا، وخفف عنا آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، وقد مات ثلاثة منا في الطريق وكان آخرهم لما ركبنا السفينة إلى جدة، قال لنا في وصيته: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام فأخبرا الله تعالى أني مشتاق للقائه، واسألاه أن يجمعنا ووالدتي في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الحاج عثمان : لما مات صاحبنا الثالث نزلني هم شديد وغم عظيم، وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي فقد كان أكثرنا صبراً وقوة، فخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام والساعات على أحر من الجمر.
إذا برقت نحو الحجاز سحابة دعا الشوق مني برقها المتيامن
فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً، وخشيت أن أموت قبل أصل إلى بيت الله الحرام، فأوصيت صاحبي إذا أنا مت أن يكفنني في إحرامي، وأن يقربني قدر المستطاع إلى مكة، عل الله أن يضاعف لي الأجر ويتقبلني في الصالحين.
فيوشك أن يحول الموت بيني
وبين جوار بيتك والطواف
فكم من سائل لك ربي
رغباً ورهباً بين منتعل وحافي
أتاك الراغبون إليك شعثاً
يسوقون المقلدة الصواف
قال: فمكثنا في جدة أياماً حتى خف عني المرض، ثم واصلنا المسير على الأقدام، فكانت أنفاسي تتسارع والفرح يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام، فسكت الحاج عثمان وهو يكفف عبراته وهو يتذكر تلك الذكريات، ثم واصل الحديث قائلاً: أقسم بالله العظيم أني لم أر ولم أشعر بلذة في حياتي كتلك التي ملأت علي قلبي لما رأيت الكعبة المشرفة!
يقول: فلما رأيت الكعبة سجدت لله شكراً، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت! وأعظمه من مكان! ثم تذكرت أصحابي الذين ماتوا في الطريق ولم يصلوا فأخذت أدعو لهم، وحمدت الله أن بلغني الوصول، وسألت الله ألا يحرمني ولا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عن مليك مقتدر.
يقول: فمكثنا في مكة إلى موسم الحج، فحججنا ثم رجعنا إلى بلادنا بعد أن استمرت رحلتنا أكثر من سنتين، يقول: وها أنا الآن أقص لكم خبر تلك الرحلة التي مضى عليها أكثر من خمسين سنة، الله أكبر! فقد سمعوا منادي الله إذ يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]، وسمعوا منادي الله يناديهم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] فخرجوا مسرعين وهم يرددون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
ناداهم مناد الله قائلاً:
يا غافلاً عني! أنا الداعي، يا متخلفاً عن زيارتي! أنا ألقى الطائف والساعي، يا مشغولاً عن قصدي لو عرفت اطلاعي، أنا أقمت خليلي يدعو إلى سبيلي:
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]
أما والذي حج المحبون بيته
ولبوا له عند المهل وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرءوس تواضعاً لعزة من تعنوا الوجوه وتسلم
يهلون بالبيداء لبيك ربنا لك
الملك والحمد الذي أنت تعلم
دعاهم فلبوه رضاً ومحبةً فلما دعوه كان أقرب منهم
تراهم على الرمضاء شعثاً رءوسهم وغبراً وهم فيها أسر وأنعم
وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة
ولم يثنهم لذاتهم والتنعم
يسيرون من أقطارها وفجاجها رجالاً وركباناً ولله أسلموا
نقرأ ونسمع عن أولئك الذين بذلوا كل غالٍ ونفيس للوصول إلى بيت الحرام، ثم نرى من حال كثير من المسلمين اليوم ممن تحققت فيهم الشروط الشرعية الموجبة لحج بيت الله الحرام، ومع ذلك فهم يسوفون ويتباطئون، أفلا يتذكرون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة).
أتدرون من المحروم؟ إن المحروم هو من جاء وصفه في حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول: إن عبداً صححت له جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم) وتأمل في قوله: ( لا يفد إلي ) فلم يقل: إلى بيتي؛ لأن الحج هو الرحلة إلى الله، فكيف لا يكون محروماً من لا يرحل إلى الله:
لبيك قد لبيت لك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ما خاب عبد سألك
لبيك إن الحمد لك لولاك يا رب هلك
لبيك إن الحمد لك
اللهم! هاهم ضيوفك بين يديك وفدوا إليك شعثاً غبراً، وقفوا وقوف الراجين، ونفروا نفور المؤملين، وباتوا مبيت الخاشعين، وضحوا تضحية الشاكرين، ورموا رمي المعاهدين، وتحللوا تحلل المبتهجين، وطافوا طواف المودعين، فتقبل منهم ربنا، فأنت وحدك الغفور البر الرحيم.
اللهم اجعل حجنا وحجهم مبروراً، وسعينا وسعيهم مشكوراً، وذنبنا وذنبهم مغفوراً.
اللهم من أرادوا الحج فيسر لهم السبل يا رب العالمين! ومن حرم ذلك فاكتب له الأجر يا بر! يا رحيم!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا بر! يا رحيم!
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم صن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم، وثبت حجتهم يا رب العالمين!
اللهم اكبت عدوك وعدوهم؛ فإنهم لا يعجزونك يا قوي! يا عزيز!
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
انها النار | 3542 استماع |
بر الوالدين | 3421 استماع |
أحوال العابدات | 3410 استماع |
يأجوج ومأجوج | 3348 استماع |
البداية والنهاية | 3335 استماع |
وقت وأخ وخمر وأخت | 3269 استماع |
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب | 3254 استماع |
أين دارك غداً | 3204 استماع |
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان | 3097 استماع |
أين أنتن من هؤلاء؟ | 3096 استماع |