لم يتجاوز عددهم العشرين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر الأحبة! جاءني أحد الشباب منذ فترة وبدأ يعرض عليّ مشاكله وهي من أكثر مشاكل الشباب، فقال: أشكو من كثرة الهموم والغموم، ومن قلة التوفيق في كل شأن من شئون حياتي، فما طرقت باباً إلا وجدته مؤصداً مغلقاً، وما أقدمت على مشروع إلا باء بالفشل، وزيادة على هذا هناك وجع يلازمني في بطني، وقد عرضت نفسي على الأطباء، وتنقلت من مكان إلى مكان طلباً للعلاج فلم أجده، فقلت له مستعيناً بالله:

إن المريض إذا مرض يذهب إلى الطبيب، والطبيب ينظر في أعراض المرض، ثم يبدأ بتشخيص المرض، فإذا اكتشف المرض نصح بالدواء، والمطلوب من المريض حين يُعطى الدواء أن يحافظ عليه بكميته المحددة وفي وقته المحدد.

وقلت له أيضاً: إن المطلوب منك أن تحافظ على الدواء، فقال: لا توص حريصاً، فلقد تعبت وأنا أبحث عن العلاج والدواء، فهمومي كثيرة، ومشاكلي كثيرة، وآلامي التي أقضت مضجعي -فلا أهنأ بطعام ولا بشراب ولا بمنام- كثيرة، فقلت له: إن العلاج موجود، ولكن المطلوب منك أن تحافظ على العلاج وتداوم عليه، قال: وما هو؟ فقلت: خمس صلوات في اليوم والليلة، من أداهن حيث ينادى بهن - أي: في المساجد - كن له نوراً وضياءً وبرهاناً يوم القيامة، ومن ضيعهن ضيعه الله يوم القيامة، قال عز وجل: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] وأي هدىً أعظم من المحافظة على الصلوات! وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].

فهذا هو العلاج الحقيقي لذلك الشاب، وعلاج مشاكل كل واحد منا: أن يطرق باب الطبيب خمس مرات، وأن يرتمي بين يديه فيرفع إليه الحاجات والمسائل، وأن يبتهل إليه بالدعاء والتضرع، فوالله! لن تحل مشاكلنا ولن تكشف همومنا ولن تتبدل أحوالنا إلا إذا استقمنا في الصلوات؛ فإن حالنا للأسف مع الصلوات يبكي العين، ويدمي القلب، ويقطع الجبين.

إنقسم المسلمون مع صلاتهم إلى ثلاثة أقسام:

قسم لا يصلي ولا يركع ولا يسجد لا بليل ولا نهار، وأسماؤهم: عبد الله وعبد الرحمن، وكذبوا والله! إذ لو كانوا عبيداً لله لما خالفوا أوامر الله، قال عز وجل: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6]، ووالله! إنا لنعرف كثيراً ممن منَّ الله عليهم بالاستقامة والهداية، فسألناهم عن أحوالهم في الصلوات، فكثير منهم يقول: مرت علي سنوات لم أسجد فيها ولم أركع ، سنوات لم يسجدوا لله فيها ولم يركعوا! فأي حياة هذه؟! والله! لن يستقيم حال الإنسان إلا إذا استقام على صلاته، ووالله! إنك يا عبد الله! لن تتقرب إلى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلوات، قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) فوالله! لن ينفعك صوم ولا حج ولا زكاة ولا أي نوع من الأعمال إلا إذا صلح أمر الصلاة، فإن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن صلاته: إن استقامت وصلحت نظر الله في باقي الأعمال، وإلا: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

وهناك قسم: لا يركع ولا يسجد وهم كثير، وقد امتلأت بهم البيوت وانتشروا في الطرقات، وتراهم في المجمعات -في أوقات الصلوات- يغدون ويروحون وكأن الأمر لا يعنيهم!

وقسم آخر: وهم أيضاً كثير، يقدمون ويؤخرون، وينامون ويتكاسلون، ويلعبون ويلهون، إن استيقظ أحدهم من نومه صلى، إن انتهى من لعبه صلى، وإن انتهى من أكله وشربه صلى، وتناسوا أن الله قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، وتناسوا أيضاً قول الله تعالى: لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9]، وتناسوا قوله أيضاً: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].

ولو أنك يا عبد الله، موظف في شركة من الشركات أو مؤسسة من المؤسسات، ودوامها يبدأ من الساعة السابعة صباحاً، فأتيت اليوم الأول بعد عشرين دقيقة من مرور الوقت واستقبلك الرئيس، فإنه سيغض الطرف عنك، فإن جئتهم في اليوم الثاني كذلك فسيخاطبك ويقول لك: إن نظام المؤسسة ودوامها يبدأ من الساعة السابعة لا من السابعة والنصف، ثم إن تكرر منك التأخر ستعطى إنذاراً شفهياً أو خطياً، فإذا تكرر منك التخلف والتأخر فلا مكان لك في تلك المؤسسة، فهذه مؤسسة وشركة من الشركات، فكيف بالذين يتأخرون عن طاعة رب الأرض والسماوات مرات ومرات!

قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله).

إذاً فالناس في الصلاة على أقسام: قسم لا يركع ولا يسجد، وقسم يقدم ويؤخر، ويتهاون ويتكاسل وهم كثير، ولا ينطلقون إلى المساجد إلا إذا سمعوا الإقامة أو مضى من الصلاة ركعة أو ركعتين، وتناسوا أن الله قال: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11].

وقسم ثالث: وهم قلة قليلة -وأنا أعني ما أقول- مقارنة بتعداد هذه الأمة، أمة المليار أو يزيد، فإن أردت أن تشهد هذه القلة فاشهدها في صلاة الفجر، فإنك سترى العجب العجاب، وستعرف أن آلافاً مؤلفة بل ملايين تغط في سبات عميق، وقلة قليلة هي التي انتصرت على فرشها وشهواتها وانطلقت تجيب منادي الله، وحين ينطلق أذان الفجر فاخرج إلى الشارع، حتى تعرف مقدار المأساة؛ فإنك لا تكاد ترى سيارة تتحرك، ولا تكاد ترى إنساناً يسير، ولا تكاد تسمع أصواتاً في البيوت، ثم ادخل إلى المسجد فسترى آباءً وكباراً في السن، وقلة قليلة من الشباب الذين هداهم الله، والبقية الباقية تغط في سبات عميق!

ثم اخرج بعد صلاة الفجر بساعة، وانظر إلى الناس وقد ملئوا الطرقات والتقاطعات، وانتشروا في مناكب الأرض يطلبون الدنيا، ولا كأن الله قبلها بساعة ناداهم مناديه: الصلاة خير من النوم! وواقع حال كثير من الناس يقول: النوم خير من الصلاة! فأسألك بالله العظيم هل صليت الفجر اليوم في صفوف المصلين أم اتصفت بصفات المنافقين؟

وأليس أثقل الصلوات عليهم صلاة الفجر وصلاة العشاء؟ وأليست طائفة من هذه الأمة قد اتصفت بالنفاق في مشارق الأرض ومغاربها؟ فهل تريد أن تعرف مقدار المأساة؟ اسمع بارك الله فيك!

إن الصلاة نور، وأنت لن تستطيع أن تسير في الظلمات، وكثير يتخبطون ويشكون من الهموم والغموم، ومآسي الشباب في كل مكان كثيرة، وعلاجهم: ادخلوا بيوت الرحمن، وانضبطوا في صفوف المصلين.

وقد التقيت بثلاثة من الشباب على إحدى الطرق الشمالية في ساعة متأخرة من الليل، فتوقفت وركب الثلاثة، وقلت: أين تريدون؟ قالوا: نريد الدمام، ودار بيني وبينهم هذا الحديث:

قلت: ماذا تريدون من هناك؟

قالوا: نبحث عن وظائف.

ولا عيب أن الإنسان يسعى في طلب الرزق، لكن العيب كل العيب أن تخرجنا الدنيا ولا نخرج لأوامر الله جل في علاه، نخرج لقضاء حوائجنا ولأكلنا وشربنا ومنادي الله ينادينا: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم نتهاون في الاستجابة لنداء الله!!

فقلت لهم: ما هي الشهادات والمؤهلات التي تحملونها؟

فقال الذي بجواري: أنا عندي شهادة ثاني متوسط، وقال الذي خلفه: أنا عندي أول متوسط، وقال الثالث: أنا لم أكمل السنة الخامسة الابتدائية.

فقلت: ما شاء الله على هذه المؤهلات، لكن ليست هي المؤهلات للحصول على الرزق، فإن الأمر لله من قبل ومن بعد، قال عز وجل: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2] فنحن نعرف أصحاب شهادات عالية لم يجدوا وظائف ولا مرتبات، ونعرف من لا يقرأ ولا يكتب أنعم الله عليه وصب عليه من البركات، والسر: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132].

وقد جاء أحدهم إلى أحد الصالحين يشكو ارتفاع الأسعار ويقول: غلت الأسعار، وارتفعت الأثمان للمطاعم والمشارب، وهكذا هو حالنا: نتأثر بارتفاع الأسعار يمنة ويسرة، ولا نتأثر بأحوال المسلمين! ونخاف على ما يسد جوعنا ويملأ بطوننا، ولا نخاف من تقرير مصيرنا إما إلى جنة وإما إلى نار!

فقال الصالح: والله! ما أبالي لو أن حبة الشعير بدينار؛ علي أن أعبده كما أمرني وعليه أن يرزقني كما وعدني: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57].

ثم قلت لهم: هذه هي الشهادات والمؤهلات! اصدقوني كيف أنتم مع صلواتكم؟

فقال الذي بجواري: أقول لك الصدق أم أكذب عليك؟

فقلت: إن كذبت أنت تكذب على نفسك، ولا يضرني كذبك: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [غافر:28].

فقال: أنا لا أصلي!

قلت: كافر.

قال: لا.

قلت: بلى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) فكم هناك من الكفار من أبناء المسلمين الذين لا يركعون ولا يسجدون؟! وحدث ولا حرج.

ثم قلت للثاني: وأنت؟!

فقال: أنا خير منه.

قلت: وكيف؟

قال: أنا أصلي من الجمعة إلى الجمعة!

قلت: وأنت مثله. ثم قلت للثالث: وأنت؟!

قال: أنا أفضل منهما.

قلت: كيف؟

قال: أنا أصلي في اليوم صلاتين!

فقلت: هذا دين جديد: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] وهذا هو الواقع، شئنا أم أبينا، فطلابنا لا يصلون، بل جاءني سؤال من الطلاب يقول فيه: ما حكم الذي يصلي بدون وضوء؟!

قلت: هذا كفر ومن نواقض الإسلام؛ لأنه استهزاء بالدين، فهل يخفى عليه أو على كثير من أمثاله أنه لا صلاة لمن لا طهور له؟! وهل يخفى عليه أن عمود الدين هي الصلاة؟!

سبق أن ذكرنا واقع الأولاد مع الصلاة، واسمع إلى واقع البنات بارك الله فيك: تقول إحدى قريباتي التي تعمل مدرسة في إحدى المدارس: خرجت من غرفة المدرسات فإذا بطالبتين بجانب الغرفة تتبادلان الحديث، فإذا إحداهما تقول للأخرى: لماذا لا تصلين معنا في المصلى؟ قالت: أنا حتى في البيت لا أصلي! وأهلي كذلك لا يصلون! أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين:4].

والله! لو أن القلوب سليمة

لتقطعت ألماً من الحرمان

ولكنها سكرى بحب حياتها

الدنيا وسوف تفيق بعد زمان

فقل لي بربك متى ستنضم إلى صفوف المصلين؟ ومتى ستكون من الذين هم على صلاتهم دائمون؟ ومتى ستكون من الذين هم على صلاتهم يحافظون؟ ومتى ستستقيم وتعلم أن أعظم أمور الدين بعد توحيد الله المحافظة على الصلوات والمسارعة إلى المساجد والمحافظة على تكبيرات الإحرام؟

نفعنا الله بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] واعلموا أن من صفات المتقين: أنهم على صلاتهم يحافظون، واعلم أنك لن تستطيع أن تواجه متقلبات الحياة إلا إذا انضممت واستقمت في صفوف المصلين، قال الله جل في علاه: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22]، أي المصلين؟ هل هم الذين يصلون من الجمعة إلى الجمعة، أو هم الذين يصلون في اليوم صلاتين، أو هم الذين يقدمون ويؤخرون؟ الجواب: كلا، بل هم: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]. ثم أثمرت صلواتهم خشية وأخلاقاً في حياتهم: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28] فمن أين أتت الخشية؟ أتت من المحافظة على الصلوات: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32] فكيف أدوا الأمانات وحفظوا الحقوق؟ أدوها عندما حافظوا على الصلوات، وكانوا ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29-30]، وحصنوا الفروج وغضوا الأبصار لأنهم من: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23] فإذا حصلت المداومة والمحافظة فإن النتيجة هي: أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35].

فوالله! لن تتقرب إلى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلوات، يقول أنس رضي الله عنه: (بينما كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل لا نعرفه، قال: أين هو ابن عبد المطلب؟ قلنا: ذلك الأبيض الأمهق) -أي: أنه صلى الله عليه وسلم أبيض مشرب بحمرة، إذا تبسم كأن وجهه فلقة القمر- قال: (فجاءه وقال: يا ابن عبد المطلب! إني سائلك ومشدد عليك السؤال، وكان متكئاً فجلس، قال: يا محمد! من الذي رفع السماء؟ قال: الله، قال: يا محمد! ومن الذي بسط الأرض؟ قال: الله، قال: ومن الذي نصب الجبال يا محمد؟ قال: الله، قال: أسألك بالذي رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ فاحمر وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم نعم، قال: أسألك بالذي رفع وبسط ونصب وأرسلك إلينا رسولاً، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بالصيام؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بأداء الزكاة؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بحج بيت الله الحرام؟ قال: اللهم نعم، قال: والذي بعثك بالحق! والذي رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، وأرسلك إلينا رسولاً! لأحافظن على الصلاة، ولأصومن رمضان، وأعطي الزكاة، وأحج البيت، ولا أزيد على ذلك، فلما انطلق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة). أي: إن صدق فيما قال، وحافظ على الصلوات، وصام رمضان، وأدى الزكاة، وحج بيت الله الحرام دخل الجنة.

فتأمل بارك الله فيك، وتأمل رعاك الله! أن الزكاة قد تسقط في بعض الأحوال؛ وذلك في حالة عدم ما يستوجب الزكاة، ويسقط الصيام بالأعذار،كما قال عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، والحج يكون على من استطاع إليه سبيلاً، لكن قل لي بالله العظيم: هل تسقط الصلاة في أي حال من الأحوال؟! الجواب: لا، وعلى هذا فمن حافظ على صلاته دخل الجنة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان حقاً على الله لمن لقيه وهو يحافظ على هذه الصلوات أن يدخله الجنة) أي: حق على الله لمن لقيه وهو محافظ على هذه الصلوات أن يدخله الجنة، قال أبو ذر : (وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، فأعادها في الثالثة، فقال صلى الله عليه وسلم: على رغم أنف أبي ذر).

فهذه خمس صلوات، من أداهن حيث ينادى بهن كن له نوراً وضياءً وبرهاناً يوم القيامة، ومن ضيعهن فلا يلومن إلا نفسه.

إن هذا الحديث خطير، والقضية مهمة؛ فأبناؤنا يموتون على غير صلوات، بل حتى الشيب تهاونوا في أدائها، بل لقد مات رجل في السبعين من عمره منذ فترة ماضية فسألوني: هل نصلي عليه أم لا؟ فقلت: ولماذا لا تصلون عليه؟ قالوا: ما سجد لله سجدة من قبل!!

ومات أحد الشباب في مقتبل العمر فلما بدءوا بتغسيله انقلبت بشرته من البياض الشديد إلى السواد الشديد، فخاف المغسلون وخرجوا من مكان التغسيل، فإذا بالأب في خارج المغتسل يدخن، فقالوا: هل الميت ميتكم؟! قال: نعم، قالوا: ما خبر هذا؟ قال الأب: لم يكن من المصلين, فقالوا: خذوه أنتم وغسلوه وكفنوه، وصدق الله إذ يقول: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:33].

والعكس بالعكس: فقد مات أحد الأخيار في مقتبل العمر، وهو من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومن المسابقين إلى الصفوف الأولى، وما تخلف عن الفجر يوماً، وهو ممن يدعو ويعظ بالموعظة والذكرى الحسنة. يقول أحد مشايخنا: أنا كنت ممن غسله وكفنه، فلما بدأنا بتغسيله وبدأنا بإعداد المسك والكافور، قال: والله الذي لا إله إلا هو! لقد فاحت رائحة المسك منه قبل أن نضع المسك عليه، فقلت لصاحبي: هل تشم؟ قال: هذا فضل الله يؤتيه من يشاء: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا [فصلت:30]، ويقول شيخنا: فلما كفناه وذهبنا به إلى المقبرة، وكنت ممن أنزله في قبره، يقول: والله الذي لا إله إلا هو! إننا عندما أنزلناه إنه لما أنزلوه أخذ من بين أيدينا، وحمل من بين أيدينا والله! ما حملناه، ثم وسد في التراب والله! ما وسدناه، ثم وجه إلى القبلة والله! ما وجهناه، ثم كشفت عن وجهه فإذا هو يضحك، يقول الشيخ: والله! لولا أني أنا الذي غسلته وكفنته ما كنت أظن أنه قد مات.

فاتقوا الله عباد الله! وحافظوا على أوامره، وانتهوا عن الفواحش والمنكرات، واعلموا أن المحافظة على الصلوات ضمان بخاتمة حسنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله) أي: في حفظ الله ورعايته. وقال بعض أهل العلم: معناه: أنه إذا مات من يومه دخل الجنة، ثم ليعلم المسلم أنه مسئول عن أهل بيته، قال صلى الله عليه وسلم: (مرو أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر).

فاصنعوا لنا أبطالاً، واصنعوا لنا رجالاً، واصنعوا لنا أمهات عابدات.

لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح

وصناعة الأبطال علم علمه أولو الصلاح

من لم يلقن أصله من أهله فقد النجاح

لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح

في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح

شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح

من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

اللهم اجعلنا من الذين هم على صلاتهم دائمون، ومن الذين هم على صلاتهم يحافظون، ومن الذين هم في صلاتهم خاشعون، اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم اصلح لنا الشباب والشيب، واحفظ نساءنا وأطفالنا يا رب العالمين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم اجعلنا من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون فيك لومة لائم يا رب العالمين.

عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .