فتح مكة في رمضان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله! في مثل هذه الأيام المباركة من رمضان دخل المسلمون بقيادة القائد الأعلى محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه مكة فاتحين منتصرين، يسبحون الله ويثنون عليه مكبرين، فبعد أن خانت مكة العهود والمواثيق لا بد من تأديب الخونة والكاذبين، لقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صلحاً تاريخياً مع قريش، وقد التزم صلى الله عليه وسلم بكل دقة متناهية ببنود هذا الصلح، فطبقه نصاً وروحاً، فبرهن عملياً على أصالة الأخلاق الإسلامية في الالتزام بمبدأ الوفاء، لكن إن خانوا العهود، وبدلوا المواثيق أفنرضى بالذل والهوان؟ أما قال الله: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]؟

خانت قريش العهد فأمكن الله منهم، وسيمكن الله من جميع الخائنين.

لقد كان من بنود الصلح الجائرة الظالمة: أنه من أتى المسلمين من الكفار مسلماً ردوه إلى قريش، ومن أتى من المسلمين إلى قريش مرتداً فلا ترده مكة إلى المسلمين، لقد أصاب المسلمين الهم والغم من ذلك، لكن الله جعل ذلك نصراً وفتحاً مبيناً للمسلمين، فما حاجة الإسلام للمرتدين؟ ولقد وفى لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فرد من أتاه من الرجال إلى مكة، ومن أولئك الرجال أبو بصير مسعر الحرب وقائد الثوار المسلمين، الذي أنشأ له قاعدة تضرب قوافل قريش والمشركين.

ومن بنود ذلك الصلح أيضاً: ألا تعتدي قريش وحلفاؤها من كنانة على المسلمين وحلفائهم من خزاعة، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم لعشر سنين.. إلى غير ذلك من البنود، فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم وحلفاؤه بالعهد، ووقفوا عند شرف الكلمة التي أعطوها، فهل التزمت قريش وحلفاؤها بالعهد والوعد، ووقفوا عند شرف الكلمة التي أعطوها؟

كلا، أقدمت كنانة بمساندة حلفائها القرشيين على جريمة من أبشع جرائم الغدر والمكر والخيانة، غدروا بأكثر من خمسة وعشرين من خزاعة، فقتلوهم داخل الحرم، ولم يمض على توقيع الصلح سنتان، قتلوهم وهم عزل من السلاح في حالة تهجد وتبتل ركعاً سجداً آمنين مستأمنين، فكان ذلك بمثابة نكث ونقض كامل لبنود صلح الحديبية، وعندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نبأ ذلك العمل الإجرامي المتمثل في الغدر بحلفائه الذين بموجب الصلح له ما لهم وعليه ما عليهم، لم يتعجل بأبي هو وأمي، بل أرسل إليهم مبعوثاً خاصاً يتضمن تخيير قريش الطرف المسئول عن تنفيذ بنود الصلح بين ثلاثة أمور:

إما أن تدفع قريش وحلفاؤها من كنانة ديات القتلى من حلفاء المسلمين من خزاعة، فيستمر مفعول الصلح.

وإما أن تتبرأ قريش من الغادرين من كنانة ليصفي النبي صلى الله عليه وسلم الحساب معهم وحدهم، وينزل بهم العقاب الذي استحقوه لغدرهم بحلفائه.

وإما السيف بينه وبينهم، بصفتهم مسئولين عن تنفيذ الصلح؛ ولأن الغدر تم بموافقتهم وتأييدهم، فتكبرت قريش وتجبرت، ورفضت دفع الديات، ورفضت أن تتبرأ من الغادرين، وأنها ترحب بالحرب وتفضلها، فجاهرت بخيانتها وتبجحت بها، فكان لا بد من نصرة المظلومين، والاستجابة لأمر الله الذي قال: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، وقال: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الأنفال:71]؛ لذلك قرر النبي صلى الله عليه وسلم الزحف على المشركين في مكة، فتحرك من المدينة في جيشه العظيم الذي بلغ عشرة آلاف مقاتل؛ لتأديب الخائنين الناكثين، فداهم مكة على حين غفلة من أهلها، وقد طمس الله عنهم أنباء الغزو الشامل من قبل، حتى وصلت طلائع الجيش النبوي إلى ضواحي مكة، فأسقط في أيدي زعمائها الذين رأوا ثمن الخيانة والغدر سيوفاً إسلامية تلمع وتحيط بهم من كل جانب، فلم يسعهم حين أحاطت بهم القوات المسلمة من كل الجهات إلا الاستسلام والتسليم.

خرج أبو سفيان قائد مكة ليرى الخبر، فاستقبله العباس واستأمن له عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى قومك ولك ولهم الأمان).

فرجع أبو سفيان، وأخذت كتائب الجيش المسلم تتأهب لدخول مكة، وأخذت تمر أمام أبي سفيان وهو واقف ينظر ويتعجب، وكلما مرت به كتيبة كبرت: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! فيسأل العباس : من هؤلاء؟ فيخبره عنهم، حتى أقبلت الكتيبة الخضراء التي يحمل رايتها سعد بن عبادة ، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم محاط بأصحابه، ورديفه شاب صغير هو أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فمرت الكتيبة الخضراء وهم في الحديد لا يرى منهم إلا حدق العيون، وفيهم ألفا دارع، فانخلع قلب أبي سفيان ، إنها كتيبة لم ير العرب مثلها بأساً وإقداماً، فقال أبو سفيان : ما لأحد بهؤلاء طاقة، والله -يا أبا الفضل - لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، قال العباس : يا أبا سفيان ! إنها النبوة، وإنه نصر رب العالمين، قال: نعم، هي إذاً، فما أغنت عنا آلهتنا من شيء.

ثم انطلق أبو سفيان إلى أهل مكة، وأعلن لهم الأمان الذي منحه إياهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من حمل سيفاً، أو تعرض لكتائب المسلمين، فدخلت الجيوش المسلمة مكة من جميع الجهات، واستسلمت مكة، فلم يكن هناك قتال ولا مقاومة إلا ما كان من جيش خالد بن الوليد حين التقى بسفهاء مكة وأوباشها، فرموا خالداً ومن معه بالنبال وعارضوه بالسيوف، فحمل عليهم خالد ومن معه حملة فرقت جمعهم، وهزمتهم شر هزيمة، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها، وضربت له قبة بالحجون فنزل فيها، واستراح من وعثاء السفر، استسلمت مكة للفاتح الرشيد، وألقت مقاليدها بين يديه، وانتهت مهمة القائد بهذا الاستسلام، ركب ناقته القصواء، وتوجه نحو البيت العتيق، ومن حوله المهاجرون والأنصار، يحيطون به من كل جانب، طاف بالبيت سبعاً مطأطئ الرأس، دموعه على خده، يخافت ربه بالحمد والثناء، طاف وهو يردد قول الله: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]سقطت مكة معقل الكفر والوثنية، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وأصدر القائد العام عفواً عن أولئك الذين طردوه، وصبوا صنوف العذاب عليه وعلى أصحابه، أولئك الذين حاصروه في الشعب وحرموه ومن معه من أبسط حقوق الإنسان، ألم يتآمروا على قتله، وأخرجوه من مسقط رأسه؟ أما قاتلوه يوم بدر وأحد، وحاصروه يوم الخندق حين تآمروا مع اليهود؟!

هاهم اليوم بين يديه وهو قادر على أن يذيقهم العذاب ألواناً، فأعلنها عفواً وإحساناً؛ لأن الله أرسله رحمة للعالمين.

أخي الحبيب! قف معي وتأمل بعد سماع خبر هذا الفتح العظيم في مثل هذه الأيام من هذا الشهر الكريم، عشر سنوات ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم مطارداً مطلوباً حياً أو ميتاً، وما بين دخوله منتصراً فاتحاً، كيف تحقق هذا النصر ومن الذي حققه؟!

تحقق بالإيمان والصبر والثقة واليقين، تحقق بالأخلاق الإسلامية من وفاء وصدق وعفو عند التمكين، تحقق بالإعداد والاستعداد لمثل هذا الفتح العظيم، ولن ينتصر المسلمون اليوم على أعدائهم إلا بما انتصر به أسلافهم من قبل قال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

أخي الحبيب! ما كان لتلك الانتصارات أن تتحقق لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع ذلك بمفرده، لكن كما قال الله: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:62-64] وهل كانت الكوكبة التي التفت حول النبي صلى الله عليه وسلم إلا من الشباب، لكن أي شباب، شباب تربوا على تقوى من الله ورضوان.

شباب ذللوا سبل المعالي

ما عرفوا سوى الإسلام ديناً

تعهدهم فأنبتهم نباتا كريما طاب في الدنيا غصونا

إذا شهدوا الوغى كانوا كماة

يدكون المعاقل والحصونا

شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا

وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحوناً

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].

عباد الله! إن نجاح الأمم يرجع إلى مقدار علو همم شبابها، وإلى مقدار آمالهم وأعمالهم.

يا معشر الشباب! إن الشباب هو القوة، فالشمس لا تملأه النهار في آخره كما تملؤه في أوله، الشباب ثقة وإصرار وعزيمة، الشباب لا يكل ولا يتعب من التعب، كانت حكمة الشباب التي يعملون عليها: اطلب الموت توهب لك الحياة، والنفس إذا لم تخش الموت عاشت عزيزة، إن شجاعة الأسد هي التي جعلته لا يثمن كما تثمن الشاة للذبح، سيكتب التاريخ بأحرف من نور أولئك الشباب الذين التفوا حول نبيهم، ونصروا الإسلام بهمم عالية، وغيروا مجرى التاريخ بإيمانهم وعقيدتهم، هل تأملت معي المشهد حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً؟! من الذي كان خلفه ورديفه على ناقته؟! إنه أسامة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، ما أجمله وأروعه من منظر والشاب الصغير خلف نبيه على بعيره، وذراعيه ملتفة حول النبي صلى الله عليه وسلم، كان صلى الله عليه وسلم يقول لـعائشة عن أسامة : (يا عائشة ! أحبيه، فإني أحبه).

وفي سن مبكرة لم تتجاوز العشرين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش بين أفراده وجنوده أبو بكر وعمر بن الخطاب ، وسرت همهمة بين نفر من المسلمين تعاظمهم الأمر، واستكثروا على الفتى الشاب إمارة جيش فيه شيوخ الأنصار وكبار المهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا - يعني: أسامة ابنه- لمن أحب الناس إلي بعده، وإنه أهل للإمارة والإمارة أهل له)، أتدري أيها الشاب لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ لأنه رضي الله عنه على حداثة سنه كان مؤمناً صلباً، ومسلماً قوياً يحمل كل تبعات إيمانه ودينه في ولاء مكين، وعزيمة قاهرة جعلته قريباً من قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وكبيراً في عينيه، هذا حال شباب الأمس، فما أخبار شباب اليوم؟

وللإنصاف ليس كلهم، لكن للأسف أكثرهم، شباب موسيقى وألحان، وشباب شاشات وقنوات، شباب مقاهي واستراحات، شباب في الأسواق والمجمعات؛ لانتهاك أعراض المسلمات، شباب (أكاديمي استار) برنامج الفجار، شباب كرة القدم بالليل والنهار، كرة القدم وما أدراك ما كرة القدم؟

كرة القدم أكلت عقول شبابنا

ويهود تجتاح الحرم

عجباً لآلاف الشباب وإنهم أهل الشيم

دخل العدو بلادهم

وضجيجها زرع الصمم

أيسجل التاريخ أنا أمة مستهترة

شهدت سقوط بلادها وعيونها فوق الكرة؟

بطولاتنا كانت في بدر والقادسية واليوم بطولاتنا في ملاعب الكرة، أين الذين يقولون: إما أن يحيا الإسلام عزيزاً أو لا خير في الحياة؟!

مصعب بن عمير يفتح المدينة بالقرآن

أين من يقول للأعداء: لا وألف لا؟! إن لم يكن الشباب فمن يكون؟ لكن أي شباب؟! هاهو مصعب بن عمير يفتح المدينة بالقرآن، ويعدها ليوم الهجرة العظيم، لقد تحمل مصعب أخطر قضية، وقام بأصعب مهمة حين اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أول سفير له إلى أهل المدينة، تحمل ابن العشرين المسئولية، وحمل الأمانة على أكمل وجه، فانتاب نور الإيمان على يديه إلى سادات الأنصار؛ فأسلم على يديه أسيد بن حضير الذي تنزلت الملائكة لتلاوته القرآن، وأسلم على يديه سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، جاء مصعب إلى المدينة وما فيها سوى اثني عشر مسلماً، وما مضت أشهر حتى دخل الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة، لقد أثبت مصعب الذي غزا قلوب أهل المدينة بزهده وصدقه وإخلاصه أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار.

فمن الذي صنع مصعباً وأمثاله من الشباب؟ لقد صنعهم الإسلام، وإن الإسلام الذي صنعهم لقادر على أن يصنع أمثالهم، من هو مصعب قبل الإسلام؟ ومن هو مصعب بعد الإسلام؟ مصعب بن عمير غرة فتيان قريش، وأوضؤهم بهاءً وجمالاً وشباباً، يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون: كان أعطر أهل مكة، ولد في النعمة وغذي بها، وشب تحت خمائلها، لم يكن لفتيات مكة ونسائها حديثاً إلا مصعباً الذي لا يلبس إلا الحرير، ولا يجلس إلا على الوفير، الابن المدلل لأمه وأبيه، فلما دخل نور الإيمان في قلبه تبدلت الحال، وتغيرت الآمال، فأصبح الفتى المتأنق المتعطر لا يرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً ويجوع أياماً، خرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول النبي صلى الله عليه وسلم، فما إن رأوه حتى حنوا رءوسهم، وغضوا أبصارهم، وذرفت عيونهم دمعاً شجياً، ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، وتذكروا صورته الأولى قبل إسلامه حين كان ثيابه الديباج والحرير، فاسترجع النبي صلى الله عليه وسلم، ودار في صدره ما دار في صدور أصحابه، فقال: (لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتىً أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله) سمعتم يا معشر الشباب والشيب! لماذا ترك مصعب هذا كله؟ تركه حباً لله ورسوله.

أسألكم بالله وكل واحد منا يجيب نفسه بنفسه: هل نحن حقيقة نحب الله ورسوله؟ إن كان الجواب نعم، فهل آن أن نترك اللهو والضياع؟ أما آن أن نترك اللهو والضياع والمعاصي، ونستمع إلى نداء الرحمن الذي ملأ الآذان: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]؟ قل معي وردد: بلى آن! بلى آن! بلى آن.

عباد الله! إذا لم نجد حلاوة الإيمان في رمضان فمتى إذاً؟! أما تعلم أيها الغالي أن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، بل ما وقر في القلب وصدقه اللسان، وعملت به الجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، يزيد بالطاعات والقربات إلى رب الأرض والسماوات، وينقص باللهو واللعب والغفلة والإعراض عن منهج الله عز وجل، ينقص الإيمان بمجالسة أهل الباطل المعرضين عن شرع الله، الساقطين في حفر الرذائل والشهوات، ينقص الإيمان بإطلاق الجوارح في المعاصي، وتلطيخ الأعضاء بالسيئات، وتسويد القلب بالذنوب، عين تنظر إلى الحرام، وأذن تستمع إلى الخنا، وقلب يرتع بالشهوات، ويد تبطش ظلماً، وفرج يقترف الفحشاء، وبطن يمتلئ بالآثام والحرام؟ رحماك يا رب وعفوك! رحماك يا رب وعفوك!

يا صائماً عافت جوارحه الخنا

أبشر برضوان من الديان

عفو ومغفرة ومسكن جنة

تأوي بها من مدخل الريان

معاشر الأحبة! فتحت مكة، وتحققت الانتصارات بأمثال أولئك الشباب، فمن الذي سيفتح ويرد لنا أقصانا؟! ومن الذي سيصون أعراضنا في العراق؟!

اللهم بارك لنا في الشباب والشيب، اللهم رد الشباب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين!

اللهم اجعلهم هداة مهتدين، وزينهم بنور الإيمان يا رب العالمين، انصرهم بالإسلام وانصر الإسلام بهم يا سميع يا مجيب!

اللهم يا غياث المستغيثين! ويا أمان الخائفين! ويا عون المؤمنين! ويا جار المستجيرين! يا ذا العظمة والسلطان! يا من قصمت القياصرة! وقهرت الجبابرة، وكسرت الأكاسرة، اللهم سلط على اليهود والأمريكان الريح القواصم، والبراكين والعواصف، واملأ قلوبهم بالرعب والخوف.

اللهم اكسر شوكتهم، وأقض على قادتهم وساستهم، واجعل أموالهم وديارهم غنيمة للمسلمين في كل وقت وحين، يا منتقم يا جبار يا قهار!

اللهم سلط عليهم ومن والاهم فتنة سوداء تمزق قوتهم، وتخطف أبصارهم، وتذهب عقولهم، وتنكس راياتهم، بقوتك يا قوي يا متين! يا ذا الجلال والإكرام والجاه والسلطان!

اللهم أيقظ المسلمين من الغفلة والسبات، يا رب الأرض والسماوات!

اللهم أيقظ في المسلمين الهمم والعزائم، ونبه منهم الغافل والنائم، وارفع قدرهم إن قل عددهم، واجعل الملائكة عوناً لهم، فأنت نعم المولى ونعم النصير!

يا سامع كل نجوى! ويا منتهى كل شكوى! وكاشف كل بلوى، ويا من إليه المشتكى والمأوى! نشكو إليك ما يحدث لإخواننا في العراق وفي فلسطين وكشمير والفلبين والشيشان وأفغانستان والسودان، نشكو إليك ما يحدث لهم من اليهود والأمريكان، ومن والاهم من المنافقين والكفار.

اللهم إن الأقصى والعراق تبكي منابرهم، وامتلأت بالموتى مقابرهم، وقل معينهم وناصرهم، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، صن أعراضهم واحقن دماءهم يا رب العالمين!

اللهم افتح للمجاهدين الأبواب، وأزل عنهم الصعاب، واصرف عنهم كيد الذئاب، وكل منافق وكذاب، فك أسرانا وأسراهم، ويسر لفكاكهم الأسباب.

يا رب الأرباب! ويا مجري السحاب! لا خاب من دعاك، ولا خاب من رجاك، آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ول علينا خيارنا، واكفنا شرارنا يا رب العالمين!

عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3542 استماع
بر الوالدين 3421 استماع
أحوال العابدات 3410 استماع
يأجوج ومأجوج 3348 استماع
البداية والنهاية 3335 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3269 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3254 استماع
أين دارك غداً 3204 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3097 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3096 استماع