مشكلات واقعية للشباب


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

في هذه الليلة المباركة، نشير إلى بعض المشكلات التي يواجهها الكثير من الشباب، فحديثنا الليلة هو عبارة عن مشكلات واقعية للشباب.

أيها الأحبة.. الجسد الميت لا يشعر بالألم،

ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
وإذا أصيب جزء من بدن الإنسانِ بمرض الشلل، أو الفالج، أو غيره، فإنك مهما وخزته أو ضربته لا يشعر بالألم، إذ لا ينتقل الإحساس إلى مركز التألم والشعور والإحساس، لكن ما إن تدب الحياة في هذا الجسدِ أو في هذا العضو حتى يصبح شديد الحساسية يتألم لأقل شيء ويتأثر من أي شيء، وإذا كانت حياة الأبدان هي بالروح؛ فإن حياة القلوب هي بالإيمان بالله عز وجل وطاعة الله تعالى والقربى إليه.

وهذا الشهر الكريم هو من مواسم الخيرات، التي تتحرك فيها القلوب إلى رِبها جل وعلا، وربما أصغت الآذان إلى ذكره وربما لهجت الألسنة بذكره والثناء عليه، ولهذا لا غرابة أبداً، أن تجد الأوابين والتوابين تتكاثر جموعهم في هذا الشهر الكريم، وتغص بهم المساجد، وتكتظ بهم حِلق الذِكر، ولأصواتهم دوي بالقرآن الكريم، وربما كان في كثير من الأحيان لهم خنين وحنين وبكاء كلما سمعوا ذكراً أو وعظاً أو تخويفاً من نار أو ترغيباً في جنة أو دعوة إلى توبة، وهذا شأن المؤمنين الصادقين، فإن المؤمن الذي يؤمن بالله عز وجل وإن ابتعد، وإن استدرجه الشيطان خطوة خطوة، ونأى به عن ربه جل وعلا، فإنه سريع الأوبة والعودة إلى الله تعالى، لا يصر على ذنب، ولا يستمرئ معصية، ولا يستلذ مخالفة، وإنما تغلبه نفسه مرة بعد مرة بتسويل شياطين الإنس والجن، فإذا سمع داعي الله تعالى أجاب وأناب وهو يقول: لبيك لبيك، فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه، في هذه الساعة المباركة، أن يجعلنا وإياكم من التوابين، وأن يتقبل منا ومنكم أجمعين.

أيها الإخوة..لم تدع لي أسئلة الشباب في الليلة الماضية وقتاً لبعض الموضوعات التي كنت دونتها وأعددتها، فقد جاءتني مجموعة من الأسئلة التي أرى أنها في غاية الأهمية، وهي أسئلة واقعية من بعض الشباب، فرأيت أن أشرككم معي في سماع المشكلة، ثم في بعض الحلول التي أسأل الله تعالى أن يفتح بها.

فأحد الرقاع التي بعث إليّ بها شاب يقول: أنا شاب نشأت وسط أسرة متدينة، ملتزمة بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم منذُ أن عرفت هذه الحياة، ويرجع الفضل بعد الله تعالى في ذلك إلى والدي -رحمه الله- الذي نشَّأ هذه الأسرة على الالتزام، ولكنني انحرفت عن خط سير هذه الأسرة نوعاً ما، حيث إنني الوحيد الذي ابتعدت عن الصراط المستقيم وقد بذل والدي رحمه الله كل ما يملك في سبيل هدايتي، وبذل النفس والنفيس، ولكن الله تعالى أراد شيئاً وأراد والدي شيئاً آخر، وكان ما أراده الله تعالى ثم رحل والدي عن هذا العالم إلى الدار الآخرة، وأكمل المسيرة من بعده أشقائي ووالدتي، ولكن جميع جهودهم لم يُكتب لها التوفيق، وأخبرك أن انحرافي لم يكن لسوء التربية دورٌ فيه، فأنا القاتل، وأنا القتيل، فما هي نصيحتك لي وأرجو الدعاء لي في هذا المقام أن يهديني الله تعالى وأن ينور بصيرتي؟

أما الدعاء، فقد بذلناه وسألناه جل وعلا، أن يهدينا وإياك إلى سواء السبيل، وأن يأخذ بأيدينا إلى ما يحب ويرضى، وأن ينور بصائرنا، ويرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويأخذ بأيدينا إلى مرضاته، ويكفينا شر أنفسنا، وشر شياطين الإنس والجن.

القرآن شفاء لما في الصدور

النصيحة الأولى: فإن الله تعالى بيَّن في كتابه أن هذا القرآن شِفاء، إذا وجدنا في جسد الإنسان مرضاً ذهبنا به إلى أطباء الأجساد، فعملوا له التحاليل اللازمة والدراسات حتى اكتشفوا سبب المرض، ثم صرفوا له الدواء المناسب، فإن العلاج كل العلاج لأمراض القلوب هو بهذا القرآن، فعلى الإنسان أن يوقن يقيناً لاشك فيه، أن هذا القرآن مُشتمل على ألوان العلاجات التي تحتاجها قلوب الناس، وأن القلب الذي لا يخشع لهذا القرآن، ولا يتأثر فيه، ولا يجد فيه طبه وشفاءه، هذا القلب على خطر عظيم، وإذا كان للأجساد أيضاً أمراض ينفض الأطباء أيديهم منها ويقولون: هذا مرض لا شفاء له ولا حيلة فيه، وصاحبه ميئوس منه، فالناجي منه مولود، والواقع فيه مفقود؛ فإن للقلوب أيضاً أمراضاً يُخشى أن تؤدي بأصحابها.

وعلامة ذلك المرض الخطير في القلب هو أن لا يتأثر بالقرآن ولا يخشع به، قال الله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185] وقال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6].

وبين في مواضع أنه أنـزل هذا القرآن شفاء، وفي موضع شفاء لما في الصدور، وفي موضع أنه يهدي للتي هي أقوم، إلى غير ذلك مما وصف الله تبارك وتعالى به كتابه، فينصح الجميع بالإقبال على هذا القرآن، تلاوةً وقراءةً، وتدبراً، وتخشعاً، وسماعاً، وفهماً، وحفظاً، وإدراكاً، واجتماعاً عليه؛ لعل الله تعالى أن يُلين قاسي القلوب بتكرار الآيات والمواعظ فيه.

وإذا تأملت أن هذا القرآن هو كلام الله جل وعلا، خالق هذه القلوب ومبدعها عرفت السر في تجاوب القلوب الحية أو القلوب التي لا زالت على الفطرة مع القرآن الكريم.

قرأت في بعض القصص، أن رجلاً من أهل العلم سافر قبل سنوات إلى بلدان من بلاد العالم على متن سفينة، وكان معهم مجموعة من المسلمين، ومجموعات أخرى من غير المسلمين، وكان اليوم جمعة فأرادوا أن يقيموا صلاة الجمعة على السفينة، فاجتمعوا وقام ذلك الرجل وهو قد يكون عالماً أو مفكراً أو داعية، المهم قام وصلى بهم وخطب خطبة الجمعة، وبعد الصلاة تفرق الناس، فجاءت إليه امرأة غربية نصرانية، وتكلمت معه برطانتها وهي لا تعرف اللغة العربية، فقالت له: " ماذا قُلت قبل قليل حينما كُنت تتكلم". فقال لها: " إنه وعظ الناس وذكرهم وتكلم عن بعض المسائل وبعض الأمور التي تهم المسلم في دينه". فقالت له: " أنا لا أعرف اللغة العربية ولا أدري ماذا قلت، ولكنني أحس أن بعض الكلام الذي تقوله يتعاطف معه قلبي، وأنني إذا سمعت كلامك أشعر بخفقان في صدري، وأشعر أن قلبي يكاد أن يطير، ولا أدري ما هذا الكلام الذي تقوله" فقال لها: إن هذا هو القرآن وإني استشهد بشيء من آياته أثناء خطبتي.

وفي القديم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه لما جاء المدينة في فداء أسارى بدر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي بأصحابه فيقرأ بهم سورة وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2] فدخل المسجد وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فأنصت له يقول جبير رضي الله عنه، وكان يومئذٍ مشركاً: [[فلما سمعت قول الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ...الآية[الطور:35-36]. كاد قلبي أن يطير فوقع الإسلام في قلبي من يومئذٍ]] ثم هداه الله تعالى وأسلم.

وقد قرأت مقالاً لأحد العلماء يقول: " إنه كان يوماً ما جالساً في مجلس لهو ولعب وسمر مع بعض أصحابه وزملائه، وكانوا يتحدثون ويتضاحكون، يقول: فصمتوا لحظة واحدة، ثم جاءهم من بعيد صوت قارئ يقرأ شيئاً من القرآن الكريم، قول الله عز وجل: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:59-62]. يقول: فكأن هذه الآية وقعت في أذني لأول مرة، وكأنه لم يخاطب بها غيري ولم أسمعها من قبل يقول: فأصابتني قشعريرة ورعشة في بدني ظلت معي أسابيع وأنا مضطربٌ مقشعرٌ، وفي أعصابي حال من الارتباك ما الله به عليم، من جراء تأثره بتلك الآيات".

وقد جاء في بعض الروايات أن المشركين لما سمعوا هذه الآيات أيضاً، وكانوا في مكة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم يطاردونه ويطاردون أصحابه فسمعوا قوله تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61] يعني: غافلون لا هون فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62] إنهم سجدوا عن آخرهم، وهم كانوا مشركين، إلا رجلاً منهم كان كبير السن لم يستطع أن يسجد فأخذ كفاً من تراب في كفه في يده ثم وضعه على جبهته وسجد عليه! فمن لم يعتبر بمواعظ القرآن فبأي مواعظ يعتبر؟! ومن لم يلن قلبه لكلام الله فكيف يلين قلبه لكلام الناس؟! ومن لم يخشع من هذا الذكر الحكيم فأي وعظ يمكن أن يخشعه أو يلين قاسي قلبه؟!

البحث عن الأسباب التي تحول دون الهداية

النصيحة الثانية: أن ينظر العبد في الأسباب التي تحول بينه وبين هداية الله تعالى وذلك أن الهداية موجودة في القرآن محفوظة إِنَّا نَحْنُ نـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

فالهداية موجودة، بحث عنها يهودي فوجدها، وبحث عنها نصراني فوجدها، وبحث عنها بوذي فوجدها، وبحث عنها هندوسي فوجدها، وبحث عنها وثني فوجدها، واهتدوا بهداية الله تعالى، ووصلوا إلى طريقه، وآمنوا به، فكيف تعز هذه الهداية على إنسانٍ يعيش في مجتمع مسلم، وولد من أبوين مسلمين، ونشأ في بيئة صالحة؟! إلا أن يكون هناك سبب يحول بينه وبينها.

الهداية إذاً موجودة ومبذولة، والله تعالى قد أقام الحجة على عباده: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]

ويقول الله عز وجل عن المشركين وهم يعذبون في النار يوم القيامة قال: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11].

فهم اعترفوا أنهم أهل لهذا العذاب مستحقون له جديرون به، ولم يتعذروا بأنه لم يبلغهم شيء، أو أنه حال بينهم وبين الهداية حائل، أو منعهم منها مانع!!، كلا، بل اعترفوا كما ذكر الواحد الأحد، جل وعلا، في محكم تنـزيله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) وأنهم جديرون بهذا العذاب مستحقون له، حتى إنه لا يدخل النار أحد قط، إلا وهو معترف بأنه من أهل النار، وأنه مستحق لها ليس في الدار الآخرة أحد يدخل النار وهو يصيح يقول: ربِّ إني مظلوم، نعم، هذا حاصل في الدنيا، فقد يقتل شخص في الساحة وهو يصيح يقول: أنا مظلوم، وقد يجلد شخص وهو يصيح يقول: أنا مظلوم، وقد يسجن وهو يقول: أنا مظلوم، ومن الممكن أن تقطع يده وهو يصيح أنا مظلوم. أما في الدار الآخرة فهذا الصياح والصراخ لا تجده!!، كل إنسان لا يدخل النار إلا وهو مقتنع بأنه مستحق لهذا العذاب مهما كان هذا العذاب شديداً، وعظيماً وفظيعاً ومهيناً ورهيباً لا تتصوره العقول، ولا يكاد الإنسان أن يدركه، ومع ذلك كله لا يدخل النار أحد إلا وقد أعذر من نفسه، وعرف أنه مستحق لهذا العذاب، وهذا من كمال عدل الله تعالى.

وقالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) إذاً: هم عطلوا آذانهم، (أو نعقل) فعطلوا عقولهم أيضاً عن طلب الهداية (ما كنا في أصحاب السعير) فاعترفوا بألسنتهم وقلوبهم ظاهراً وباطناً، (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) إذاً الهداية موجودة فلتنظر ما هو المانع الذي يحول بينك وبينها؟!

أيضاً الأمر الآخر: أن الفطرة موجودة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الحديث المتفق عليه {ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه}. وأنت أيها الأخ الكريم ذكرت لنا في سؤالك أن والديك من أهل الخير والصلاح، وأن أسرتك متدينة وأن ما حصل لك لم يكن لسوء التربية فيه دورٌ كما ذكرت.

النصيحة الأولى: فإن الله تعالى بيَّن في كتابه أن هذا القرآن شِفاء، إذا وجدنا في جسد الإنسان مرضاً ذهبنا به إلى أطباء الأجساد، فعملوا له التحاليل اللازمة والدراسات حتى اكتشفوا سبب المرض، ثم صرفوا له الدواء المناسب، فإن العلاج كل العلاج لأمراض القلوب هو بهذا القرآن، فعلى الإنسان أن يوقن يقيناً لاشك فيه، أن هذا القرآن مُشتمل على ألوان العلاجات التي تحتاجها قلوب الناس، وأن القلب الذي لا يخشع لهذا القرآن، ولا يتأثر فيه، ولا يجد فيه طبه وشفاءه، هذا القلب على خطر عظيم، وإذا كان للأجساد أيضاً أمراض ينفض الأطباء أيديهم منها ويقولون: هذا مرض لا شفاء له ولا حيلة فيه، وصاحبه ميئوس منه، فالناجي منه مولود، والواقع فيه مفقود؛ فإن للقلوب أيضاً أمراضاً يُخشى أن تؤدي بأصحابها.

وعلامة ذلك المرض الخطير في القلب هو أن لا يتأثر بالقرآن ولا يخشع به، قال الله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185] وقال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6].

وبين في مواضع أنه أنـزل هذا القرآن شفاء، وفي موضع شفاء لما في الصدور، وفي موضع أنه يهدي للتي هي أقوم، إلى غير ذلك مما وصف الله تبارك وتعالى به كتابه، فينصح الجميع بالإقبال على هذا القرآن، تلاوةً وقراءةً، وتدبراً، وتخشعاً، وسماعاً، وفهماً، وحفظاً، وإدراكاً، واجتماعاً عليه؛ لعل الله تعالى أن يُلين قاسي القلوب بتكرار الآيات والمواعظ فيه.

وإذا تأملت أن هذا القرآن هو كلام الله جل وعلا، خالق هذه القلوب ومبدعها عرفت السر في تجاوب القلوب الحية أو القلوب التي لا زالت على الفطرة مع القرآن الكريم.

قرأت في بعض القصص، أن رجلاً من أهل العلم سافر قبل سنوات إلى بلدان من بلاد العالم على متن سفينة، وكان معهم مجموعة من المسلمين، ومجموعات أخرى من غير المسلمين، وكان اليوم جمعة فأرادوا أن يقيموا صلاة الجمعة على السفينة، فاجتمعوا وقام ذلك الرجل وهو قد يكون عالماً أو مفكراً أو داعية، المهم قام وصلى بهم وخطب خطبة الجمعة، وبعد الصلاة تفرق الناس، فجاءت إليه امرأة غربية نصرانية، وتكلمت معه برطانتها وهي لا تعرف اللغة العربية، فقالت له: " ماذا قُلت قبل قليل حينما كُنت تتكلم". فقال لها: " إنه وعظ الناس وذكرهم وتكلم عن بعض المسائل وبعض الأمور التي تهم المسلم في دينه". فقالت له: " أنا لا أعرف اللغة العربية ولا أدري ماذا قلت، ولكنني أحس أن بعض الكلام الذي تقوله يتعاطف معه قلبي، وأنني إذا سمعت كلامك أشعر بخفقان في صدري، وأشعر أن قلبي يكاد أن يطير، ولا أدري ما هذا الكلام الذي تقوله" فقال لها: إن هذا هو القرآن وإني استشهد بشيء من آياته أثناء خطبتي.

وفي القديم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه لما جاء المدينة في فداء أسارى بدر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي بأصحابه فيقرأ بهم سورة وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2] فدخل المسجد وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فأنصت له يقول جبير رضي الله عنه، وكان يومئذٍ مشركاً: [[فلما سمعت قول الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ...الآية[الطور:35-36]. كاد قلبي أن يطير فوقع الإسلام في قلبي من يومئذٍ]] ثم هداه الله تعالى وأسلم.

وقد قرأت مقالاً لأحد العلماء يقول: " إنه كان يوماً ما جالساً في مجلس لهو ولعب وسمر مع بعض أصحابه وزملائه، وكانوا يتحدثون ويتضاحكون، يقول: فصمتوا لحظة واحدة، ثم جاءهم من بعيد صوت قارئ يقرأ شيئاً من القرآن الكريم، قول الله عز وجل: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:59-62]. يقول: فكأن هذه الآية وقعت في أذني لأول مرة، وكأنه لم يخاطب بها غيري ولم أسمعها من قبل يقول: فأصابتني قشعريرة ورعشة في بدني ظلت معي أسابيع وأنا مضطربٌ مقشعرٌ، وفي أعصابي حال من الارتباك ما الله به عليم، من جراء تأثره بتلك الآيات".

وقد جاء في بعض الروايات أن المشركين لما سمعوا هذه الآيات أيضاً، وكانوا في مكة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم يطاردونه ويطاردون أصحابه فسمعوا قوله تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61] يعني: غافلون لا هون فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62] إنهم سجدوا عن آخرهم، وهم كانوا مشركين، إلا رجلاً منهم كان كبير السن لم يستطع أن يسجد فأخذ كفاً من تراب في كفه في يده ثم وضعه على جبهته وسجد عليه! فمن لم يعتبر بمواعظ القرآن فبأي مواعظ يعتبر؟! ومن لم يلن قلبه لكلام الله فكيف يلين قلبه لكلام الناس؟! ومن لم يخشع من هذا الذكر الحكيم فأي وعظ يمكن أن يخشعه أو يلين قاسي قلبه؟!

النصيحة الثانية: أن ينظر العبد في الأسباب التي تحول بينه وبين هداية الله تعالى وذلك أن الهداية موجودة في القرآن محفوظة إِنَّا نَحْنُ نـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

فالهداية موجودة، بحث عنها يهودي فوجدها، وبحث عنها نصراني فوجدها، وبحث عنها بوذي فوجدها، وبحث عنها هندوسي فوجدها، وبحث عنها وثني فوجدها، واهتدوا بهداية الله تعالى، ووصلوا إلى طريقه، وآمنوا به، فكيف تعز هذه الهداية على إنسانٍ يعيش في مجتمع مسلم، وولد من أبوين مسلمين، ونشأ في بيئة صالحة؟! إلا أن يكون هناك سبب يحول بينه وبينها.

الهداية إذاً موجودة ومبذولة، والله تعالى قد أقام الحجة على عباده: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]

ويقول الله عز وجل عن المشركين وهم يعذبون في النار يوم القيامة قال: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11].

فهم اعترفوا أنهم أهل لهذا العذاب مستحقون له جديرون به، ولم يتعذروا بأنه لم يبلغهم شيء، أو أنه حال بينهم وبين الهداية حائل، أو منعهم منها مانع!!، كلا، بل اعترفوا كما ذكر الواحد الأحد، جل وعلا، في محكم تنـزيله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) وأنهم جديرون بهذا العذاب مستحقون له، حتى إنه لا يدخل النار أحد قط، إلا وهو معترف بأنه من أهل النار، وأنه مستحق لها ليس في الدار الآخرة أحد يدخل النار وهو يصيح يقول: ربِّ إني مظلوم، نعم، هذا حاصل في الدنيا، فقد يقتل شخص في الساحة وهو يصيح يقول: أنا مظلوم، وقد يجلد شخص وهو يصيح يقول: أنا مظلوم، وقد يسجن وهو يقول: أنا مظلوم، ومن الممكن أن تقطع يده وهو يصيح أنا مظلوم. أما في الدار الآخرة فهذا الصياح والصراخ لا تجده!!، كل إنسان لا يدخل النار إلا وهو مقتنع بأنه مستحق لهذا العذاب مهما كان هذا العذاب شديداً، وعظيماً وفظيعاً ومهيناً ورهيباً لا تتصوره العقول، ولا يكاد الإنسان أن يدركه، ومع ذلك كله لا يدخل النار أحد إلا وقد أعذر من نفسه، وعرف أنه مستحق لهذا العذاب، وهذا من كمال عدل الله تعالى.

وقالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) إذاً: هم عطلوا آذانهم، (أو نعقل) فعطلوا عقولهم أيضاً عن طلب الهداية (ما كنا في أصحاب السعير) فاعترفوا بألسنتهم وقلوبهم ظاهراً وباطناً، (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) إذاً الهداية موجودة فلتنظر ما هو المانع الذي يحول بينك وبينها؟!

أيضاً الأمر الآخر: أن الفطرة موجودة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الحديث المتفق عليه {ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه}. وأنت أيها الأخ الكريم ذكرت لنا في سؤالك أن والديك من أهل الخير والصلاح، وأن أسرتك متدينة وأن ما حصل لك لم يكن لسوء التربية فيه دورٌ كما ذكرت.

عليك أن تسأل نفسك: ما هو الأمر الذي حال بينك وبين أن تستجيب فطرتك لهذه الهداية؟ بقي الأمر منحصراً والله تبارك وتعالى أعلم في أحد أمرين:

شياطين الجن

السبب الأول: وسوسة شياطين الجن، الشيطان الجني المسلط على ابن آدم، والذي له في القلب لمةُُ وله تأثير وله محاولة، وقد توعد بني آدم أن يغويهم أجمعين، وهددهم منذ عهد أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام أن يقعد لهم بكل طريق يقطع عليهم هذا الطريق، ويحول بينهم وبينه ويحاول أن يوجد العثرة لهم عن الهداية، فهذا شيطان الجن، وعلاج شيطان الجن، أن تستعيذ بالله منه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

وعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6].

فالاستعاذة من شيطان الجن أولاً، وعلى العبد أن لا يدع لشيطان الجن سبيلاً إليه، وذلك بكثرة الذكر فإن الشيطان إذا دخلت البيت حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله، فإذا خرجت حاول أن يوسوس لك، وقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا دخلت الخلاء حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا أردت أن تنام حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا استيقظت وإذا ذهبت، أو سافرت، أو أقمت، أو حصل منك أي تغير في حال من أحوالك، فاجعل الذكر أنيسك وخليلك في كل حال، واجعله حائلاً بينك وبين شياطين الجن الذين قد يضرونك حتى في بدنك، فمن المعلوم أن الشيطان الجني يحاول أن يضر الإنسان حتى في بدنه، فالجن قد يلاطفون الإنسان، وقد يؤذونه في نفسه، وقد يؤذونه في أهله، وقد يؤذونه في ولده، والذي يحول بينه وبين ذلك هو أن يستعيذ بالله تعالى من شرهم، وأن يذكر اسم الله تعالى، ولهذا جاء في الحديث: {ستر ما بين أعين الجن وبين عورات بني آدم إذا دخلوا الخلاء أن يذكروا اسم الله} فإذا أراد الإنسان أن يدخل الخلاء فقال: {بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث} كما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن للشيطان عليه سبيل، فلا يراه ولا يستطيع أن يضره بشيء وهكذا غير هذه الأماكن، خاصة الأماكن التي تكون محتضرة، أي: يحضرها الشياطين ويكثرون فيها، فعلى العبد أن يتحصن من شر شياطين الجن بالأدعية والأذكار الصباحية والمسائية والأوراد التي يحفظه الله تبارك وتعالى بها.

شياطين الإنس

السبب الثاني: هو الشيطان الإنسي وأعني به قرناء السوء، الذين هم أحياناً أعوان لشياطين الجن على إضلال الإنسان، له فيكون له أصحاب يدعونه إلى الضلالة، ويدعونه إلى الشر، ويزينون له الباطل، كما فعلوا مع أبي طالب حتى وهو في مرض الموت، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فختم له على الشرك والكفر -والعياذ بالله من شؤم قرناء السوء-!

والغريب أن قرين السوء قد يوقعك ثم يذهب وهو يضحك وأنت تبكي!! فقد يجر الإنسان إلى أنواع المهالك والمعاطب؛ فإذا وقع تركه وذهب ينظر إليه من بعيد، ويسخر منه، ويشمت به ويضحك، وقد يتبجح في المجالس أنه أورد فلاناً موارد الهلكة، وعلى كل حال فهم يوم القيامة لا ينفعونك بشيء، فيوم القيامة يفصل بينكم ويقال لكم: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].

لا أحد يحمل وزر أحد بل كل إنسان قد ألزم طائره في عنقه، ويخرج له يوم القيامة كتابٌ منشور، يُسلَّم إياه ويقال له كما قال الواحد الأحد جل وعلا: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:14-15].

فحاذر شر شياطين الإنس وابعده عن جلساء السوء، وإن خدعوك بمعسول القول ولين الكلام، وإن أغروك بالمخدرات، وأغروك بالتدخين، وأغروك بالسفر إلى الخارج، وأغروك بالصورة الجميلة، وأغروك بالأغنية ذات الصوت العذب، وأغروك بالموسيقى وأغروك بما يلذ سمعك ويطربه، ويعجبك، ولكن لا تنس أبداً أن العبرة بالمآل وكما قيل:

كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها          فتكُ السهام بلا قوس ولا وترِ

يسر مُقلتـه ما ضـر مُهجتـه          لا مرحباً بسرورٍ جاء بالضررِ

أي خير في نظرة حرام يستلذ بها الإنسان لحظة، ثم تورثه حسرة دائمة في قلبه؟! حسرة في الدنيا على فوت هذا الأمر وحرمانه منه، وحسرة في الآخرة، والله الذي لا إله غيره -أقولها خاصة لك أخي الشاب صاحب الورقة، وأقولها لكل إنسان- والله الذي لا إله غيره إن العذاب الذي يشعر به الذي يرتكب الجرائم من الفواحش والكبائر والذنوب العظام، ومن مقارفة ما حرم الله، ومن السفر إلى الخارج، ومن معاقرة الخمور، ومن مجالسة المومسات والبغايا والفاجرات، والله إن العذاب الذي يشعر به في قلبه هو أضعاف أضعاف ما قد يشعر به الإنسان من العذاب في سبيل مقاومة الشهوة، والصبر عليها، والامتناع عما حرم الله، بل إن العبد إذا صبر عما حرم الله تعالى فإن الله تعالى يورثه في قلبه أُنساً ولذة، لذة الانتصار على الشهوة، لذة الانتصار على النفس، لذة مخالفة الشيطان، ومراغمة النفس الأمارة بالسوء، فيقذف الله تبارك وتعالى في قلبه سكينة ولذةً لا يعلمها إلا من ذاقها وجربها.

فلا تنخدع بلذة عابرة،

لا خير في لذة من بعدها النار
لا، بل قبل النار حتى في هذه الدنيا حسرات.

وعندي أوراق من بعض هؤلاء، والله إن الإنسان إذا قرأها لا يملك عينه أن يبكي، قد يكونون ارتكبوا فواحش كثيرة، وأثموا، وظلموا، وفجروا حتى يظن من يعرفهم أن هؤلاء لا خير فيه وليس في قلوبهم إحساس، لكن إذا قرأ ما كتبوا أو سمع ما قالوا ينكسر قلبه لهم، ينكسر لما يشعر ويعلم في قلوبهم من ذُل المعصية والعياذ بالله ومن عظيم الحزن على ما فعلوا، أما العبد الذي أطاع ربه، فقد يشعر بالحرمان لحظة؛ لكن الله تعالى يورثه من جراء ذلك سعادة وأُنساً:

ومن يغضض فضول الطرف عنها          يجد في قلبه أُنساً وطيباً

فعليك أن تعوذ بالله وتلوذ بكنفه، وتسأله جل وعلا أن يمنحك الصبر، وأن يثبتك وتنظر ما هي الأسباب التي أودت بك من ما زينه لك شياطين الإنس والجن فتعمل على إزالتها، وعليك أن تبحث عن رفقة صالحة، تكون معهم يعينونك على الخير، ويدلونك عليه، وينشطونك إذا كسلت، ويذكرونك إذا نسيت، ويعلمونك إذا جهلت، لعل الله تعالى أن يحشرك معهم في الدار الآخرة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.