شرح العقيدة الطحاوية [47]


الحلقة مفرغة

الإسراء والمعراج حق ثابت بالكتاب والسنة

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه في الآخرة والأولى) ].

ينبغي في مثل هذه الحالات أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه، فيجمع بين الصلاة والسلام، وكره أهل العلم إفراد الصلاة دون السلام أو السلام دون الصلاة، فالجمع بينهما هو السنة، وربما يكون المؤلف جمع بينهما لكن سقطت من النساخ في ذلك، وذكر أنه في نسخة: (فصلى الله وسلم عليه)، وهذا هو الأولى، وكان الأولى أن تثبت في المتن.

قال رحمه الله تعالى: [المعراج: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يعرج فيها، أي: يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته].

هذه قاعدة في سائر أمور الغيب، ونحن إلى تقعيدها في هذه المسألة أحوج؛ لأن المعراج حدث في عالم الشهادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه غيب بالنسبة لنا، فمن هنا نحتاج إلى التذكير بهذه القاعدة فيما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات، ومن أعظمها بعد القرآن المعراج، فإنها من الأمور التي حدثت فعلاً وهي حق، وحدثت من باب الكرامة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعجزة له، وهي غيب وحكمها الإيمان بها والتسليم، فما ثبت منها يؤمن به ويسلم به ولا يشتغل بكيفيته، لا يقال: كيف صعد؟ أو: كيف عرج به؟ كيف أسري به؟ كيف ركب؟ إلى آخره.

ذكر الأقوال في كيفية الإسراء وبيان الحق منها

قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: (وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة):

اختلف الناس في الإسراء].

إذا اختلف الناس هنا فلا يعني ذلك اختلاف أهل الحق، بل يعني الناس عموماً وفيهم الذين شذوا في الآراء أو الذين ذلوا من أهل العلم، أو من نسب إليهم قول ولم يثبت، أو أهل الأهواء يعدون من جملة القائلين عند التفصيل، لكن القول الذي يعارض الكتاب والسنة يرد وإن ذكر.

قال رحمه الله تعالى: [ فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه].

هذا القول لم يثبت من طريق صحيحة، وإذا ثبت فإنه محمول -كما سيذكر الشارح بعد قليل- على أن الإسراء كان بروح النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، أما القول بأن الإسراء كان مناماً فهو شاذ كما سيأتي تفصيله، لا يصح أبداً، وهو خلاف قول الجمهور، بل اتفق أئمة السلف المقتدى بهم في الدين على أن عروج النبي صلى الله عليه وسلم والإسراء به كان بجثته وروحه.

قال رحمه الله تعالى: [لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين؛ إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذهب به إلى مكة وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت.

وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظة ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات].

هذا القول لا يثبت، فالإسراء إنما كان مرة واحدة، وسبب هذا القول الاضطراب في حديث شريك ، وحديث شريك لم يعتد به أهل العلم؛ لأنه فيه نوع اضطراب، وفيه جوانب شاذة عن رواية الثقات، فلا يؤخذ به في أمر غيبي، فالإسراء كان يقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه، وإنما حدث مرة واحدة.

قال رحمه الله تعالى: [وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين. ذكره ابن عبد البر .

قال الشيخ شمس الدين ابن القيم : يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! وكيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله].

ذكر حديث الإسراء والمعراج

قال رحمه الله تعالى: [وكان من حديث الإسراء: (أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة على الصحيح من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكباً على البراق صحبة جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة، ثم عرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم فلقيهما فسلم عليهما فردا عليه السلام، ورحبا به وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، فرد عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه، ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن: نعم إن شئت، فعلا به جبرائيل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه) هذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي بعض الطرق: (فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ] .

هذه الأحوال في جملتها واردة في أحاديث صحيحة، فقد حاول الشارح رحمه الله أن يسرد ما صح من قصة الإسراء والمعراج، وترك ما جاء في بعض الروايات الضعيفة، لا سيما أن الوضع حول الإسراء والمعراج كثير جداً، حتى إن بعضهم قد يوصل حكايات الإسراء والمعراج التي لم تثبت إلى مجلد أو أكثر، أما ما ثبت فهو القليل، وما ذكره هنا مما صح.

المراد بالرؤية في سورة النجم

قال رحمه الله تعالى: [وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه].

هذا في المعراج.

قال رحمه الله تعالى: [وقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبرائيل، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها.

وأما قوله تعالى في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبرائيل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما، فإنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8].

فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تعالى وتدليه].

هذا ورد في البخاري ، لكنه من حديث شريك ؛ وما زال يعد هذا من مشكلات النصوص ومن مشكلات الآثار، لكنه ينبغي أن يؤخذ بالقبول في الجملة ما دام ورد تصريحاً، وأهل الحديث الذين هم أعلم منا بالرواية والدراية قبلوا ذلك، فالأولى ألا يتكلم فيه، بل يؤخذ بالتسليم، والله أعلم.

قال رحمه الله تعالى: [وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى؛ فهذا هو جبرائيل، رآه مرتين: مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى].

دليل كون الإسراء بالجسد في اليقظة

قال رحمه الله تعالى: [ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة، وهو كفر].

هناك أدلة أخرى أيضاً معلومة بالضرورة، وكل عقل سليم يسلم بها، ومنها أنه لو كان الإسراء والمعراج في المنام لما كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، هذا من ناحية.

ولما أنكره المشركون من ناحية ثانية؛ لأنه لو قال رأيت في المنام أني فعلت وفعلت ما أنكروا عليه هذا؛ لأنه من باب الرؤى والأحلام، فلما كان الإسراء والمعراج بالجسم اشتد نكير المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا يسلمون ولا يصدقون.

ثم إن الإسراء لو كان بالروح ما احتاج إلى براق، أما المعراج فالصحيح أنه لم يكن بالبراق.

وسائر مشاهد الإسراء التي حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم يدل سياقها على أنها بالجسد والروح، ولو كانت بالروح فقط لما كان لها اعتبار، ولما كانت إعجازاً ولا حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما كانت فاصلاً بين المؤمنين والكافرين، ولما استعمل المشركون ما استعملوه من تهكم واستهزاء، ولو كانت مناماً لما احتيج إلى أن يسمى أبو بكر بـالصديق ؛ لأن الحلم يصدق به جميع الناس، فمن قال: أني رأيت البارحة أني فعلت وفعلت، لا يستطيع أحد أن ينكر عليه أنه رأى؛ لكن نظراً لأن الإسراء والمعراج كانا حقيقة بالجسد والروح صارت لهما هذه اللوازم ضرورية، والله أعلم.

الحكمة من تقديم الإسراء إلى بيت المقدس

قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟

فالجواب والله أعلم: أنه كان ذلك إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن إطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته] .

مما ينبغي أن يعلم أن الإيمان بمثل هذه الأمور الغيبية لا يتوقف على معرفة الحكمة، فالإيمان بجميع مسائل الغيب -ومن ذلك الإسراء والمعراج وما حدث فيهما من مشاهد وأحداث- لا يتوقف على معرفة الحكمة أبداً؛ فالإسراء والمعراج هذا أمر حدث وكان على سبيل الإعجاز والإكرام للنبي صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة، فلا داعي لأن نقول: لماذا ذهب إلى بيت المقدس؟ ولماذا مر على السماوات السبع على هذا النحو؟ ولماذا تردد بين موسى وربه؟ إلى غير ذلك من الأمور التي هي من باب الترف العلمي الذي لا ينبغي أن يسلكه المؤمن، بل أحياناً تكون من باب ما نهى الله عنه من السؤال، فالتباس الحكمة في هذه الأمور لا يتوقف عليه شيء.

دلالة المعراج على ثبوت صفة العلو لله جل جلاله

قال رحمه الله تعالى: [وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه لمن تدبره، وبالله التوفيق].

من هذه الوجوه: أن هذا التفصيل الذي حدث، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم يعرج به إلى السماء وينتقل من سماء إلى سماء، فيكون في سماء الدنيا، ثم في الثانية وهي فوقها، ثم في الثالثة وهي فوقها، ثم في الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة إلى السابعة، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم عند ذلك قربه من ربه عز وجل، هذا كله دليل على العلو الذاتي لله سبحانه، ثم ما ورد من عبارات صحيحة عن المعراج، وهي كون النبي صلى الله عليه وسلم صعد، وأنه في صعود إلى ربه، فدل هذا بالضرورة على علو الله عز وجل بذاته، وكذلك القرب، وقد ورد في نصوص صحيحة، فهو دليل على علو الله عز وجل الذاتي، وكذلك ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم تردد بين الله عز وجل وبين موسى، فهذا التردد دليل على العلو الذاتي لله عز وجل، وغير ذلك مما هو معلوم في قصة الإسراء ويعد ضرورة في إثبات العلو، وكل ذلك من الأمور التي ترد التأويل في العلو؛ لأن الجهمية أنكروا العلو مطلقاً ووصفوه بمعان أخرى، وكذلك تبعتهم المعتزلة، ثم جاء أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم فأنكروا العلو الذاتي لله سبحانه، ومن هنا اضطروا لتأويل الاستواء واضطروا لتأويل النزول واضطروا لتأويل المجيء كما يليق بجلال الله عز وجل، واضطروا إلى لوازم أخرى كثيرة من إنكار أفعال الله عز وجل وتأويلها، وإنكار صفات الله الذاتية وتأويلها، فكثير من ذلك إنما حدث بسبب إنكار العلو والاستواء، ولذلك عد كثير من أهل العلم إنكار الاستواء هو أول بدع الجهمية، وأنه مفتاح التأويل والتعطيل، ومن أنكر الاستواء سهل عليه أن ينكر غيره، وكذلك لوازم الاستواء.

والمتكلمون يقولون: إن العلو هو العلو المعنوي، مع أن العلو المعنوي بدهي لا يحتاج إلى مثل هذه النصوص، إنما العلو الحسي الذي ربما تحار فيه العقول، وهو الذي يحتاج إلى تقرير على نحو إثبات الاستواء وإثبات الفوقية لله سبحانه، وإثبات أفعال الله عز وجل التي لها اقتران بالعلو، كالاستواء والنزول ونحو ذلك؛ فإنها دالة دلالة قاطعة على العلو الذاتي لله على ما يليق بجلاله سبحانه من غير توهم صورة ولا توهم التشبيه والتمثيل، فالله سبحانه يثبت له الكمال المطلق من كل وجه على ما يليق بجلاله دون أن يرتبط بذلك ما في الأذهان في عالم الشهادة وفي واقع المخلوقات.

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه في الآخرة والأولى) ].

ينبغي في مثل هذه الحالات أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه، فيجمع بين الصلاة والسلام، وكره أهل العلم إفراد الصلاة دون السلام أو السلام دون الصلاة، فالجمع بينهما هو السنة، وربما يكون المؤلف جمع بينهما لكن سقطت من النساخ في ذلك، وذكر أنه في نسخة: (فصلى الله وسلم عليه)، وهذا هو الأولى، وكان الأولى أن تثبت في المتن.

قال رحمه الله تعالى: [المعراج: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يعرج فيها، أي: يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته].

هذه قاعدة في سائر أمور الغيب، ونحن إلى تقعيدها في هذه المسألة أحوج؛ لأن المعراج حدث في عالم الشهادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه غيب بالنسبة لنا، فمن هنا نحتاج إلى التذكير بهذه القاعدة فيما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات، ومن أعظمها بعد القرآن المعراج، فإنها من الأمور التي حدثت فعلاً وهي حق، وحدثت من باب الكرامة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعجزة له، وهي غيب وحكمها الإيمان بها والتسليم، فما ثبت منها يؤمن به ويسلم به ولا يشتغل بكيفيته، لا يقال: كيف صعد؟ أو: كيف عرج به؟ كيف أسري به؟ كيف ركب؟ إلى آخره.