تفسير سورة النحل (11)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ [النحل:57-62].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57] عمن يتكلم الرب؟ من هم هؤلاء الذين يجعلون لله البنات سبحانه؟ هم قبيلة خزاعة وكنانة من قبائل العرب في هذه الجزيرة.

يقولون: الملائكة بنات الله. ولذا عبدوهم لهذه النسبة؛ لأنهم ما داموا بنات له فإنهم أهل للعبادة، وهذا شرك وكفر ما فوقه كفر ولا شرك؛ لأنه افتراء وكذب محض، إذاً: هم قالوا: الملائكة بنات الله وسنعبدهم.

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57] أي: من الذكران. فالذكور لهم وأما البنات فلله، كيف يصح هذا عقلاً فضلاً عن الشرع؟

الله جل جلاله ذو القدرة التي لا يعجزها شيء، والعلم الذي أحاط بكل شيء، والحكمة التي لا يخلو منها شيء تنسب إليه البنات وأنت تتقزز من نسبتهن إليك؟ إنه الجهل وإغواء الشياطين، الشياطين التي تعمل ليلاً ونهاراً على إفساد بني آدم ليشاركوهم في العذاب الأخروي فيخلدوا معهم في جهنم.

هم لا يرتاحون أبداً أن ندخل الجنة ويدخلوا النار، فلهذا إبليس وذريته وأولياؤه وأعوانه يعملون ما استطاعوا لأجل إفساد قلوب البشرية وإبعادها عن العبادة لله وحده، وذلك بعبادة الشيطان حتى يهلكوا، فلا عجب.

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ [النحل:57] تقدس وتعالى وتعاظم وتكبر عن نسبة البنات إليه وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57].

وفي سورة الصافات يقول تعالى: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الصافات:153-155] هل اختار البنات على البنين؟ مع أن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، فهم خلق آخر ليسوا كعالم الإنس والجن.

وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57] ما الذي يشتهونه؟ الذكور.

قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى [النحل:58] أي: إذا قيل لأحدهم: يا فلان! ولدت امرأتك بنتاً فإنه يسود وجهه ويتغير تماماً ثم يذهب بعيداً ولا يواجه الرجال في الطرقات والشوارع.

إذاً: قوله: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى [النحل:58] معناه: إذا قيل لأحدهم: أبشر فقد ولدت امرأتك بنتاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58] أي: مملوءاً من الغم والكرب حتى أنه ما يستطيع أن ينطق -كالقربة إذا كظمتها وربطتها- من الهم؛ لأنهم اعتادوا هذه الصفة الرذيلة وعاشوا عليها ونشئوا، إذ كل من يقال له: امرأتك ولدت بنتًا يكرب ويحزن ويغتم.

كيف إذاً تجعلون البنات لله وأنتم تكرهون البنات؟ أين إنصافكم مع ربكم لو كان هناك عقول؟ سيدك ومولاك وخالقك وربك الذي تؤمن بأنه خلقك ورزقك تنسب إليه العجز والبنات وتنزه أنت نفسك عن ذلك؟ والله إن هذا لمن وحي الشيطان وإملائه، فهو الذي قرره في نفوسهم.

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ [النحل:58] طول النهار مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58] ما يستطيع أن ينطق من الهم والغم.

قال تعالى: يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [النحل:59] فما يستطيع أن يواجه إخوانه في الشوارع ولا في الطرقات، وإذا وجد فلانًا فإنه يطأطئ رأسه ويستتر بشجرة أو بنخلة أو بجدار، يتوارى مم؟ من سوء ما بشر به من الهم والغم الذي أصابه حين ولدت له بنت.

معنى قوله تعالى: (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب)

قال تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] واحدة من اثنتين: إما أن يبقي البنت هذه ويذلها ويهينها ويحتقرها ويعذبها حتى بالنظر الشزر والكلمة القاسية؛ لأنه يكرهها في قلبه، وإما أن يدسها في التراب حية أو ميتة، أي: وإما أن يذبحها كبعضهم ثم يدفنها أو يدفنها مباشرة وهي حية في التراب.

وعند بعضهم إذا قاربت المرأة أن تلد ينتظرونها، فيحفرون حفرة ليسيل فيها الدم، فإذا كان المولود ذكراً أخذوه، وإذا كان أنثى دفنوها في نفس المكان.

أسباب قتل المشركين أولادهم

ويعللون لذلك بعلل، منها: أنه إذا أصاب البلاد قحط أو جدب فقلت الأمطار وانقطع الطعام والشراب، وهم يعرفون هذا من أول السنة، لأنه إذا ما كان هناك أمطار في شهر المطر فمعناه أن العام عام سيئ، فيبدءون في قتل الأولاد ذكوراً وإناثاً عند البعض.

وعند البعض الآخر تقتل البنت فقط لأنها تحمل العار: فحين يأخذها شخص آخر يذل ويهان والدها لأن ابنته عند فلان أخذها، وهذه تجعل في قلوبهم كراهية البنت.

ثالثاً: يجعلونها للآلهة: يا هبل .. يا فلان! إذا ولد لي ولد فهو لك. فيجعلونها لآلهتهم، وقد جاء في سورة الأنعام قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ [الأنعام:137] وهم الشياطين الذين زينوا لهم قتل أولادهم إما خوفًا من الفقر أو خوفًا من العار، وإما أن ينذروهم لآلهتهم نذراً والعياذ بالله، فها هو ذا تعالى يفضحهم ويبين ما أعطاهم ليعالجهم بهذه الأنوار القرآنية الكريمة.

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:58-59] أيمسك المولود وهو بنت. الذي بشر به أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:59] على إهانة وذلة وصغار في بيته، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] أي: يدفنه حياً أو ميتاً.

أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:59] (ألا ساء) أي: قبح واشتد قبح ما يحكمون به، حين ينسبون لله البنات وهم يكرهونها لأنفسهم، وهذه ثمرة الجهل والعياذ بالله، ولذا لما جاء نور الله وبعث فيهم رسوله عاد جلهم إلى الحق وتاب وعبد الله عز وجل.

قال تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] واحدة من اثنتين: إما أن يبقي البنت هذه ويذلها ويهينها ويحتقرها ويعذبها حتى بالنظر الشزر والكلمة القاسية؛ لأنه يكرهها في قلبه، وإما أن يدسها في التراب حية أو ميتة، أي: وإما أن يذبحها كبعضهم ثم يدفنها أو يدفنها مباشرة وهي حية في التراب.

وعند بعضهم إذا قاربت المرأة أن تلد ينتظرونها، فيحفرون حفرة ليسيل فيها الدم، فإذا كان المولود ذكراً أخذوه، وإذا كان أنثى دفنوها في نفس المكان.

ويعللون لذلك بعلل، منها: أنه إذا أصاب البلاد قحط أو جدب فقلت الأمطار وانقطع الطعام والشراب، وهم يعرفون هذا من أول السنة، لأنه إذا ما كان هناك أمطار في شهر المطر فمعناه أن العام عام سيئ، فيبدءون في قتل الأولاد ذكوراً وإناثاً عند البعض.

وعند البعض الآخر تقتل البنت فقط لأنها تحمل العار: فحين يأخذها شخص آخر يذل ويهان والدها لأن ابنته عند فلان أخذها، وهذه تجعل في قلوبهم كراهية البنت.

ثالثاً: يجعلونها للآلهة: يا هبل .. يا فلان! إذا ولد لي ولد فهو لك. فيجعلونها لآلهتهم، وقد جاء في سورة الأنعام قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ [الأنعام:137] وهم الشياطين الذين زينوا لهم قتل أولادهم إما خوفًا من الفقر أو خوفًا من العار، وإما أن ينذروهم لآلهتهم نذراً والعياذ بالله، فها هو ذا تعالى يفضحهم ويبين ما أعطاهم ليعالجهم بهذه الأنوار القرآنية الكريمة.

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:58-59] أيمسك المولود وهو بنت. الذي بشر به أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:59] على إهانة وذلة وصغار في بيته، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] أي: يدفنه حياً أو ميتاً.

أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:59] (ألا ساء) أي: قبح واشتد قبح ما يحكمون به، حين ينسبون لله البنات وهم يكرهونها لأنفسهم، وهذه ثمرة الجهل والعياذ بالله، ولذا لما جاء نور الله وبعث فيهم رسوله عاد جلهم إلى الحق وتاب وعبد الله عز وجل.

ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:60]. ‏

أثر الإيمان بالله واليوم الآخر في حياة الإنسان

أعيد فأقول: أركان الإيمان ستة: الإيمان بالله، الإيمان بملائكته، الإيمان بكتبه، الإيمان برسله، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالقضاء والقدر، وأعظم الأركان تأثيراً في النفس وتغييراً للطبع هما الإيمان بالله واليوم الآخر، أي: أن إيمانك بالرسول، إيمانك بالكتب، إيمانك بالقضاء والقدر لا يؤثر كما يؤثر إيمانك بالله واليوم الآخر.

والأمر واضح: فإن إيمانك بالله رباً على كل شيء قدير، يراك حيثما كنت ويسمع كلامك ويأخذ منك ويعطي وهو على كل شيء قدير، إيمانك به يجعلك تخافه وترهبه وما تستطيع أن تعصيه أو تخرج عن طاعته، بل تستحي أن تقول كلمة سوء يكرهها سبحانه، وتخجل أن تفعل فعلة ما يريدها منك.

إذاً: الإيمان بالله إذا ترسخ في النفس وثبت فصاحبه حيي من الله تعالى، ما يقوى على أن يقول كلمة يعلم أن الله يكرهها، ولا يقدر على أن يمشي مشية إذا علم أن الله يكره هذه المشية.

الإيمان بالله بمثابة الروح كما بينا، فإن المؤمن بحق حي والكافر ميت، والدليل العمل: المؤمن يعمل ما أمر الله بعمله ويكره ويترك ما أمر الله بتركه، والكافر لا يفعل ذلك، لماذا؟ لأنه ميت ما آمن وما حيي، فالإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر ركنان من أركان الإيمان وهما أعظم الأركان.

فالمؤمن حقاً بالله يعلم أن الله معه يراه ويسمع كلامه ويقدر على أن يبطش به ويذله إذا عصاه، ويأخذ بيده وينصره إذا طاع، لا يخفى عليه من أمره شيء، وبهذا يستحي من الله أن يعصيه، فلا يعصيه حياءً، وأما الخوف فلا تسأل.

الإيمان بيوم القيامة، بالبعث الآخر، بالجزاء في الدار الآخرة، إذا حققه العبد وصدق فسكنت نفسه واطمأنت إلى أنه سيجزى بعمله هذا في الآخرة فإنه يتحاشى أن يفعل جريمة أو يرتكب إثمًا من الآثام؛ لأنه يخاف أن يجزى به مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].

فالذي تستقر هذه العقيدة في نفسه وتشع أنوارها ­-­والله- إنه ليصبح وهو يغمض عينيه ما يستطيع أن ينظر إلى امرأة لا تحل له أبداً، ما يستطيع أن يتفوه بكلمة كذب أو باطل فضلاً عن السب أو الشتم، ما يقدر أن يمد يده ليتناول ما لا يحل له أبداً، بل لا يمشي خطوة ولا خطوات إلى معصية الله لأنه يعلم أنه سيحاسب الحساب الدقيق عن كل ما قاله وما فعل.

ومن هنا لعلم الله تعالى ورحمته وحكمته يقول: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:232]، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59]، إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:228]، هذان الركنان عليهما مدار الإيمان بأركانه الستة.

تجرد الكفرة من الإيمان باليوم الآخر سبب مقالاتهم الباطلة

وها هو ذا تعالى يقول: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] كأنما يقول: هؤلاء الذين ينسبون إلى الله البنات ويتكبرون عن البنات .. إلى غير ذلك علتهم أنهم ما آمنوا بيوم القيامة، ما كانوا يؤمنون بالبعث الآخر والحياة الثانية؛ إذ لو آمنوا بالجزاء الأخروي ما جرءوا ولا استطاعوا أن يقولوا هذه الكلمات الباطلة، فينسبون إلى الله ما يكرهون، ولكن ما آمنوا بأن هناك جزاء يتلقاه العامل في هذه الدنيا.

سر إيجاد الدنيا وسر إيجاد الآخرة

فلو سئلنا -يا معشر المستمعين-: ما سر هذه الحياة؟ لم أوجد الله هذه الدنيا؟

فالجواب: من أجل أن يذكر ويشكر، من أجل أن يعبد؛ إذ قال تعالى في حديث قدسي: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك ) حتى الجنة والنار من أجلنا، هذا يدخل الجنة وهذا يدخل النار، هذا كافر وهذا مؤمن، هذا بار وهذا فاجر، ( وخلقتك من أجلي )، إذاً: فهذه الأكوان كلها مخلوقة من أجلنا، ونحن مخلوقون من أجل الله لنعبده بالذكر والشكر.

والحياة الثانية الآخرة آتية ونحن نقترب والله منها يومياً، كلما مضى يوم اقتربنا خطوة، لم أوجد الله ذلك العالم وفيه عالم شقاء وعالم سعادة، فيه جنة في عليين وجهنم في أسفل سافلين؟ ما السر؟ ما الحكمة؟ أمن أجل أن يعبد؟ الجواب: لا. بل من أجل أن يجزي العاملين في هذه الدنيا.

استخدمهم واستعملهم، فمتى يجزيهم؟ في الدار الآخرة، إذاً: فسر هذه الحياة: العمل، وسر الآخرة الجزاء فقط، أهل الإيمان وصالح الأعمال في جنات عدن، وأهل الفجور والشرك والكفر في جهنم وبئس المصير، هذه الحقيقة التي لا يصح أن تغيب عن أذهان العالمين.

معنى مثل السوء

قال تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [النحل:60] وما يتم فيها من جزاء على الكسب في الدنيا، هؤلاء لهم مَثَلُ السَّوْءِ [النحل:60] القبح والشر والمنكر والباطل والفجور كلها عندهم، كل مظاهر القبح فيهم.

هل تجدون شخصاً يؤمن بلقاء الله والوقوف بين يديه وهو يواصل الفجور؟ يواصل الكذب والخيانة والخداع؟ والله ما كان؛ لأن هذه الأعمال إنما تنتج عن قلب لا يؤمن بلقاء الله أو عن قلب إيمان صاحبه ضعيف هزيل لا قيمة له، أما من آمن إيماناً حقاً أنه سيقف بين يدي الله ويسأل عن كل ما قال وفعل ويجزى به فوالله لا يواصل الجرائم أبداً، وإن كانت قد تزل قدمه، لكنه حينئذ يقول: أستغفر الله وأتوب إليه.

معنى قوله تعالى: (ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم)

قوله تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] وهو: الصفات العلى، كالعزة والقدرة والكمال والحكمة، وأنه يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، فالكمال كله لله، وأمّا صفة النقص فهي للذين لا يؤمنون باليوم الآخر، هؤلاء لهم (مثل السوء) أي: وصف السوء: كالجهل والظلم والخبث والشر والفساد.

ثم قال تعالى وقوله الحق: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:60] أي: من صفاته المثلى: العزة والحكمة، فالله عزيز بمعنى: غالب قاهر لا يعجزه شيء، حكيم يضع كل شيء في موضعه ولا يخطئ أبداً، فالحكمة: وضع الشيء في موضعه، أليس كذلك؟ نعم، وإليكم ما يوضح ذلك:

فمثلاً: الآن هل هذا المقام مقام أكل وشرب؟ بالطبع لا ولو أخذ واحد يأكل ويشرب فقد أساء؛ لأنه ليس في ساعة أكل وشرب، وهو بذلك غير حكيم، كذلك لو قال: تزحزحوا لأنام الآن ثم نام بينكم؛ فهل الحكمة تقتضي هذا؟ لا يصح أبداً؛ لأن الحكمة الآن هي الإصغاء والتفهم والتدبر فيما نسمعه من كتاب الله.

فالحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه، والله عز وجل هو العزيز الحكيم، يعز من يشاء ويرحم من يشاء وكل ذلك بحكمه، فيعذب من أراد تعذيبه لأنه كفر به ووصفه بالنقص والضعف ومثل السوء، ويعلي شأن من أراد ويرحمه لأنه أعظم الله وكبره ووصفه بالكمال.

أعيد فأقول: أركان الإيمان ستة: الإيمان بالله، الإيمان بملائكته، الإيمان بكتبه، الإيمان برسله، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالقضاء والقدر، وأعظم الأركان تأثيراً في النفس وتغييراً للطبع هما الإيمان بالله واليوم الآخر، أي: أن إيمانك بالرسول، إيمانك بالكتب، إيمانك بالقضاء والقدر لا يؤثر كما يؤثر إيمانك بالله واليوم الآخر.

والأمر واضح: فإن إيمانك بالله رباً على كل شيء قدير، يراك حيثما كنت ويسمع كلامك ويأخذ منك ويعطي وهو على كل شيء قدير، إيمانك به يجعلك تخافه وترهبه وما تستطيع أن تعصيه أو تخرج عن طاعته، بل تستحي أن تقول كلمة سوء يكرهها سبحانه، وتخجل أن تفعل فعلة ما يريدها منك.

إذاً: الإيمان بالله إذا ترسخ في النفس وثبت فصاحبه حيي من الله تعالى، ما يقوى على أن يقول كلمة يعلم أن الله يكرهها، ولا يقدر على أن يمشي مشية إذا علم أن الله يكره هذه المشية.

الإيمان بالله بمثابة الروح كما بينا، فإن المؤمن بحق حي والكافر ميت، والدليل العمل: المؤمن يعمل ما أمر الله بعمله ويكره ويترك ما أمر الله بتركه، والكافر لا يفعل ذلك، لماذا؟ لأنه ميت ما آمن وما حيي، فالإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر ركنان من أركان الإيمان وهما أعظم الأركان.

فالمؤمن حقاً بالله يعلم أن الله معه يراه ويسمع كلامه ويقدر على أن يبطش به ويذله إذا عصاه، ويأخذ بيده وينصره إذا طاع، لا يخفى عليه من أمره شيء، وبهذا يستحي من الله أن يعصيه، فلا يعصيه حياءً، وأما الخوف فلا تسأل.

الإيمان بيوم القيامة، بالبعث الآخر، بالجزاء في الدار الآخرة، إذا حققه العبد وصدق فسكنت نفسه واطمأنت إلى أنه سيجزى بعمله هذا في الآخرة فإنه يتحاشى أن يفعل جريمة أو يرتكب إثمًا من الآثام؛ لأنه يخاف أن يجزى به مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].

فالذي تستقر هذه العقيدة في نفسه وتشع أنوارها ­-­والله- إنه ليصبح وهو يغمض عينيه ما يستطيع أن ينظر إلى امرأة لا تحل له أبداً، ما يستطيع أن يتفوه بكلمة كذب أو باطل فضلاً عن السب أو الشتم، ما يقدر أن يمد يده ليتناول ما لا يحل له أبداً، بل لا يمشي خطوة ولا خطوات إلى معصية الله لأنه يعلم أنه سيحاسب الحساب الدقيق عن كل ما قاله وما فعل.

ومن هنا لعلم الله تعالى ورحمته وحكمته يقول: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:232]، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59]، إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:228]، هذان الركنان عليهما مدار الإيمان بأركانه الستة.