أرشيف المقالات

البدعة وأثرها في الإسلام

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
البدعة وأثرها في الإسلام
 
الحمد لله الذي أكمَل لنا الدينَ، وأتمَّ علينا النعمةَ؛ قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
 
والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، الذي حذَّر أُمَّته مِن البدَع، وشرع لهم مِن سُنن الهدى ما فيه غنًى ومقنع، فقال: ((عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاءِ الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحْدَثات الأمور، فإن كل بدْعة ضلالة))[1]، وقال أيضًا: ((مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))[2]، وفي رواية: ((مَن عَمِل عملًا ليس عليه أمْرُنا، فهو ردٌّ)[3]، وقال: (تركْتُكم على البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بَعدي إلا هالك)[4].
 
صلى الله وسلم، وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين اعتصَموا بسُنَّته، فاتبَعوا ولم يَبتدِعوا، وعلى مَن اقتفَى أثرَهم، وسار على نهجِهم إلى يوم الدين.
 
أما بعد:
فإنه لا شيءَ أَفسَدُ للدين، وأشدُّ تقويضًا لِبُنيانِه مِن البدَع؛ فهي تَفْتِكُ به فَتْكَ الذئبِ بالغنم، وتَسْري في كيانه سريانَ السرطانِ في الدم، والنارِ في الهشيم؛ لهذا جاءت النصوصُ الكثيرة تُبالغ في التحذير منها، وتكشِف عن سوء عواقبها الوخيمة.
 
لقد أَحدَثَ كثيرٌ مِن المسلمين في دينِهم مِن البدَع والخرافاتِ ما لا يَرضاه مسلمٌ عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر؛ حتى إنك ترى في كثير مِن الأحيان أنَّ البدَع تروج كأنها سُنَّة، ويكُون قصْدُ مُرَوِّجيها حَسَنًا، لكنهم يضرُّون أنفسَهم، ويضرُّون غيرهم؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف:103 - 104].
 
وفي كلِّ عامٍ تخرُج علينا بعضُ الاجتهاداتِ حتى تصِل إلى حدِّ البدْعة، وهذا مِن جهْل الناس، وانطلاقِهم مِن العواطف والحماس غير المنضبط.
 
فهناك مَن يَنْشُر أقوالًا وأفعالًا يَظُنُّ أن فيها مصلحة وخيرًا للناس، لكنه في واقع الحال إن هذه الأمور معدودة مِن البدَع؛ ولذا ينبغي على الإنسان ألا يُقْدِم على شيء ليس له مستندٌ شرعي؛ حتى يسأل عنه أهلَ العِلم؛ قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
 
وإنَّ مما استوقفني هذه الأيام بعض رسائلِ الجوال التي كثُرَت، مثل: خَتْم العامِ بالاستغفار، وخَتْم صحيفةِ العملِ بالصيام والدعاء، ومثل: بَدْء صحيفة العام الجديد بالعمل الصالح، أو يقول في آخر يومٍ مِن العام: أرجو أنْ تُسامحني وأن تعفو عني، ويُرسل هذه الرسائل لأقوام لا يعرفهم.
 
والأدهى والأمَرُّ أن يقول: "لأني أحبُّك؛ أمانة في رقبتك أن تصلِّي على محمد عشر مرات، وترسلها لغيرك، وستسْمع خبرًا سارًّا"، أو يقول: "قُلْ: لا إله إلا الله عشر مرات، وأرسلها لعشرة أشخاص"، أو يقول: "حاسِبْ نفسَك في آخر جمعة، فما تدري هل تُصلِّي جمعة أخرى أم لا".
 
هذه الكلمات في أصلها لا شيء فيها، لكن تقييدها بزمنٍ أو مكانٍ هو الممنوع، والقاعدة عند أهل العِلم: "أنَّ تقييد العبادة بزمنٍ أو مكانٍ لم يَرِدْ فيه نصٌّ شرعيٌّ يُعتبَر مِن البدَع".
 
إن انتشار البدَع ورواجها حصل بمثل هذا الحماس، وتلك العواطف التي لم تُلجَم بلجام الشرع.
 
ومعلوم أن مِن أصول الدين الواجب اعتقادُها، ولا يصحُّ إيمانُ المرءِ دُونها - أن الإسلام دينٌ أَتْقَنَ اللهُ بناءه وأكمله، فمجال الناس التطبيق والتنفيذ، وهذا أمرٌ أدلَّته ظاهرة.
 
ولقد قام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بإبلاغ رسالة ربِّه أتمَّ بلاغ وأكمله، فما انتقل إلى جوار ربِّه إلا والدينُ كاملٌ لا يحتاج إلى زيادة؛ لذلك نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الزيادة في الدين فقال: ((إذا حَدَّثْتُكم حديثًا فلا تزيدُنَّ عليَّ))[5]، وروي عن بعض الصحابة؛ منهم ابنُ مسعود رضي الله عنه، قال: "اتبِعوا ولا تبتدِعوا فقد كُفيتُم"، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وإنْ رآها الناسُ حسنةً".
 
وقال الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله: "مَن ابتَدَع في الإسلام بدْعةً يراها حسنةً، فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "مَن استحسَن فقد شرَّع"، وقال الإمام أحمد رحمه الله: "أصولُ السُّنَّة عندنا: التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والاقتداء بهم، وترْك البدَع، وكل بدْعة ضلالة".
 
لقد أُرسلَت إليَّ أكثرُ من رسالة من هذا النوع، ثم أتَّصلُ مباشرة بمن أرسلَها، وأخوِّفه بالله تعالى، وأقول له: هل لك سلطة تحمِّلني الأمانة؟ وما هو مستندُك الشرعي؟ فكلهم يتراجع ويستغفر، ويقول: ظننتُ أن في ذلك أجرًا، فلينتبه العقلاء، وليحْذروا عواطف الجهلاء، وحماسَ الشباب غير المنضبط.
 
فتعاونوا أيها المسلمون على الخير، ووضِّحوا الأمْر للجهلاء، وعلى طلَّاب العِلم أن يجلَّوا الأمْر في دروسهم ومجالسهم وخطبهم؛ لعل الله أن ينفع بالأسباب.
 
أسأل الله الكريمَ بمنِّه وكرمه أن يوفِّقنا وإياكم للتمسُّك بسنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والعضِّ عليها، وأن يجنِّبا البدَع ما ظهر منها وما بطن.
 
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

[1] رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حِبَّان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسَن صحيح.

[2] متفق عليه.

[3] رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود.

[4] أخرجه الألباني في "السلسة الصحيحة"، (2/610، رقم 937).

[5] أخرجه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، (1/680، رقم346).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢