خطب ومحاضرات
فرحة رمضان - صائمون احتساباً
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
ما يزال المسلمون في هذه اللحظات ينتظرون إعلان دخول الشهر الكريم المبارك، وقد تطلعت قلوبهم، واستشرفت نفوسهم إلى سماع أصوات المدافع وهي تبشر بدخول هذا الشهر الكريم.
ولا شك -أيها الإخوة- أن هذا الخبر الذي نترقبه وننتظره هو من أعظم ما يُفرح به قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
اختلاف فرحة الناس بدخول شهر رمضان
فمن الناس من يكون فرحه بدخول هذا الشهر؛ لأنه تاجر يعتقد أنه سوف ينمي بضاعته ويروجها في هذا الشهر، ويرى مِن إقبال الناس على شراء ما يحتاجونه، من المأكولات والمشروبات وغيرها في هذا الشهر الكريم ما يكون مصدر سعادة له وهذه فرحة دنيوية بحتة، نحن لا نلوم هؤلاء على فرحتهم تلك، فإن الإنسان مجبول على حب المال، قال الله عزَّ وجلَّ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] ومن الخير: المال، فالنفوس جُبلت على حب المال غالباً وقد صلى أصحابُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً معه صلاة الفجر، فلما سلم وقام تعرضوا له وسلموا عليه، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، عرف ما الذي جاء بهم، قال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قَدِم من البحرين قالوا: أجل يا رسول الله قال -عليه الصلاة والسلام-: أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتَح عليكم الدنيا كما فُتحَت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم} والحديث متفقٌ عليه، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
فمن الناس من تكون فرحته فرحة مادية بحتة، ومن الناس من تكون فرحته فرحة العابث اللاهي الذي لا يذكر من رمضان إلا إيقاد المصابيح، وسهر الليالي، والجلسات الطويلة المتصلة، والمباريات الرياضية التي يسهرون عليها حتى وقت السحور، أو لا يذكر من رمضان إلا السهر أمام الشاشة؛ لمشاهدة الأفلام، أو مشاهدة البرامج التي تضر ولا تنفع، فيكون فرحه برمضان لا يعدو فرحة مادية دنيوية ضارة، تكون على الإنسان وبالاً في دينه ودنياه وعاجل أمره وآجله.
ومن الناس من لا يتذكرون من رمضان إلا المسابقات والمنافسات في أمور لا خير فيها، وكثير من الشباب ربما كان جُلُّ همهم في رمضان ومصدر فرحتهم وسرورهم، هي الذكريات التي يعيشونها في رمضانات مضت، والسهرات الطويلة، وأنواع من الأسفار والمغامرات والمسابقات والمنافسات، التي لا يفرح بها مؤمن أبداً.
ومن الناس من يكون فرحه فرح الصبيان الذين لا يذكرون من شهر رمضان إلا ألوان الأطعمة المتميزة التي يتعاطونها في هذا الشهر الكريم، على حين لم يكونوا يتعاطونها قبل ذلك، فلا يفرح من هذا الشهر إلا بمثل هذه الأمور، كما يفرح بها الصبيان الصغار الذين لا يعرفون رمضان إلا بتغير البرامج وتغير الأطعمة ومواعيد الإفطار والغداء والعشاء وغيرها.
لماذا يفرح المؤمن برمضان
من الناس من يفرحون برمضان، كما كان يفرح به أصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام- فكان -عليه الصلاة والسلام- إذ يبشرهم برمضان، لم يجد ما يبشرهم به في مقدم هذا الشهر الكريم، إلا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: {إذا دخل رمضان فُتِحَتْ أبواب السماء} وفي رواية: {فُتِحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النيران، وصُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدَةُ الجن} فبذلك كانوا يفرحون؛ لأن فتحَ أبوابِ السماء، وفتحَ أبوابِ الرحمة وأبواب الجنة، تكرم من الله -عزَّ وجلًّ- على عباده، وسِعة رحمته، وكثرة مغفرته، وكثرة عتقائه في هذا الشهر الكريم من النار، ولذلك جاء في الحديث، في رواية الترمذي -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان أول ليلة من رمضان...} ونرجو أن تكون هذه الليلة، التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي نعيش ساعاتها الآن ونترقبها {إذا كان أول ليلة من رمضان غُلِّقَتْ أبوابُ النار؛ فلم يُفتح منها باب، وفُتِحَتْ أبوابُ الجنة؛ فلم يُغلق منها باب، وينادِي منادٍ: يا باغي الخير هَلُمَّ وأقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله في كل ليلة عتقاءُ من النار}. فهذه مصدر فرحة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي وَجَدَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أصحابه به؛ لأنهم لم يكونوا يفرحون إلا بما يكون مقرباً لهم إلى رضوان الله تعالى ورحمته، ومباعداً لهم عن عذابه وسخطه، وهكذا يفرح المؤمنون قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
مصدر فرحة المؤمن في رمضان: أنه يؤمل أن يكون فيه في ركب التائبين، الذين غُفرت لهم ذنوبُهم، ومُحيت عنهم سيئاتهم، وتجاوز الله تعالى عن خطاياهم، فساروا في موكب المؤمنين التائبين الطائعين، وما تدري -يا أخي الحبيب- ماذا يكون مصيرك بعد هذا الشهر الكريم، فإن الإنسان ما هو إلا نَفَسٌ يدخل ولا يخرج، أو يخرج ولا يدخل، ورُبَّ إنسان أصبح ولم يمسِ، أو أمسى ولم يصبح، أو نام ولم يستيقظ، أو استيقظ فلم ينم، وإنما هي آجال مكتوبة مضروبة قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
وقد شَذَّ من هذا الموكب الكريم -موكب المؤمنين المطيعين الفرحين المسرورين بمقدم هذا الشهر الكريم- شَذَّ منهم فئة من الناس، تخلت عن حقيقة إيمانها، وأصابها بمقدم هذا الشهر الذعر والفزع والحزن؛ لأن أحبابهم وأصحابهم من الشياطين قد تخلوا عنهم -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- حين سُلسِلوا وصُفِّدوا في الأغلال، فلم يستطيعوا أن يَخْلُصوا في رمضان إلى ما كانوا يَخْلُصون إليه في غيره، فبقي شياطين الإنس منفردين شاذين، فأصبح الشهر ينـزل عليهم نـزول الألم الذي لا يكادون أن يطيقوه، يعدون أيامه ولياليَه عدّاً، وينتظرون خروجه بفارغ الصبر، وفي الوقت الذي يكون رمضان فيه للمؤمنين قربة ومزيداً في الطاعة، فإن هؤلاء يكون الشهر -والعياذ بالله- عليهم وبالاً ومقرباً إلى سخط الله عزَّ وجلَّ:
فكم من إنسان يتتبع عورات المؤمنين في هذا الشهر، ويبحث عن زلاتهم وسقطاتهم، وينتظر غفلاتهم، فيفضي إلى ما حرم الله -عزَّ وجلَّ- إلى مال حرام، أو نظرة حرام، أو جريمة يتمكن منها في غفلة الناس، وفي غفلة من أعين الرقباء، ومثل هؤلاء أمرهم عجب؛ فإنهم قد رضوا لأنفسهم طريقاً غير طريق المؤمنين، وانسلخوا عن هذه الأمة، فإن فرحَتْ حزنوا، وإذا سُرَّت ابتأسوا؛ لأنهم اختاروا طريقاً آخر غير طريق الإيمان وغير طريق التوبة.
مضى رجبٌ فما أحسنتَ فيه وولَّى شهرُ شعبان المبارَكْ |
فيا مَن ضيَّع الأوقاتَ جهلاً بحُرمتها أفِقْ واحذر بوارَكْ |
فسوف تُفارق اللذاتِ قسراً ويُخلي الموتُ كُرْهاً مِنك دارَكْ |
تدارَكْ ما استطعتَ مِن الخطايا بتوبةِ مُخْلِصٍ واجعلْ مدارَكْ |
على طلب السلامة مِن جحيمٍ فخير ذوي الجرائم مَن تدارَكْ< |
أيها الإخوة: لعل كل الناس -بل أكثرهم- يفرحون بقدوم هذا الشهر ودخوله، لكن أسباب الفرحة تتفاوت تفاوتاً عظيماً.
فمن الناس من يكون فرحه بدخول هذا الشهر؛ لأنه تاجر يعتقد أنه سوف ينمي بضاعته ويروجها في هذا الشهر، ويرى مِن إقبال الناس على شراء ما يحتاجونه، من المأكولات والمشروبات وغيرها في هذا الشهر الكريم ما يكون مصدر سعادة له وهذه فرحة دنيوية بحتة، نحن لا نلوم هؤلاء على فرحتهم تلك، فإن الإنسان مجبول على حب المال، قال الله عزَّ وجلَّ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] ومن الخير: المال، فالنفوس جُبلت على حب المال غالباً وقد صلى أصحابُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً معه صلاة الفجر، فلما سلم وقام تعرضوا له وسلموا عليه، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، عرف ما الذي جاء بهم، قال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قَدِم من البحرين قالوا: أجل يا رسول الله قال -عليه الصلاة والسلام-: أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتَح عليكم الدنيا كما فُتحَت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم} والحديث متفقٌ عليه، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
فمن الناس من تكون فرحته فرحة مادية بحتة، ومن الناس من تكون فرحته فرحة العابث اللاهي الذي لا يذكر من رمضان إلا إيقاد المصابيح، وسهر الليالي، والجلسات الطويلة المتصلة، والمباريات الرياضية التي يسهرون عليها حتى وقت السحور، أو لا يذكر من رمضان إلا السهر أمام الشاشة؛ لمشاهدة الأفلام، أو مشاهدة البرامج التي تضر ولا تنفع، فيكون فرحه برمضان لا يعدو فرحة مادية دنيوية ضارة، تكون على الإنسان وبالاً في دينه ودنياه وعاجل أمره وآجله.
ومن الناس من لا يتذكرون من رمضان إلا المسابقات والمنافسات في أمور لا خير فيها، وكثير من الشباب ربما كان جُلُّ همهم في رمضان ومصدر فرحتهم وسرورهم، هي الذكريات التي يعيشونها في رمضانات مضت، والسهرات الطويلة، وأنواع من الأسفار والمغامرات والمسابقات والمنافسات، التي لا يفرح بها مؤمن أبداً.
ومن الناس من يكون فرحه فرح الصبيان الذين لا يذكرون من شهر رمضان إلا ألوان الأطعمة المتميزة التي يتعاطونها في هذا الشهر الكريم، على حين لم يكونوا يتعاطونها قبل ذلك، فلا يفرح من هذا الشهر إلا بمثل هذه الأمور، كما يفرح بها الصبيان الصغار الذين لا يعرفون رمضان إلا بتغير البرامج وتغير الأطعمة ومواعيد الإفطار والغداء والعشاء وغيرها.
من الناس من يكون فرحه فرح المؤمن، الذي يفرح برمضان؛ لأنه شهر القرآن، شهر الصيام والقيام والعبادة والدعاء والتضرع إلى الله -عزَّ وجلَّ- شهر المغفرة والعتق من النار.
من الناس من يفرحون برمضان، كما كان يفرح به أصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام- فكان -عليه الصلاة والسلام- إذ يبشرهم برمضان، لم يجد ما يبشرهم به في مقدم هذا الشهر الكريم، إلا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: {إذا دخل رمضان فُتِحَتْ أبواب السماء} وفي رواية: {فُتِحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النيران، وصُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدَةُ الجن} فبذلك كانوا يفرحون؛ لأن فتحَ أبوابِ السماء، وفتحَ أبوابِ الرحمة وأبواب الجنة، تكرم من الله -عزَّ وجلًّ- على عباده، وسِعة رحمته، وكثرة مغفرته، وكثرة عتقائه في هذا الشهر الكريم من النار، ولذلك جاء في الحديث، في رواية الترمذي -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان أول ليلة من رمضان...} ونرجو أن تكون هذه الليلة، التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي نعيش ساعاتها الآن ونترقبها {إذا كان أول ليلة من رمضان غُلِّقَتْ أبوابُ النار؛ فلم يُفتح منها باب، وفُتِحَتْ أبوابُ الجنة؛ فلم يُغلق منها باب، وينادِي منادٍ: يا باغي الخير هَلُمَّ وأقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله في كل ليلة عتقاءُ من النار}. فهذه مصدر فرحة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي وَجَدَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أصحابه به؛ لأنهم لم يكونوا يفرحون إلا بما يكون مقرباً لهم إلى رضوان الله تعالى ورحمته، ومباعداً لهم عن عذابه وسخطه، وهكذا يفرح المؤمنون قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
مصدر فرحة المؤمن في رمضان: أنه يؤمل أن يكون فيه في ركب التائبين، الذين غُفرت لهم ذنوبُهم، ومُحيت عنهم سيئاتهم، وتجاوز الله تعالى عن خطاياهم، فساروا في موكب المؤمنين التائبين الطائعين، وما تدري -يا أخي الحبيب- ماذا يكون مصيرك بعد هذا الشهر الكريم، فإن الإنسان ما هو إلا نَفَسٌ يدخل ولا يخرج، أو يخرج ولا يدخل، ورُبَّ إنسان أصبح ولم يمسِ، أو أمسى ولم يصبح، أو نام ولم يستيقظ، أو استيقظ فلم ينم، وإنما هي آجال مكتوبة مضروبة قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
وقد شَذَّ من هذا الموكب الكريم -موكب المؤمنين المطيعين الفرحين المسرورين بمقدم هذا الشهر الكريم- شَذَّ منهم فئة من الناس، تخلت عن حقيقة إيمانها، وأصابها بمقدم هذا الشهر الذعر والفزع والحزن؛ لأن أحبابهم وأصحابهم من الشياطين قد تخلوا عنهم -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- حين سُلسِلوا وصُفِّدوا في الأغلال، فلم يستطيعوا أن يَخْلُصوا في رمضان إلى ما كانوا يَخْلُصون إليه في غيره، فبقي شياطين الإنس منفردين شاذين، فأصبح الشهر ينـزل عليهم نـزول الألم الذي لا يكادون أن يطيقوه، يعدون أيامه ولياليَه عدّاً، وينتظرون خروجه بفارغ الصبر، وفي الوقت الذي يكون رمضان فيه للمؤمنين قربة ومزيداً في الطاعة، فإن هؤلاء يكون الشهر -والعياذ بالله- عليهم وبالاً ومقرباً إلى سخط الله عزَّ وجلَّ:
فكم من إنسان يتتبع عورات المؤمنين في هذا الشهر، ويبحث عن زلاتهم وسقطاتهم، وينتظر غفلاتهم، فيفضي إلى ما حرم الله -عزَّ وجلَّ- إلى مال حرام، أو نظرة حرام، أو جريمة يتمكن منها في غفلة الناس، وفي غفلة من أعين الرقباء، ومثل هؤلاء أمرهم عجب؛ فإنهم قد رضوا لأنفسهم طريقاً غير طريق المؤمنين، وانسلخوا عن هذه الأمة، فإن فرحَتْ حزنوا، وإذا سُرَّت ابتأسوا؛ لأنهم اختاروا طريقاً آخر غير طريق الإيمان وغير طريق التوبة.
مضى رجبٌ فما أحسنتَ فيه وولَّى شهرُ شعبان المبارَكْ |
فيا مَن ضيَّع الأوقاتَ جهلاً بحُرمتها أفِقْ واحذر بوارَكْ |
فسوف تُفارق اللذاتِ قسراً ويُخلي الموتُ كُرْهاً مِنك دارَكْ |
تدارَكْ ما استطعتَ مِن الخطايا بتوبةِ مُخْلِصٍ واجعلْ مدارَكْ |
على طلب السلامة مِن جحيمٍ فخير ذوي الجرائم مَن تدارَكْ< |
أيها الأحبة.. ألا ترون أنه جديرٌ بنا جميعاً أن نعاتب أنفسنا في مثل هذه الليلة، والله إن نفوسنا لجديرة بالعتاب، يا نفس، كم شهراً صمتِ؟!
كم سنة أدركتِ رمضان، ثم خرجتِ منه كما دخلتِ فيه، بل ربما كنتِ على حالٍِ أقل مما دخلتِ فيه في رمضان؟!
كم سمعتِ في هذا الشهر من موعظة؟!
بل كم حفظ الناس من أحاديث وآيات وموعظات وأبيات سمعوها في مدخل هذا الشهر الكريم وفي لياليه العامرات، بالذكر والعبادة؟!
لا أقول: كم موعظةٍ سمعتِ؟ بل كم موعظة رأيتِ بعينيكِ؟!
كم جنازة شيَّعتِ؟!
كم من إنسان واريناه في حفرته ثم خرجنا من المقابر وقد أنكرنا قلوبنا، ما تغيرت إلا إلى أقل مما كنا نصبو إليه؟!
بل كم من موعظة أدركناها في نفوسنا؟!
رُبَّ إنسان منا أشرف -يوماً من الأيام- أو كاد أن يقع في حادث، وربما أصابه مرض شديد ظن أن فيه حتفه وهلاكه، وربما شاهد أباه أو أخاه أو قريبه وهو يلفظ أنفاسه، وربما وضع الإنسان يديه على رأسه -يوماً من الأيام- وهو يظن أنه في آخر أيامه ولياليه، أو آخر ساعاته ودقائق عمره، ثم خرج من ذلك كله، والقلب لا يزداد إلا قسوة، والنفس لا تزداد إلا إعراضاً، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
جدير بكَ أن تختلي بنفسكِ لحظةً وتتساءل: هذه المواعظ التي سمعتُ وأعظمها مواعظ الله -عزَّ وجلَّ- فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6].
هذه المواعظ التي سمعتِ، بل هذه المواعظ التي رأيت أين كان مصيرها؟!
هل زادت العبد قرباً من الله عزَّ وجلَّ؟!
هل زادته بصيرة في نفسه؟ هل زادته خوفاً من الله؟!
هل زادته رغبة في الجنة؟!
هل زادته خوفاً من النار؟!
هل زادته إقبالاً على الطاعة؟!
هل زادته إعراضاً عن المعصية؟!
هل زادته زهداً في الدنيا؟!
أم أن العبد يسمع بأذُن ويخرج الكلام من الأذُن الأخرى، ولربما تلهب سياطُ الموعظة ظهرَه لحظات، ثم بعد ذلك يغفل في الغافلين، ويشرد في الشاردين، ولا يتذكر من ذلك شيئاً قط، إلاَّ أنه يقول: طالما سمعنا هذه المواعظ فمللنا منها، نعم يا أخي الحبيب سمعتَ الكثير، سمعتَ الخطباء في أيام الجُمَع، وسمعتَ المواعظ في المساجد، وسمعتَ الكلام في مطلع شهر رمضان، لكن السؤال الكبير الذي يجب أن تسأله نفسَك: ماذا كان أثر هذه المواعظ في قلبك؟ هل حركت ساكناً؟ هل قوَّمت معْوَجَّاً؟ هل أصلحت فاسداً؟ أم أن هذه المواعظ لا تزيد الإنسان إلا غفلة؟!
ألم تسمع -يا أخي!- كلام حبيبي وحبيبك محمد -عليه الصلاة والسلام- وهو يقول فيما رواه مسلم، عن أبي مالك الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك}.
رُبَّ إنسان أخذ القرآنُ بيده فأدخله الجنة، ورُبَّ آخر دفع القرآنُ في قفاه إلى النار، فهو حجة لك أو عليك.
فهذه المواعظ هي حجة للعبد إن آمن بها وعمل، أو حجة عليه إن أعرض عنها وتنكر لها.
فيا أخي! لا تظن أن المسألة مجرد استماع، أو برامج اعتاد الناس أن يسمعوها، إنما القضية أنك تُسأل يوم القيامة عن أمر علمته، فماذا عملت فيه، سوف يُقال لك: عَلِمْتَ فما عَمِلْتَ؟ وليس صحيحاً، أن الحل هو الإعراض عن الموعظة؛ لئلا تكون حجة عليك، بل إن الذي يعرض عن الموعظة خشية أن تكون حجة عليه، هو أعظم إثماً وجرماً ممن يستمع للموعظة ولا يعمل بها، إنما قد يُعذَر إنسانٌ لم يجد مَن يَعِظُه، ولا من يذكره، ولا من يقرأ عليه كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا من يقرأ عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من يبين له الحلال والحرام فهذا قد يكون معذوراً من بعض الوجوه، أما من وجد السبيل، ووجد مجالس الذكر والعلم، ووجد الموعظة، فهذا ينبغي له أن يبادر ويسارع إليها، وأن يجعل من هذه الموعظة سبيلاً إلى القربى إلى الله عزَّ وجلَّ.
أيها الإخوة! يقبل رمضان على الأمة في هذا العام، وفي هذه السنة، يقبل ووجوه الناس غير الوجوه التي كان يعرف، سيتنكر لرمضان كثيرون، وسيتغيرون عليه عما كانوا عليه بالأمس.
لقد عاشت أمة المسلمين من رمضان في العام الماضي إلى رمضان في هذا السنة عاشت أحداثاً جساماً، سبحان من يرث الأرض ومن عليها! وسبحان من يعلم الغيب! لا يعلم الغيب إلا هو، من كان يدري ماذا سيجري لهذه الأمة بعد شهر رمضان؟
لقد تغيرت أشياء كثيرة، وتبدلت أحوال، ونـزلت بالأمة نكبات وملمات وأزمات ومصائب عظام، نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعل عاقبتها للمسلمين خيراً، وأن يعوض المسلمين عنها خيراً مما فقدوا.
لقد عاش المسلمون آلاماً جسيمة منذ الحج في العام الماضي، ثم مروراً بشهر الله المحرم، حيث حصل فيه اجتياح العراق للكويت، وما ترتب على ذلك من آثار وأحداث، إلى هذا اليوم الذي لا زال المسلمون يضعون أيديهم على قلوبهم، خوفاً مما يُخبأ في أيامٍ وليالٍ الله تعالى أعلم ما يكون فيها، وفي هذا عبرة أيُّ عبرة، فإن الأمم تقيس مدى تقدمها أو تأخرها ليس بالسنة، بل أحياناً باليوم، وربما بالساعة أو الدقيقة، أما المسلمون فإن الأيام والليالي تجعلهم دائماًَ وأبداً، يعيشون في خوف وترقب، ويعيشون في وجل مما قد يكون، وعلى كل حال فإن المؤمن مهما نـزل به من بلاء، ومهما ألمت به من مصيبة إلا أنه يعلم أن ذلك بقضاء الله تعالى وقدره، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له} فربما يتساءل كثير من الناس، كثير من المؤمنين يتساءلون: ماذا بين هذا الشهر الكريم الذي نعيشه الآن وبين الشهر الذي قد يدركه منا من كتب الله تعالى له أن يدركه في العام القادم ماذا تُرى سيقع للمسلمين، أفراداً وشعوباً وأمماً؟ ماذا سيحدث لهم؟
إن المؤمن الذي ينظر بعين التفاؤل والأمل والثقة بوعد الله عزَّ وجلَّ هو على يقين أن الله تعالى سيجعل هذا العام والأعوام المقبلة، للمسلمين خيراً في دنياهم ودينهم، وسيجعل منها سبباًَ إلى وصول المسلمين إلى ما يصبون إليه، من عز ونصر وتمكين، وستكون -بإذن الله تعالى- سبيلاً إلى إقبال الناس إلى ربهم، وتوجههم إلى الله عزَّ وجلَّ، فإننا جربنا أن الهزائم والنكبات التي تعيشها الأمة تكون دائماً عكس ما يريد أعداؤها، تكون سبباً إلى إيقاظ الأمة، وإحياء قلوبها، وإقبالها إلى ربها، وقد حصل للمسلمين خير كثير من جراء الهزائم والنكبات التي ألمت بهم مما واجهوا عدوَّهم اليهود، أعداء الله ورسوله.
ولا شك أن الناس يترقبون إعلان هذا الشهر، فنحمد الله تعالى على أن بلغنا هذا الشهر الكريم، ونسأل الله تعالى أن يكتب لنا أجر صيامه وقيامه، ونسأله -عزَّ وجلَّ- أن يجعلنا فيه من عتقائه من النار، إنه على كل شيء قدير، اللهم بارك لنا في هذا الشهر، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار، اللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أعنا على نفوسنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من صالح الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |