ميادين احتساب المرأة المسلمة
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
للمرأة المسلمة أن تحتسب على المخالفات الظاهرة، والمنكرات الشائعة في كل مكان وزمان؛ وأن تقوم بإنكارها؛ وأن تسعى في تغيرها؛ مع مراعاتها للآداب والضوابط الشرعية المنوطة بها كامرأة.وهذه مسألة مفروغ الحديث عنها، ولكننا سنزيد الأمر تجلية وتوضيحا حول بعض الميادين التي يمكن للمرأة المسلمة أن تحتسب فيها، والتي من أهمها ما يأتي:
أولا: البيت:فهو ميدان خصب لاحتساب المرأة المسلمة، بل هو أهم ميدان على الإطلاق بالنسبة لاحتساب المرأة المسلمة؛ لعدة أسباب:
1- أن الله -تبارك وتعالى- كلف المرأة المسلمة برعاية بيتها، وحملها مسؤولية ذلك؛ -والمقصود رعاية أهل بيتها من زوج وولد ونحو ذلك-؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسئولة عنهم)[2].
ومن رعايتها لبيت زوجها حسبتها على مخالفات تحدث في بيتها.
2- أن الحسبة على الأقربين يعد أولية من أوليات المحتسب؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قد كلف إمام المحتسبين بإنذار عشيرته أولاً؛ فقال: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء(214)]، ولما نزلت عليه هذه الآية الكريمة، قال: ((يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا))[3].
فالمحتسبة مدعوة إلى الاقتداء بنبيها - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، بل في كل شأن من شؤون حياتها.
3- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على المرأة الصالحة التي تقيم الطاعة في بيتها، وتعين زوجها عليها؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[4].
4- بقاء المرأة المسلمة في بيتها لساعات طويلة، مما يتيح لها الاطلاع على مخالفات كثيرة، وخاصة إطلاعها على مخالفات زوجها، وأولادها ذكورا كانوا أو إناثا، وأيضا يكون لديها وقتا أطول للقيام بهذه الوظيفة، ومعالجة المخالفات معالجة كافية شافية، بالأساليب المجدية والنافعة؛ فإن لم ينفع أسلوبا في العلاج حاولت بأسلوب آخر، وهكذا..
5- التوافق الاجتماعي والانسجام النفسي بين أفراد الأسرة الواحدة، وذلك يكون ادعى لقبول النصيحة، والإصغاء للتوجيهات، والعمل بالإرشادات.
6- قوة تأثير المرأة المسلمة على من تحتها، بما منحها الله من مسؤولية على أولادها، ومنهم تحت أمرها ونهيا من خدمات، ونحو ذلك.
فلهذه الأسباب جميعا حري بالمرأة المسلمة أن تعلو همتها، وأن تشمر عن ساعد الجد، وأن تجتهد في نصيحة أفراد أسرتها.
ولله الحمد والمنة فإن للمرأة المسلمة -قديما وحديثا - في هذا الميدان مواقف مشهودة، وتجارب ناجحة؛ فهذه امرأة صالحة: أولت أبناءها عناية خاصة؛ لأنها تعلم أنهم عماد الأمة مستقبلاً، فلشدة محبتها لهذا الدين رأت أن خير وسيلة للدعوة؛ هي تربية النشء على الطاعة والعبادة، وبُعدهم عن مواطن الشبه والريب، فقررت أن تعتذر عن بعض المناسبات حفاظًا على صغارها من رؤية بعض المنكرات.
تعتذر عن ذلك وهي فرحة مسرورة بما تقدم لأبنائها من جلوس في المنزل، وبُعد عمَّا لا تحب؛ فرزقها الله التوفيق، وأخذ بيدها، فكبر ابنها الصغير، وحفظ القرآن، وظهرت عليه أمارات النباهة والفطانة، فقالت في نفسها: الحمد لله، قدمته للأمة رجلاً صالحًا، مقيمًا لحدود الله، وقافًا عند أوامره؛ مبتعدًا عن نواهيه[5].
وهذه امرأة أخرى: "تفرغت للدعوة إلى الله، وهي في عقر دارها كيف؟! تنسخ مئات من الأشرطة باللغة العربية من محاضرات ودروس وندوات لتوزعها على المتعطشات إلى العلم الشرعي، كما أن لها نصيبًا وافرًا من نسخ الأشرطة باللغة الأندونيسية والفلبينية..
فللخادمات والسائقين والقادمين دعوة بالشريط، ولم يكلفها المشروع العملاق سوى القليل.
لله درها كم من مستمعة دعت لها وكم من سامع اتعظ؟! "[6].
فعلى المرأة المسلمة أن تنصر دين الله بكل وسيلة متاحة؛ فإذا رأت مخالفة في البيت من زوجها نصحته ووجهته وأرشدته، وإذا رأت مخالفة من أولادها نصحتهم ووجهتهم، بل عليها أن عليها مسؤولية عظيمة في تربية أولادها تربية حسنة؛ حتى تنتفع بهم في حياتها وبعد موتها؛ فقد أخبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها إذا ماتت فقد انقطع عملها، ولم يبق لها إلا دعوة صالحة تصلها من أولادها؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[7].
قال النووي - رحمه الله -: "قال العلماء معنى الحديث: أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه" [8].
وهذا لا يعني أنه لا تحتسب إلا الزوجة فقط، بل الحسبة واجبة على كل امرأة توفرت فيها شروط ومؤهلات الحسبة، من بنت وأخت، وما إلى ذلك.
ثانيا: المسجد: فهو ميدان آخر من ميادين الحسبة، ذلك أن المسجد مكان يجتمع فيه النساء جميعا؛ فإذا ذهبت المرأة إلى المسجد بإذن وليها، فعليها أن تقوم بالحسبة إذا كانت عالمة، فإذا وجدت رائحة كريهة من امرأة نصحتها، وبينت لها حرمة إتيان المسجد لمن أكل ثوما أو كراثا؛ أو ما أشبه ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو قال فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته)) [9]، ولقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم؛ لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به، فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا"[10].
وإذا رأت امرأة لا تحسن صلاتها، وجهتها ونصحتها، وعلمتها؛ متأسية بتعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل الذي أساء في صلاته، فقال له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل))[11].
وهكذا إذا رأت أي مخالفة شرعية ظاهرة احتسبت عليها.
وإذا كانت عالمة، فلها أن تلقي كلمة في النساء تبين فيها بعض أخطاء النساء، وتحثهن على العمل على نصرة الدين، بل يحبذ أن تقيم درسا أسبوعيا للنساء، فذلك وسيلة من وسائل الحسبة.
ثالثا: المدارس والجامعات: فالمدارس والجامعات من أهم ميدان الحسبة والدعوة إلى الله؛ ذلك أن هذا الميدان يجتمع فيه طبقة مثقفة، فإذا صلحت هذه الطبقة صلح المجتمع، وإذا فسدت هذه الطبقة فسد المجتمع.
ومن المخالفات المنتشرة في المدارس والجامعات كثيرة من أبرزها: التعلق المذموم بين الفتيات، وربما بين المعلمات والطلبات، وتضييع الصلوات، وسماع الأغاني الماجنات، وتداول الأفلام والصور الخليعة، وما أشبه ذلك من المخالفات.
فعلى عميدات الجامعات ومديرات المدارس، والمعلمات جميعا أن يقمن بواجبهن، وأن ينصحن لله، ولعامة المسلمات، ونحن نعلم أن هناك كليات ومدارس كثيرة فيهما ثلة من خيرة المعلمات علمًا ودعوة ونشاطًا؛ فهذه معلمة في مدرسة احتسبت في مدرستها على المعلمات، فبدأت في التودد إليهن، وقالت: هن أهم عندي الآن من الطالبات؛ لأنهن داعيات خاملات آثرن الكسل والدعة، فقط يحتجن إلى إيقاظ.
فبدأت خطوات الإيقاظ بالكتاب والشريط والهدية، حتى تحولت المدرسة إلى شعلة نشاط ومركز دعوة، حمدت إحداهن الله وهي تردد: كيف ضاعت مني خمس سنوات يوميًا أقف أمام الطالبات ولم أدعهن وأحدثهن وأركز على تربيتهن، إنها الغفلة عن يوم الحساب غدًا.
شرعت المعلمة في بيان أضرار السفر والفساد والانحلال في بلاد الكفر وعقبت بدعاء صادق..
نسأل الله أن لا ندخلها ولا نذهب إليها.
ولم ينته الدعاء حتى تسلل من بين الصفوف صوت حمل هم الدعوة : نعم يا معلمة نسأل الله - عز وجل - ألا ندخلها إلا فاتحين، لا فض الله فاك وجعلك وأبناءك من الفاتحين.
تكد وتكدح للآخرة، -والله- إنها تركض للآخرة ركضًا وتسعى لها سعيًا فمن محاضرات إلى ندوات إلى نصائح.
كل عمل خير لها فيه نصيب.
وفي نهاية كل شهر-علمت إحدى المدرسات من زميلاتها- أنها ترسل راتبها كاملاً لأعمال الخير، نعم كاملاً وأقسمت لقد رأته -برباطه- ترسل به إلى كفالة أيتام وطبع كتب وتجهيز غاز...
اجتمعت معلمات المدرسة وقررن الدخول في "جمعية" مع بعض، وكل منهن تتحدث عما ستفعل بالمبلغ عندما تستلمه أما هي فصامتة تنتظر ذلك اليوم حتى إذا استلمت المبلغ دفعت به لبناء مسجد لعله يصيبها الأجر والثواب"[12].
وهذه: "مدرسة للغة الإنجليزية في بداية كل درس جعلت دقائق معدودة لقراءة حديث من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وترجمة معانيه"[13].
فعلى المديرة أو المعلمة أن تستغل نفوذها وموقعها بين طالباتها في النصيحة والتوجيه والإرشاد.
وفق الله نساء الأمة المحتسبات إلى كل خير، وصرف عنهن كل سوء مكروه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[2] رواه البخاري (5200).
[3] رواه البخاري(2753).
[4] رواه أبو داود (1/ 418) رقم (1308)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1304) وفي المشكاة (1230).
[5] انظر: غراس السنابل(25- 26).
[6]غراس السنابل، ص(21).
[7] رواه مسلم (1631).
[8] شرح النووي على صحيح مسلم (11/85).
[9] رواه البخاري(855) ومسلم(564).
[10] رواه مسلم(567).
[11] رواه البخاري(793) ومسلم(397)، وهذا لفظ مسلم.
[12]غراس السنابل، ص(14- 15).
[13] غراس السنابل، ص(69- 70).
عبده قايد الذريبي