تفسير سورة المؤمنون (1)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن الليلة مع سورة المؤمنون المكية، وآياتها مائة وثمانية عشر آية، وهي مكية بلا خلاف، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى عشر آيات منها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها الليلة وغداً إن شاء الله تعالى.

قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:11].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بين يدي شرح هذه الآيات أذكر لكم أن أحمد والترمذي والنسائي رووا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كان إذا نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يسمع عنده رجة كدوي النحل، قال: فلبثنا ساعة بعد ما شاهدنا ذلك، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: ( اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم ارض عنا وأرضنا )، ثم قال بعد هذا الدعاء: ( لقد أنزل عليَّ في هذه الساعة عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة )، أي: من عمل بمقتضاها بدون زيادة ولا نقصان، وأقامها على الوجه المطلوب دخل الجنة، وهي من قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، إلى قوله: خَالِدُونَ [المؤمنون:11].

فمن المخبر بهذا الخبر: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]؟ أليس الله؟ بلى، هل هناك أحد أصدق من الله تعالى؟ هل يشك ذو عقل في صحة هذا الخبر؟ لا والله أبداً، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، وقد علمنا أن الفلاح هو الفوز، وأن الفوز معناه: البعد عن النار ودخول الجنة دار الأبرار.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: فاز بالنجاة من النار ودخول الجنة، قَدْ أَفْلَحَ [المؤمنون:1]، من هم؟ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، وقد تكرر عندنا بيان الإيمان والمؤمنين، فكلمة (المؤمنون) دالة على عراقة الوصف والمتانة فيه، وليس مجرد مؤمن فقط، ولم يقل: قد أفلح مؤمنون، أو قد يفلح مؤمنون، وإنما قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، بحق وصدق، وإن شئتم حلفت لكم بالله! فالمؤمنون بحق وصدق لا بالادعاء والنطق كما يؤمن المنافقون والكافرون.

ثم ذكرنا غير ما مرة: أن من صفات المؤمنين قول ربنا من سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، وهذه الصيغة صيغة حصر، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، بحق وصدق، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ [الأنفال:2]، أي: إذا قرئت عليهم آياته، زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، فمنسوب الإيمان يرتفع بعدما كان في مستوى الانخفاض، وقد يشهد لذلك أن يقوم قائم بيننا فيتلو آيات ويعظنا بها أو يذكرنا؛ فتتجلى حقيقة زيادة الإيمان بالاستجابة له، ثم قال تعالى: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، أي: وعلى ربهم لا على غيره يعتمدون ويفوضون أمورهم إليه، ويعتمدون عليه، ويتوكلون عليه سبحانه وتعالى.

وقلنا أيضاً: إن من العظات والعبر التي تتكرر في هذا المقام: صاحب الدكان في المدينة النبوية أو في مكة المكرمة يبيع الدخان والمجلات التي تحمل صور الدعارة والخلاعة، فيأتيه واعظ فيقول له: أي عبد الله! يا بني! يا أخي! لا ينبغي أن تبيع هذا المحرم في دكانك، فيعتذر ويقول: الزبائن إذا لم يجدوا الدخان لا يشترون منا! فعلى أي شيء توكل هذا؟ على بيع الدخان أو على الله؟ على بيع الدخان، ولو قلت له أيضاً: هذه المجلات التي تحمل الخلاعة والدعارة والصور الباطلة لا ينبغي أن توجد في بيت مسلم، بل ولا تحل أبداً، فكيف تعرضها أنت في الدكان؟! فيقول: الزبائن يريدون ذلك! فهذه صورة للتوكل على غير الله تعالى، وهناك صور كثيرة منها: أراد فلان أن يستورد بضاعة محرمة كهذه البرانيط التي لبستموها أبناءكم، وأصبحوا كأبناء اليهود والنصارى، فمن أجاز لبس هذه البرانيط؟ ومن أباحه؟ ومن أذن بها؟ آلله أم رسوله صلى الله عليه وسلم؟ اللهم لا الله ولا الرسول، وإنما فقط مكر اليهود والعياذ بالله! فالآن المستوردون لها يعتذرون فيقولون: إن عليها إقبالاً ورغبة! فهل توكلوا على الله تعالى؟ وكذلك صاحب البنك الربوي يقال له: حول البنك إلى مصرف إسلامي واتق الله، فيقول: لا نستطيع هكذا الدنيا، ولا بد من هذا! فعلى من توكل هذا؟ على الربا أم على الله؟

وما زلت أقول حتى أموت: إن هذه البرانيط التي على رءوس أطفالكم لا تحل وإن أفتى من أفتى، فإني والله لعلى علم وبصيرة، وقد بينت لكم أمثلة على ذلك وقلت: استعمرتنا فرنسا نحن أهل المغرب العربي: موريتانيا، والمغرب، والجزائر، وتونس، فما كان يعقل أن مسلماً-وإن كان تاركاً للصلاة داعياً للباطل-يضع على رأسه برنيطة كافر! وعرفت فرنسا هذا، وأنه من ديننا، فالجندي لا تلبسه برنيطة كالجندي الكافر الفرنسي، والبوليس التركي والله على رأسه قبعة حمراء، وليس على رأسه برنيطة، فكيف لو كان يجوز لبس البرانيط في تلك الفترة؟ لارتد الآلاف وعشرات الآلاف من الناس! والآن ما زلنا نصرخ ولا تحرك أحد، فاخرج إلى خارج المسجد، بل في داخل مكة تجد البرانيط على رءوس الأطفال، والعجيب أنهم يقولون: إنها تقيهم من حر الشمس! وقلنا لهم: من أيام رسول الله إلى اليوم عاشت الأجيال هكذا في الشمس وما ضرتها، فعيب أن تقول هذه الكلمة، وضع على رأسك ما يقيك من الشمس، ولذلك هي مكرة يهودية، كيف نزعزع القلوب؟ كيف نجعل القلوب تحب الكفر وتميل إليه وتعشقه؟ فقالوا: نبدأ باللباس، والقاعدة التي وضعها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم والله لا تنخرم ولا يقطعها أحد: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فمن يرد هذا؟! وقلت مئات المرات: لو يجتمع علماء النفس وعلماء الطبيعة وغيرهم من العلماء على أن ينقضوا هذه الجملة التي وضعها الرسول والله ما استطاعوا! وهي أن كل من تشبه بعاهرة يصبح عاهرة، فامرأة تشبهت بعاهرة في لباسها ومشيتها والله لتصبحن عاهرة، أو شاب مسلم تشبه بكافر مغني أو عاهر والله لا يزال يفعل حتى يصبح مثله، وهكذا، والشاهد عندنا: الجهل والبعد عن كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ ما عرفوا الله ولا الطريق إليه.

ثم قال تعالى في بيان الصفات العشر: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، ورد أن رجلاً كان يعبث بلحيته وهو في الصلاة، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( لو خشع قلب هذا لما عبث بلحيته )، ومن هنا نعمل على ألا نتحرك حركة تتنافى مع حركات الصلاة، فلا نصلح المشلح ولا العمامة ولا نشتغل بلباسنا، إذ الخشوع خضوع وذلة وصغار بين يدي الله تعالى، خشوع يسكن فيه الإنسان فلا تتحرك اليد ولا الرجل ولا يلتفت برأسه ولا بعينيه أبداً، وإنما عيناه حيث يسجد، وجسمه هادئ ساكن خاشع، وكأنه خائف ترتعد فرائصه، وإن ذرفت عيناه الدموع فتلك غاية الخشوع، وهذه صفة هؤلاء الفائزين بالفردوس الأعلى.

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، وهنا يقول الفقهاء: ما حكم الخشوع في الصلاة؟ الذي عليه أكثر أهل العلم أنه واجب وفرض، فالذي لا يخشع في صلاته، وإنما يلتفت ويغمض عينيه ويحرك بين رجليه ما خشع في صلاته ولا صحت صلاته.

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، أي: خاضعون ذليلون مستكينون ساكنون، وكلهم خشوع لأنهم بين يدي ربهم تعالى، ولذلك لو كنا نستحضر عند قولنا: الله أكبر! أننا بين يدي الله تعالى، وأن الله عز وجل نصب وجهه إلينا وهو ينظر إلينا، والله أستحي منه أن ألتفت بعيني أو برأسي، وأستحي من الله وأنا بين يديه أناجيه ثم أذهب من بين يديه إلى البيت أو الدكان أو المزرعة للبيع أو الشراء أو للعطاء، وأخرج عن دائرة الخشوع! لكن إذا لم يضبط المؤمن نفسه في حال قيامه بين يدي ربه ما يظفر بهذا الكمال، ولا يفوز بالخشوع في صلاته.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، والخشوع كما علمتم فرض من فروض الصلاة، إن فقده المصلي بطلت صلاته وما انتفع بها ولا تفيده.

ثانياً: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، فما هو اللغو الذي أعرض عنه فأعطيه ظهري ولا ألتفت إليه؟ اللغو هو كل ما لم يأذن الله باعتقاده أو قوله أو فعله، أو كل ما لم يرض الله به، والإعراض عنه يعني تركه تركاً كاملاً بحيث لا تلتفت إليه أبداً، وإنما تعطيه ظهرك، وقد قلت غير ما مرة مما فتح الله به علينا، وهي كلمة موجزة وتذكير: أحياناً قد تفكر ساعة أو عشر دقائق أو خمس دقائق، فهذا التفكير إذا لم يحقق لك درهماً لمعاشك، ولا حسنة لمعادك، فهو والله لغو وإضاعة للوقت! إذ إن من صفات عباد الرحمن: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، فلا يلتفتون إليه ولا يعرجون عليه ولا يقفون معه.

مرة أخرى: إذا كنت تفكر فيما ينفعك في دينك أو في دنياك فلا بأس، أما أن تفكر في لهو وفي باطل وفي عبث وفي محرمات، فوالله ما صح هذا، بل واحذره! وكذلك قولك وكلماتك التي تتكلمها طول النهار، إذا كانت مما يرضي الله ويريدها الله فتكلم، وإن كانت مما يغضب الله فلا تتكلم، وأيضاً ذهابك ومشيك وإتيانك برجليك، فإن كنت تمشي في مرضاة الله تعالى، وفيما يحقق لك حسنة لمعادك أو درهماً لمعاشك فامش، وإن لم يحقق لك حسنة ولا درهماً فهو لهو ولغو وباطل ولا يصح! وأظن أن السامعين قد فهموا هذا؟ فقبل أن تمشي إلى أي مكان فكر إلى أين سيكون مشيتك؟ ولماذا؟ لا بد وأن يكون من أجل أن تحقق درهماً لمعاشك أو حسنة لمعادك، فإن كانت لا تحقق درهماً لمعاشك ولا حسنة لمعادك فما هي هذه المشية؟ باطلة ولغو، وهكذا هم أولياء الله المتقون الذين يعيشون على هذا المنهج الرباني؛ لأنهم درسوا كتاب الله وسمعوه، والمعرضون عن كلام الله وكتابه أنى لهم أن يعوا ويفهموا؟

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، تلاعب ابنك الصغير لينمو جسمه وليكمل عقله؛ فهذه الملاعبة فيها رضا الله أو فيها سخط الله؟ فيها رضا الله، إذاً أنت تربي هذا الولد ليعبد الله تعالى، وليكمل في عبادته، وأما إن كنت لاعبته وهو في غير حاجة إلى اللعب، وإنما فقط لمجرد اللهو، فأنت قد لاعبته لغير الله تعالى، فهو إثم لك وعليك والعياذ بالله!

والصفة الثالثة: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4]، الزكاة قاعدة الإسلام الثالثة، فلا إسلام لمن لم يخرج الزكاة، ولا إسلام لمن منع الزكاة، بل ويقاتل حتى يدفعها كما قاتل أبو بكر الذين منعوا الزكاة، وتاركها عمداً كافر ليس بمؤمن، وهذه الزكاة تكون في الأموال الصامتة كالذهب والفضة والدراهم والدنانير والحب والشعير والتمر وما إلى ذلك، إذ الدينار وصاع الشعير لا ينطق، وتكون كذلك في الأموال الناطقة كالإبل والبقر والغنم، فالبقرة تنطق، والبعير ينطق، والعنز والضأن ينطق.

واقرءوا قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، فما هي أدوات التزكية؟ أدوات الخياطة معروفة، وأدوات الطبخ معروفة، وأدوات الصناعة معروفة، فما هي أدوات التزكية؟ كل قول أو عمل أو اعتقاد شرعه الله وانتدب إليه وواعد بالخير عليه، وفاعله يزكي به نفسه.

مرة أخرى: كل قول أو عمل أو اعتقاد أمر الله به، أو أذن فيه، أو استحبه، أو رغب فيه، فهو مما يزكي النفس البشرية، حتى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، فتحمل القذى وتبعده فهذا العمل يزكي نفسك إذا أردت به وجه الله عز وجل، أو عندما تشرع في الأكل فتنوي بذلك أنك تتقوى على عبادة الله عز وجل، يصبح ذلك مزكياً للنفس، وإن شبعت ثم تريد أن تزيد شهوة في الطعام فذاك يضر بجسمك وبنفسك، بل ويخبثها ولا يزكيها؛ لأن الرسول نهى عن الأكل بعد الشبع.

والشاهد عندنا: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4]، فكل ما يزكي النفس ويطهرها ويطيبها لتصبح كأرواح الملائكة فيرضى الله عنها وينزلها بجواره؛ ذلكم هو المزكي للنفس، فهل عرفتم أن الآية أعم من كلمة (الزكاة) أم لا؟ فالزكاة قاعدة من قواعد الإسلام، وذلك كالصلاة قاعدة من قواعد الإسلام، لكن والذين هم لما يزكي نفوسهم عاملون، فتزكية النفس بالصيام، بالصدقات، بالذكر، بالدعاء، بالمشي إلى بيوت الله، بزيارة المؤمنين لدعوتهم، وهكذا ما أكثر مواطن التزكية للنفس وأدواتها؟! وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4]، فإن شاء الله نحن منهم، فقولوا: إن شاء الله.

والصفة الرابعة: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، والفروج جمع: فرج، والفرج هو انفتاح يخرج منه البول والمني، سواء للرجل أو للمرأة، والانفراج هو انفتاح، وذلك كالفرجة في السقف، فكذلك الفرج انفتاح في الجسم يخرج منه البول والمني.

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ [المؤمنون:5]، وهذا الوصف للفحول وللمؤمنات، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، فيحفظون فروجهم من أي شيء؟ أولاً: من كشفها وإظهارها للناس، إذ لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يكشف عن سوأته أمام الناس، وهذا بالإجماع، فكشفها محرم، فيجب أن تحفظ وتستر وتغطى وتصان حتى لا ترى، ولا تعجبوا! لما يبلغكم أن عائشة قالت: ما رأيت من رسول الله ولا رأى مني، مع أن هذا جائز، أي: أن يرى الرجل فرج امرأته أو ترى هي فرج زوجها، لكنه الكمال والسمو والعلو حملهم على ألا ينظروا إلى الفرج نظرة كاملة!

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، فمن هنا أولاً: الزنا، فالزاني كالزانية ما حفظا فرجيهما، فمن زنى ما حفظ فرجه، ومن زنت ما حفظت فرجها.

وثانياً والعياذ بالله تعالى، وما من حقنا أن نذكر هذا: اللواط، والعجيب فيه أن إبليس عليه لعائن الله هو الذي علمه بني آدم على عهد نبي الله لوط، فكان يأتي في نادي القوم ويحمل الرجل على أن يركب على ظهر الرجل وهم يشاهدون ويضحكون! فمرنهم تمريناً على هذه الفاحشة، وكره الإنس والجن، وانتهت بتدمير الله لتلك المدن وإحالتها إلى بحيرة منتنة، ولكن الشيطان ما زال يحرش عليها ويغري بها، إلا أن الفضيلة التي فاز بها العرب في الجاهلية فقد انتهت؛ ولهذا كثيراً ما يقولون: إن كفار العرب أشرف من كفار العجم، بل والله أشرف لكمالات، منها: الوفاء بالعهد، فلا ينقضون عهداً أبداً، ومنها: أنهم ما سمعوا ولا عرفوا أبداً أن الذكر ينزو على الذكر، وهذه رواية صحيحة ثابتة عن عمر رضي الله عنه، وذلك أنه ضبط في عهده اثنان أعجميان في البحرين ينزو بعضهما على بعض، فرفعت القضية إلى عمر فاستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: أرسلوهما من أعلى جبل إلى الأرض وارموهما بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، وهذا عبد الملك بن مروان على منبر دمشق يخطب في الناس فيقول: والله لولا أن الله أخبرنا عن قوم لوط ما كان يخطر ببالنا أبداً أن الذكر ينزو على الذكر! والحمد لله فقد قل من يفعلها بين المسلمين، أما في بلاد الكفار فهناك أندية للواط في أوروبا، ادخل بنقودك وفلوسك علناً، سواء في لندن أو في باريس وستجد ذلك! ومع هذا يجب أن نحفظ فروجنا منه كما حفظناها من الزنا.

ثالثاً: ما يعرف بجلدة عميرة أو ما يعرف الآن بالعادة السرية، وهي أن يستمني الفحل بيده فيتلذذ ويخرج منيه، فهذا أيضاً مما يجب أن نحفظ فروجنا منه، ولا نسمع قول من يقول: سمح بذلك فلان، أو أذن فيه فلان، إذ لا قيمة لهذا أبداً؛ لأن ما عليه الجمهور من أمة الإسلام أنه داخل في عدم حفظ الفرج.

رابعاً: التمتع، وهو النكاح إلى أجل، وذلك كأن يريد الفحل أن يقضي شهوته في امرأة، فيخطبها على أن يبقى معها أسبوعاً أو أسبوعين أو شهراً أو شهرين ثم يطلقها، فهذا لا يحل أبداً، وقبل ذلك: هل المتمتع يرث امرأته؟ ما يرثها، وهل هي ترثه؟ ما ترثه، فأين الزواج إذاً؟ الزوجان يتوارثان فيما بينهما، فالزوجة النصف من زوجته والربع، وللزوجة الثمن والربع، وبالتالي فهو نكاح باطل حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن عن حرمته، وأجمعت الأمة على ذلك إلا ما كان من الشيعة والروافض، ثم إن عندي كلمة وهي: أسألك بالله يا أبا فلان! لو يأتيك فحل ويخطب ابنتك على أن يتزوجها، فعلمت أنه يريد أن يقيم معها شهراً أو شهرين فقط، وذلك بأن يفتض بكارتها ويطلقها، فأسألك بالله! أترضى بهذا؟ أتحبه أو تقوى أن تنظر إلى وجهه؟ أهل البصائر والله ما يقبلون ذلك، إذ كيف يفتض بكارة ابنتي ويذهب بلذتها ثم يطلقها؟ إن هذا من أعدى أعدائي! فلهذا التمتع حرام لا يحل كالزنا واللواط والعياذ بالله تعالى، والذين يتمتعون ما حفظوا فروجهم كما أمر الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5].

ثم قال تعالى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:6-7]، والعياذ بالله، أي: المعتدون الظالمون، والأزواج جمع: زوجة، فكم زوجة تحل لك يا عبد الله؟! أربع، وإن خفت ألا تعدل فلا تزد على واحدة، قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، فقط، فإن قدرت على العدل مع الثانية فاثنتين، وإن عجزت فلا تزد الثالثة وهكذا، وهذا من فضل الله علينا وامتنانه، إذ إنه أذن لنا في الزواج بثلاث أو أربع.

ثم إن الزوجة تحصل عليها بما يلي: أولاً: أن يكون لها ولي يتولى عقد نكاحها، فإن لم يوجد لها ولي فيجوز أن يزوجها رجل كبير من العشيرة، فإن لم يوجد الرجل المناسب من العشيرة، فالقاضي يتولى زواجها، إذ القاضي ولي من لا ولي له، والنكاح بدون ولي باطل، كأن يتفق الرجل مع المرأة فيعطيها مثلاً كذا من المال، فإنه باطل لا يصح أبداً، إذ لا بد من الولي، والولي إما أن يكون الأب، ثم الأخ، ثم الابن البالغ الراشد العاقل، والذي هو أهل لذلك، ثم العم، ثم ابن العم، فإن لم يوجد أقرباء فعبد صالح في العشيرة يتولى ذلك ولا حرج، فإن وجدت محكمة وقضاء فالمحكمة تتولى ذلك.

ثانياً: المهر الذي يمهرها به، وهو مبلغ من المال لا يقل عن ربع دينار، وما زاد فلا حد له، إلا أن التوسط والاعتدال خير من الغلو والشطط، وهو ركن الزواج، وبدونه فلا زواج، ويجوز دفع بعضه وتأخير البعض الآخر، كأن يقال: مهرك يا فلانة! أو يا وليها ألف ريال نصفها تسدد بعد كذا، ويسمى الصداق، أي: الدال على الصدق في النكاح.

ثالثاً: الشاهدان العدلان المؤمنان الصالحان، فلا تشهد عاهرة ولا عاهر ولا باطل ولا منكر، يل لا بد من شهادة عدل، والعدل عندنا من يجتنب الكبائر وفي الغالب الصغائر أيضاً، إذ من الناس من يؤدي الفرائض كلها ويتجنب المحرمات كلها، ويتجنب كذلك المكروهات والصغائر من الذنوب.

الرابع: الصيغة، وهي أن يقول الخطيب: زوجني وليتك فلانة، فيقول الولي: زوجتكها على مهر كذا وكذا، أو صداق كذا وكذا، ويقول للشاهدين: اشهدا، فيقولان: شهدنا، وإن شاءوا كتبوا كتاباً أو لم يكتبوا، وبعد ذلك تأتي وليمة العرس، وهي ليست بواجبة، ولكنها قريبة من الوجوب، أي: أنها سنة مؤكدة، والغرض منها الإعلان عن النكاح حتى يعرف أهل القرية أو أهل الحي أن فلاناً قد تزوج فلانة، إذ لو كان النكاح سراً فقد أشبه نكاح المتعة، لكن لا بد من الإعلان، ولهذا أذن الشارع للنساء أن يزغردن في العرس، وأذن في ضرب الدف أيضاً للإعلان عن الزواج.

معاشر المستمعين! وأخيراً كي نحفظ فروجنا يجب أن نراعي ما يلي: أولاً: أن نتزوج ولا نرضى بالعزوبة، فنتزوج المرأة الكبيرة والصغيرة، والصحيحة والمريضة، ولا نبقى ننتظر امرأة حوراء، وإلا سنبقى عزباً والعياذ بالله.

ثانياً: أن نحفظ أسماعنا ونغض أبصارنا، فلا نسمع صوت امرأة، ولا ننظر إلى امرأة في صورة أو في الشارع أو في مجلس أبداً، وعلى المؤمنات أن يتحجبن، وألا تخرج المؤمنة من بيتها إلا للضرورة، وإن خرجت فيجب أن تسدل على وجهها خرقة سوداء خفيفة تمنع من أن ينظر إليه، وترى الطريق أمامها، أما أن تتكبر وتقول: ما هذا؟ كيف أضع على وجهي كذا؟ فمعنى ذلك: أنها رفضت دعوة الله تعالى، وأنها عرضة لأن لا تحفظ فرجها، ولذا لا بد من الحجاب، فلنفرض على بناتنا ونسائنا ذلك؛ لأن في ذلك وقاية كبيرة لحفظ الفروج من الوقوع في هذه الزلة الكبرى التي وصف الله أصحابها بأنهم العادون أو المعتدون الظالمون.

أما قضية: (ما ملكت أيمانكم)، فما دام أن الجهاد قد وقف من أكثر من ألف عام، فليس عندنا الآن جواري، إذ من أين الجواري؟ لكن لما نغزو دولة من الدول، أو أمة من الأمم، فإننا نأخذ الأسرى، فماذا نصنع بهم؟ نقتلهم؟ لا، وإنما نربيهم على الإسلام، فيوزع لنا القائد لكل واحد واحدة، ويؤمر بالمحافظة عليها وإصلاحها، بل حتى إتيانها وجماعها لتسعد بذلك وتكمل، أما الآن فليس هناك مما ملكت اليمين؛ لأن أيماننا مقصورة مقطوعة من ألف سنة، فهل عرفتم هذا؟ تختطفها وتقول: جارية؟! وصلى الله على نبينا محمد.