تفسير سورة الأنبياء (10)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:53-58].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51]، أي: ولقد أعطينا منة منا وفضلاً وإحساناً عبدنا ونبينا إبراهيم، وإبراهيم هو الخليل، وهو بالعبرية: الأب الرحيم، وحقاً هو أب رحيم. فقد أعطاه الله رشده من صباه ومن صغره، فقد عرف ربه وعبده، وأطاعه وآمن به وهو طفل صغير.

وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء:51]، أي: من قبل موسى وهارون ومحمد صلى الله عليه وسلم، إذ جاء في السياق قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]. كذلك أعطينا إبراهيم هذا العطاء والإحسان الكريم منة من الله على عبده إبراهيم.

وقوله: وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51] قطعاً ظاهراً وباطناً من يوم ما تخلق في رحم أمه، فقد َكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51].

قال تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]. وقد َكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51] لما جرى ما جرى له مع أمه وأبيه، وأهل بيته وأمته في بلاده، فقد قال لهم: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52].

وأبو إبراهيم اسمه: آزر . وكان ملك تلك البلاد من البابليين يومها، واسمه النمرود ، فقوم إبراهيم كانوا مملوكين أو تحت سلطان النمرود . والتماثيل: جمع تمثال، وهو صورة مثل الإنسان أو مثل الحيوان، يقال له: تمثال؛ من المثل والشبه. فقد كان لهم أصنام في صور الناس يعبدونهم.

فقال لهم إبراهيم: أخبروني مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا [الأنبياء:52]، أي: عليها عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]؟ أي: تظلون معها، وتبيتون أحياناً معها، فقد كانوا يأتون ويذهبون ويعودون إليها، فكانوا عاكفين عليها يعبدونها ويتوسلون بها للحصول على أطماعهم، وما يشتهون وما يريدون. وهم بذلك مشركون كافرون.

فبدل أن يعبدوا الله خالقهم وخالق كل شيء عبدوا أصناماً صنعوها بأيديهم وتماثيل، وعكفوا عليها يعبدونها بأنواع العبادات كالدعاء والاستغاثة، والذبح والنذر. فقال إبراهيم عليه السلام لأبيه والده آزر وقومه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]؟ وأي شيء هي؟ وكيف تعبد؟ فهي مصنوعة صنعتموها بأيديكم، وهي لا تسمع ولا تبصر، ولا تعطي ولا تمنع.

قال تعالى: قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:53]. واعتذروا إليه بهذا. أي: نحن ليس عندنا علم ولا بصيرة ولا حجة أبداً، وإنما فقط التقليد الأعمى، فقد وجدنا آباءنا وأجدادنا لها عابدين، فنحن نعبدها. والتقليد ليس بحجة أبداً، بل الحجة قال الله وقال رسوله، وأما وجدنا الناس يفعلون ففعلنا فهذه حجة باطلة، مدحوضة، لا قيمة لها. وهم قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:53].

قال لهم إبراهيم بعد: قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54] والله العظيم. فقال لهم: لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [الأنبياء:54] في ضلال واضح بين؛ لأنكم تعبدون الأحجار، وتتركون عبادة رب السموات والأرض. ولذلك لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54]. لا يحتاج إلى برهان، ولا دليل. فالذي يضع رأسه أمام حجر يدعوه ويترك رب السموات والأرض ولا يرفع رأسه ولا كفيه يسأله فهذا ليس فيه حق، وليس فيه هداية، بل هذا في ضلال بين واضح حقاً. والذين يعبدون القبور والأصنام والأحجار ويدعون أنهم على علم ومعرفة وأنهم مهتدون ليس فيهم أية هداية، بل هم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54].

رد قوم إبراهيم عليه قائلين: أَجِئْتَنَا [الأنبياء:55] يا إبراهيم! بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء:55] الساخرين المازحين؟ فقل لنا الواقع، هل جئتنا بالحق بأن لا نعبد إلا الله، وأن نترك عبادة آلهتنا التي عبدناها وعبدها آباؤنا، أم أنت من اللاعبين فقط المازحين، فتقول هذا ولست بجاد ولا بصادق فيما تقول؟

أجابهم الله بقوله: قَالَ بَل رَبُّكُمْ [الأنبياء:56]، أي: معبودكم الحق الذي يجب أن تعبدوه رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنبياء:56]. فهو قد علم هذا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء:51]. فهذا من رشده، فقد قَالَ بَل [الأنبياء:56]، فأبطل ما ادعوه وقالوه من أنه من اللاعبين، فقال لهم: بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ [الأنبياء:56]، أي: خالق السموات وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء:56]. ومعنى فطرهن: خلقهن على غير مثال سابق. والخلق إيجاد، فخلق: أوجد، ولكن فطر إذا أوجد على غير مثال سابق، فالسماوات والأرضين لم يكن قبلها مثلها ثم خلق مثلها، إذاً: فهو فاطر السماوات والأرض، كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1].

فهنا قال عليه السلام يبين لهم: بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:56]، أي: على كون ربكم رب السموات والأرض، وأنه الذي فطرهن، فأنا على ذلكم من الشاهدين، فأنا أقول على علم، وأشهد على علم.

قال لهم إبراهيم بعد ذلك: وَتَاللَّهِ [الأنبياء:57]. وهذه يمين، فأنت تحلف وتقول: بالله، وتقول: تالله، وتقول: والله. وفي الباء يصح أن تقول: برب الكعبة .. بالله .. بمنزل هذا الكتاب .. بمن بيده روحي، وتقول في الواو كذلك: والله ما فعلت كذا وكذا. وأما التاء فلا تكون إلا مع الله، فتقول: تالله فقط، ولا تقل: تالنبي .. تالكعبة، أو تكذا. هذه هي حروف القسم، وقد قال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:1-4]. وقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1].

فالواو من حروف القسم، فتحلف بها في أول كلامك، والباء كذلك، فتقول: بربنا .. برب الكعبة .. بالله، ولا حرج، وأما التاء -كما قال إبراهيم: تالله- فلا تكون إلا مع اسم الجلالة الله، ولا تكون مع غيره من الأسماء، فلا تقل: تالعزيز .. تالحكيم .. تالرحيم، بل تكون فقط مع اسم الجلالة الأعظم الله.

فحلف إبراهيم ليطمئنوا، ولتسكن نفوسهم إلى ما يقول لهم، فهذه سنة الله في العباد، وهي: أنك إذا أخبرت أخاك بخبر صعب لا يصدقك، فتضطر إلى أن تحلف له الآن. ولهذا تفضل الله عز وجل علينا، فكان يحلف لنا على الأمور الصعبة؛ حتى نثق ونصدق، فقال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:1-4]. وهكذا قال: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر:1-4]. فهذه أيمان من الله. وهو يحلف من أجلنا حتى نصدق بالخبر، وتطمئن نفوسنا إليه، وتسكن أرواحنا وتطمئن، بخلاف ما لو أخبرنا بخبر بدون يمين فإن النفس تبقى مضطربة، فحلف الله لعباده من باب الرحمة بهم، والإحسان إليهم، وليس لأن الله محتاج إلى هذا.

وهنا إبراهيم عليه السلام حلف لقومه؛ حتى يصدقوه وتطمئن نفوسهم، فقال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]. فقد كانوا مجتمعين على أصنامهم، عاكفين يعبدونها، فجاء يخاطبهم ويدعوهم ويوجههم بلسانه بالحجة والبرهان، فقالوا كما علمتم: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء:55]؟ ولما صمموا وأصروا على بقائهم عليها قال لهم: وَتَاللَّهِ [الأنبياء:57]، أي: والله، لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [الأنبياء:57]، أي: أمكر بها وأحتال عليها، وأبددها وأحطمها. ولا أحد يقوى على هذا، فهذه شجاعة فوق العادة، فهو لم يقل هذا لواحد، أو قاله لهم وهم بعيدون عنها، بل قاله وهم عاكفون عليها، فقد قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [الأنبياء:57]، أي: لأحتالن عليها وأكسرها وأحطمها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، أي: بعدما ترجعوا عنها إلى بيوتكم وأعمالكم أخلوا بها وحدي وأحطمها.

وبالفعل والله جاء بفأس وأخذ يكسرها في يوم عيد، فقد كان يوم نزهة عندهم يخرجون فيه خارج البلاد للتمتع، وكان من سنتهم ومن عادتهم أنهم يتركون ألوان الطعام بين يدي الأصنام لتباركها، فهذا يترك حلويات، وهذا بقلاوات، وهذا كذا؛ حتى تبارك، فإذا رجعوا من نزهتهم يأخذونها ويأكلونها.

فعلم الخليل أنهم سوف يخرجون غداً إلى عيدهم.

فقال لهم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا [الأنبياء:57] وترجعوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57] إلى بيوتكم.

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:53-58].

لما خرجوا من الغد جاء إبراهيم بفأس وأخذ يكسر الأصنام ويحطمها، حتى جعلها جذاذاً وقطعاً متناثرة. ثم جاء بالفأس فربطه في عنق الصنم الأكبر، فقد كان عندهم إله أكبر، فربط في عنقه الفأس؛ حتى يقول هذا الذي فعل بكم ما فعل.

لما عاد قوم إبراهيم فرحين من نزهتهم إلى الأصنام وجودها متناثرة متحطمة قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]. قال بعضهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، أي: سمعنا فتى شاباً قوياً يذكرهم، وبذكر عدم الرضا بهم والموافقة على وجودهم يقال له: إبراهيم!

قال تعالى: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]. فجيء بإبراهيم والناس حاضرون، و قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:62-63]. ولما قال لهم: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] لم يقولوا شيئاً، وفشلوا وانهزموا.

ولكنهم لم يرجعوا إلى إبراهيم، ولم يعبدوا معه الله رب العالمين، بل أصدروا حكمهم عليه بإحراقه في النار، كما سيأتي في الآيات الآتية.

كذبات إبراهيم عليه السلام الثلاث

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره: أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات فقط.

الكذبة الأولى: لما أرادوا أن يخرجوا إلى العيد، والناس يسمونه الآن شم النسيم أو كذا، والنصارى عندهم هذا اليوم، وهم يفعلونه في الربيع. فقالوا: هيا يا إبراهيم! امشي معنا، فرفع رأسه إلى السماء وقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، كما قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]. ليوهمهم بأنه يعبد النجوم، ويطلب الإذن منها؛ لأنهم يعبدون النجوم، ولذلك فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]. وهو في الحقيقة سقيم متألم متحرق لأن قومه ومنهم أبوه وأمه يعبدون الأصنام. فهذه كذبة، ولكنها أفضل من صدقنا نحن إن صدقنا.

والثانية: لما أتوا به كما علمتم قال لهم: بل فعله كبيرهم هذا، ولست أنا الذي فعلت، وأشار إلى يده، وقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]. فالظاهر أنها كذبة، وليست بكذبة أبداً، فيده هي التي فعلت، وذلك تورية.

والثالثة: أنه لما حكم عليه بالإعدام وأججوا النار وألهبوها أربعين يوماً حتى يكون عبرة للناس، فلا يقوى أحد أن يتكلم عليهم في آلهتهم، فأججوا النار أربعين يوماً، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ( الوزغ كانت تأتي وتنفخ في النار لتشتعل ). وهذا من آيات الله وتدبير الله. ولذلك إذا وجدتم الوزغ في بيوتكم فاقبلوها والعنوها؛ لأنها كانت ضد التوحيد والموحدين، فقد كانت تنفخ في النار وتأججها، ومن ثم كانت أم المؤمنين عائشة تضعت في حجرتها جريدة من النخل، وتتابع الوزغ وتقتلها؛ استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم لما خرج من النار كان يعرق جبينه فقط، يتصبب عرقاً. والغريب أنهم ما استطاعوا أن يلقوه في النار المشتعلة من أربعين يوماً في حفرة عظيمة، فزين لهم الشيطان صنع المنجنيق، فوضعوه في المنجنيق ورموه به.

ومن اللطائف: أنه لما كان في طريقه إلى النار -وكان لا بد له من دقيقة حتى يصل أو لحظة- عرض له جبريل عليه السلام، وقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا حاجة لي، حسبي الله ونعم الوكيل. وما إن وقع في النار حتى بردت، ولولا أن يموت إبراهيم من البرد لتحولت إلى جبال من الثلج، فاحترق الوثاق الذي في يديه ورجليه، وخرج وجبينه تتصبب عرقاً. فقال أبوه: نعم الرب ربك يا إبراهيم! مع أن إبراهيم كان مع والده في حوار وجدال سنوات، ومن أراد أن يعرف ذلك فعليه بسورة مريم من قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ [مريم:41]. وينظر كيف كان يجادل أباه، وأبوه يجادله ويهدده. وهنا قال: نعم الرب.


استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة المؤمنون (7) 3891 استماع
تفسير سورة المؤمنون (10) 3742 استماع
تفسير سورة الحج (11) 3654 استماع
تفسير سورة النور (12) 3646 استماع
تفسير سورة الأنبياء (9) 3504 استماع
تفسير سورة الأنبياء (5) 3492 استماع
تفسير سورة الأنبياء (14) 3491 استماع
تفسير سورة الأنبياء (15) 3416 استماع
تفسير سورة المؤمنون (6) 3340 استماع
تفسير سورة الحج (17) 3193 استماع