أقول و بالله التوفيق: اعلم رحمني الله وإياك؛ أن البحث فيما شجر بين الصحابة، لا يقرب العبد إلى الله زلفى، فهم قد لقوا ربهم و هو أعلم بما شجر بينهم، فإن كان الأمر لا يقربك إلى الله زلفى و إنما قد يقودك إلى النار و أنت لا تعلم، فتجنبه أولى؛ إلا في حالة واحدة و سيأتي بيان هذه الحالة.
و معنى الإمساك عما شجر بين الصحابة، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب و الخلافات على سبيل التوسع و تتبع التفصيلات، و نشر ذلك بين العامة، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة و الانتصار لأخرى.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3/ 406) : و كذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، و نعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب و هم كانوا مجتهدين، إما مصيبين لهم أجران أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، و ما كان لهم من السيئات، و قد سبق لهم من الله الحسنى، فإن الله يغفر لهم إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة.
و ما شجر بينهم من خلاف فقد كانوا رضي الله عنهم يطلبون فيه الحق و يدافعون فيه عن الحق، فاختلفت فيه اجتهاداتهم، و لكنهم عند الله عز وجل من العدول المرضي عنهم، و من هنا كان منهج أهل السنة والجماعة هو حفظ اللسان عما شجر بينهم، فلا نقول عنهم إلا خيراً و نتأول و نحاول أن نجد الأعذار للمخطئ منهم و لا نطعن في نيّاتهم فهي عند الله، و قد أفضوا إلى ما قدموا، فنترضى عنهم جميعاً و نترحم عليهم و نحرص على أن تكون القلوب سليمة تجاههم.
قال ابن قدامة المقدسي في اللمعة (ص 175) : و من السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و محبتهم و ذكر محاسنهم و الترحم عليهم و الاستغفار لهم، و الكف عن ذكر مساوئهم و ما شجر بينهم، و اعتقاد فضلهم و معرفة سابقتهم، قال الله تعالى {و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا} [الحشر/10] و قال تعالى {محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح/29] و قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. البخاري مع الفتح (7/ 25) و مسلم برقم (6435) .
و يقول الإمام الذهبي رحمه الله في السير (10/ 92 - 93) : كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم، و قتالهم رضي الله عنهم أجمعين و ما زال يمر بنا ذلك في الدواوين و الكتب و الأجزاء، و لكن أكثر ذلك منقطع و ضعيف و بعضه كذب .. فينبغي طيه و إخفاؤه بل إعدامه لتصفوا القلوب، و تتوفر على حب الصحابة و الترضي عنهم، و كتمان ذلك متعين عن العامة و آحاد العلماء .. إلى أن قال: فأما ما نقله أهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نعرج عليه، ولا كرامة فأكثره باطل و كذب و افتراء.
و فضيلة الصحبة و لو للحظة، لا يوازيها عملٌ ولا تنال درجتها بشيء، و الفضائل لا تؤخذ بالقياس.
و قد أخرج ابن عساكر في تاريخه (59/ 141) في ترجمة معاوية رضي الله عنه من طريق ابن منده ثم من طريق أبي القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازي قال: جاء رجل إلى عمي فقال له: إني أبغض معاوية، فقال له: لم؟ قال: لأنه قاتل علياً بغير حق، فقال له أبو زرعة: رب معاوية ربٌ رحيم و خصم معاوية خصمٌ كريم فما دخولك بينهما؟.
و قال الآجري رحمه الله في كتاب الشريعة (5/ 2485 - 2491) ، باب ذكر الكف عما شجر بين أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و رحمة الله عليهم أجمعين: ينبغي لمن تدبر ما رسمنا من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و فضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين، أن يحبهم و يترحم عليهم و يستغفر لهم، ويتوسل إلى الله الكريم لهم - أي بالدعاء و الترحم والاستغفار و الترضي - ويشكر الله العظيم إذ وفقه لهذا، ولا يذكر ما شجر بينهم، ولا ينقّر عنه ولا يبحث. فإن عارضنا جاهل مفتون قد خطي به عن طريق الرشاد فقال: لم قاتل فلان لفلان، ولم قتل فلان لفلان وفلان؟!.
قيل له: ما بنا و بك إلى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا تضرنا إلى علمها.
فإن قال قائل: و لم؟