قيل: لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا فيها على حسب ما أراهم العلم بها، و كانوا أعلم بتأويلها من غيرهم، و كانوا أهدى سبيلاً ممن جاء بعدهم، لأنهم أهل الجنة، عليهم نزل القرآن، و شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، و جاهدوا معه، و شهد لهم الله عز وجل بالرضوان والمغفرة و الأجر العظيم، و شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، فكانوا بالله عز وجل أعرف و برسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبالسنة، و منهم يؤخذ العلم، و في قولهم نعيش و بأحكامهم نحكم، و بأدبهم نتأدب و لهم نتبع و بهذا أمرنا.
فإن قال قائل: و أيش الذي يضرنا من معرفتنا لما جرى بينهم و البحث عنه؟
قيل له: لاشك فيه؛ و ذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا، و عقولنا أنقص بكثير، ولا نأمن أن نبحث عما شجر بينهم فنزل عن طريق الحق و نتخلف عما أمرنا فيهم.
فإن قال قائل: و بم أمرنا فيهم؟
قيل: أمرنا بالاستغفار لهم والترحم عليهم والمحبة لهم و الاتباع لهم، دل على ذلك الكتاب والسنة و قول أئمة المسلمين، وما بنا حاجة إلى ذكر ما جرى بينهم، قد صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، و صاهرهم، و صاهروه، فبالصحبة له يغفر الله الكريم لهم، و قد ضمن الله عز وجل لهم في كتابه ألا يخزي منهم واحداً، و قد ذكر لنا الله تعالى في كتابه أن وصفهم في التوراة و الإنجيل؛ فوصفهم بأجمل الوصف، و نعتهم بأحسن النعت، وأخبرنا مولانا الكريم أنه قد تاب عليهم، و إذا تاب عليهم لم يعذب واحداً منهم أبداً رضي الله عنهم و رضوا عنه {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة/22] .
فإن قال قائل: إنما مرادي من ذلك لأن أكون عالماً بما جرى بينهم، فأكون لم يذهب عليّ ما كانوا فيه لأني أحب ذلك ولا أجهله.
قيل له: أنت طالب فتنة، لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك، و لو اشتغلت بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبدك به من أداء فرائضه و اجتناب محارمه كان أولى بك. و قيل له: ولا سيّما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضالة - فما يقول رحمه الله لو رأى ما يحدث و يقال في زمننا هذا -.
و قيل له: اشتغالك بمطعمك، و ملبسك من أين؟ هو أولى بك، و تمسكك بدرهمك من أين هو؟ و فيم تنفقه؟ أولى بك.
و قيل: لا نأمن أن تكون بتنقيرك و بحثك عما شجر بين القوم إلى أن يميل قلبك فتهوى ما يصلح لك أن تهواه، و يلعب بك الشيطان فتسب و تبغض من أمرك الله بمحبته و الاستغفار له و باتباعه، فتزل عن طريق الحق، و تسك طريق الباطل.
فإن قال: فاذكر لنا من الكتاب و السنة و عمن سلف من علماء المسلمين ما يدل على ما قلت، لنرد نفوسنا عما تهواه من البحث عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم.
قيل له: قد تقدم ذكرنا لما ذكرته مما فيه بلاغ و حجة لمن عقل، و نعيد بعض ما ذكرناه ليتيقظ به المؤمن المسترشد إلى طريق الحق. قال الله عز وجل {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ .. } [الفتح:29] . ثم وعدهم بعد ذلك المغفرة والأجر العظيم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . و قال الله عز وجل {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة/117] . و قال عز وجل {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة/100] . و قال عز وجل {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم/8] . و قال عز وجل {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران/110] . و قال عز وجل {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح/18] . ثم إن الله عز وجل أثنى على من جاء من بعد الصحابة فاستغفر للصحابة و سأل مولاه الكريم ألا يجعل في قلبه غلاً لهم، فأثنى الله عز وجل عليه بأحسن ما يكون من الثناء فقال عز وجل {و الذين جاءوا من بعدهم .. إلى قوله .. رءوف رحيم} [الحشر/10] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. أخرجه البخاري مع الفتح (7/ 5) و مسلم برقم (6419) و أحمد في المسند (1/ 438) . وقال ابن مسعود: إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه و بعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب