الصفحة 16 من 73

إن الزهد الحقيقي هو الزهد في الدنيا حتى يستوي عنده ذهبها وترابها والزهد في مدح الناس أو ذمهم , فمن كان هكذا فهو من أطباء القلوب , فإن بدا منه ما يخالف الشريعة نَرُدَّ عليه بدعته ونضربها في وجهه (1) . وقد مدح الخليفة العباسي المنصور عمرو بن عبيد المعتزلي على زهده فعلق ابن كثير:"الزهد لا يدل على صلاح فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد مالا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين" (2) .

قد يظن العوام الذين يرون عبادة هؤلاء أنهم أفضل من الصحابة , لأنهم لم يسمعوا أن الصحابة كانوا يفعلون مثل هذا والناس يعجبون بالغرائب والتشدد , ولا يعلمون أن الشريعة جاءت بالطريق الأوسط الأعدل , وقلة العلم بالآثار والسنن هي التي أوصلت بعض هؤلاء الناس إلى التشدد , وظنوا أن القصد من الشريعة هو العمل ولذلك فلا داعي للعلم , وإذا كان من الصعب تكامل الشخصية الإسلامية على مستوى جيل من الناس كما وجد عند الصحابة فلا أقل من اقتفاء آثارهم ما أمكننا ذلك ولا نتطرف في ناحية دون أخرى .

إن السماع الذي استحدثوه هو الذي أنكره الشافعي رضي الله عنه عندما زار بغداد وقال:"خلفت ببغداد شيئاً يسمونه التغيير يصدون به الناس عن القرآن" (3) , ويقول ابن تيمية:"وهذا حدث في أواخر المائة الثانية وكان أهله من خيار الصوفية" (4) ويقول أيضاً:"وهذه القصائد الملحنة والاجتماع عليها لم يحضرها أكابر الشيوخ كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم والكرخي , وقد حضرها طائفة منهم ثم تابوا وكان الجنيد لا يحضره في آخر عمره" (5) .

(1) أبجد العلوم: 2/ 374 للقنوجي نقلاً عن الشوكاني .

(2) البداية والنهاية: 10/80 .

(3) يقول ابن القيم:"فإذا كان هذا قول الشافعي في التغيير وهو شعر يزهد في الدنيا ولكنه ينشد بألحان فليت شعري ما يقول في سماع التغيير عنده تفلة في بحر . انظر: إغاثة اللهفان 1/239."

(4) الاستقامة 1/297 .

(5) الفتاوى 11/534 , والمقصود بـ ( لا يحضره ) ما يسمى عند الصوفية بالسماع .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام