تائهون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والحاصل أن المرجئة جعلوا الإيمان شيئاً واحداً وهو التصديق ودليله اللسان، ولأجل هذا صار قولهم في الكفر أنه منحصر بالتكذيب، وصار يورد عليهم أهل السنة شبهاً لا قبل لهم بها من الكتاب والسنة ومن واقع كثير من أفراد الأمة، وقد كنا تكلمنا في خضم الأجوبة عن الأسئلة السابقة، من أن القرآن أثبت لأهل الكفر أصل التصديق مع تكفيره لهم، وحكم عليهم بالخلود في النار، وهذا أعظم ما ينقض قولهم بالإيمان أنه التصديق فقط من غير عمل، فصار يقول لهم أهل السنة: القرآن يكذبكم ويوردون عليهم أسئلة، فمنها ما تقولون في رجل يسب الله ورسوله، أو يسجد لصنم، أو يضع القرآن في الحش، إلى غير ذلك من الأقوال والأفعال الناقضة لأصل الإيمان، فما تقولون في مثل هذا لو قال أنه مصدق في الباطن؟ فيجيبهم المرجئة بأنه يستحيل أنه يكون مصدقاً في الباطن وهو يفعل مثل هذا، فهذا علامة تكذيبه في الباطن عندهم، فإذا قال لهم أهل السنة: مثل هذا موجود في القرآن مثل ما كان عليه أئمة الكفر، كفرعون وهامان وقارون، بل من صناديد أئمة الكفر الذين تصدوا لدعوة الأنبياء، فإن القرآن أثبت لهم التصديق، وأثبت أن كفرهم إنما كان بالجحد والعناد والكبر ولم يكن بالتكذيب
، فإذا أوردوا عليهم هذا تناقضوا تناقضاً عظيماً في ذلك، فإذا قالوا هؤلاء كفروا بشيء آخر، قال لهم أهل السنة أثبتوا لنا هذا الشيء الآخر، فإذا قالوا هو شيء زائد عن أصل التكذيب من دفع الحق وإنكاره، قال لهم أهل السنة: إذ لا بد وأن يكونوا قد كفروا بشيء آخر ألا وهو ترك العمل من الحب والانقياد، فإذا رفض ذلك المرجئة تناقضوا، وإن أقروا خصموا، لأنهم على هذا يكونوا قد ألزمهم أهل السنة بقولهم لهم: لزمكم أن تدخلوا شيئاً زائداً عن أصل التصديق ألا وهو أعمال القلب، وأعمال القلب لازمة لأعمال الجوارح بلا ريب، فدل ذلك على أن أصل الإيمان مركب من شيئين قول القلب وعمله، فقول القلب دليله قول اللسان، وعمل القلب دليله عمل الجوارح، فمتى انتفت أعمال الجوارح مع القدرة عليها، دل ذلك على انتفاء عمل القلب في الباطن، وإذا انتفت الأعمال ظاهراً وباطناً دل ذلك على كفر في القلب وزندقة، ولا ينفع التصديق مع مثل هذا الانتفاء وهو المطلوب.