فهرس الكتاب
الصفحة 8 من 85

واعلم عبد الله أنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، فمن حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال: (ليْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِليْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَل مِنْ أَجْل ذَلكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَليْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْل ذَلكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ وَليْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِليْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْل ذَلكَ أَنْزَل الكِتَابَ وَأَرْسَل الرُّسُل) ، وفي رواية البخاري من حديث المُغِيرَةِ: (وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِليْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ وَمِنْ أَجْل ذَلكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ) .

فالجاهل من المسلمين بعد الطلب والسؤال، إن لم يصل إلي العلم بالحكم في مسألة ما، فهو معذور بجهله في هذه المسألة، وإن كان محاسبا على غيرها مما ألم بحكمها، وخلاصة القول في مسألة العذر بالجهل أن الجاهل معذور بجهله إن لم يكن الجهل من كسبه وفعله، وذلك من كمال عدله وفضله سبحانه وتعالي.

روي الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن زيد بن عمرو بن نفيل سافر إلي الشام يسأل عن الدين الحق ويبتغي اتباعه، وكان ذلك قبل مبعث النبي (فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينه، وقال: أخبرني عن دينكم لعلى أدين به؟ قال اليهودي: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله؟ قال: وهل أفر إلا من غضب الله؟ والله لا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، فهل تدلني على دين ليس هذا فيه؟ قال: ما أعلم إلا أن تكون حنيفا؟ قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وكان لا يعبد إلا الله، فخرج زيد بن عمرو يطلب المزيد ويبحث عن القول السديد، حتى لقي عالما من النصارى، فسأله عن دينه، وقال: أخبرني عن دينكم لعلى أدين به؟ فقال له عالم النصارى: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله؟ فقال: والله لا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا، فهل تدلني على دين ليس هذا فيه؟ فقال له: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا، فعاد زيد إلي مكة وقد رضي بما أخبروه واتفقوا عليه من دين إبراهيم عليه السلام، فلما برز زيد إلي أهل مكة رفع يديه إلي السماء قائلا: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.

وروي البخاري أيضا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِي الله عَنْهمَا أنها قَالت: (رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلي الكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللهِ مَا مِنْكُمْ على دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي وَكَانَ يُحْيِي المَوْءُودَةَ يَقُولُ للرَّجُل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُل ابْنَتَهُ: لا تَقْتُلهَا أَنَا أَكْفِيك مَئُونَتَهَا، فَيَاخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَال لأَبِيهَا إِنْ شئت دَفَعْتُهَا إِليْكَ وَإِنْ شئت كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا) .

وقد ذكر الواقدي أن زيد بن عمرو بن نفيل آمن برسول الله (قبل مبعثه وقال لعامر بن ربيعة رضي الله عنه:(يا عامر إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، كانا يصليان إلي هذه القبلة، وأنا انتظر نبيا من بني إسماعيل يبعث ولا أراني أدركه وأنا أومن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي فإن طالت بك الحياة يا عامر فأقرئه مني السلام، قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أعلمت النبي صلي الله عليه وسلم بخبره، فرد عليه السلام وترحم عليه، وقال: زيد بن عمرو يبعث يوم القيامة أمة وحده، ولقد رأيته في الجنة يسحب ثوبه وذيوله) .

فهذا الرجل لم يقصر في البحث والسؤال لدي العلماء، وإن مات قبل أن يدرك رسالة السماء التي نزلت على سيد الأنبياء فقد آمن بالنبي صلي الله عليه وسلم قبل مبعثه، وآمن بكل أحكام العبودية وإن لم يدرك ماهية الأحكام الشرعية، فأخذ حكم من اتبع النبي ومات على دربه وكان من أتباعه وحزبه.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام