فإن أرسل الله إلي الناس رسالته وأدركوا بعقولهم حجته، ثم أعرضوا عنها وتملصوا منها ووقعوا في الجهل بتكذيبهم وإعراضهم، كان كفرهم كفر جهل وتكذيب، كما ثبت عن نبينا الحبيب في الحديث الذي رواه الإمام مسلم بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَّهُ قَال: (وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلمْ يُؤْمِنْ بِالذِي أُرْسِلتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) ، وقال سبحانه وتعالي: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُل أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حتى إِذَا جَاءُوا قَال أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ القَوْلُ عَليْهِمْ بِمَا ظَلمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ) ، وقال جل جلاله: (بَل كَذَّبُوا بِمَا لمْ يُحِيطُوا بِعِلمِهِ وَلمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالمِينَ) .
قال تعالى: (كُلمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلهُمْ خَزَنَتُهَا أَلمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلي قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك.
فهؤلاء الكفار لولا أن الحجة بلغتهم ما اعترفوا بذنبهم أو أقروا بحمقهم، فأعراضهم عن الرسالة بالكلية أدي إلي كفرهم وإن جهلوا محتواها ولم يفهموا معناها، ولذلك وقعوا في كفر الجهل والتكذيب، وهو أول أنواع الكفر بالله، فتجد العبد يعرض عن الله عند أول سماعه للدليل، ويكذب بالحق حتى لو ورد في التنزيل، يغلق قلبه وعقله ويوقف نظره وفكره، روي البخاري من حديث ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلي كِسْرَي مَعَ عَبْد ِاللهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلي عَظِيمِ البَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلي كِسْرَي فَلمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، مزقه دون تفكر أو سؤال أو نظر واستدلال، وقد ورد في الحديث أن عبد الله بن عباس قال: فَدَعَا عَليْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُل مُمَزَّقٍ.
فالإنسان مسئول عن السبب في جهله، فإن كان الجهل من كسبه وفعله، وإعراضه وكبره، فهو محاسب على كل معصية وقع فيها بجهله، سواء كانت المخالفة مخالفة عظيمة تؤدي إلي الخلود في النار، أو كانت المخالفة كبيرة تحت مشيئة الواحد الجبار، إن شاء غفرها لعبده وإن شاء عذبه بذنبه.
أما إذا انقطعت به الأسباب وانسدت في وجهه الأبواب، ولم يتمكن من معرفة ما نزل في الكتاب بعد الطلب والبحث والسؤال ولم يعص الله فيما قال: (فَاسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ) (النحل:43) ، فهو باتفاق معذور بجهله لا يؤاخذ على ذنبه لأن الجهل ليس من كسبه، بل هو من تقدير الله وفعله، وقد قال سبحانه وتعالي: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا) .
فلو ضربنا مثلا لذلك وفرضنا أن رجلا من المسلمين لقلة علمه وقع في معصية بجهله فاحتار في نفسه، وتساءل أهي معصية لله أم لا، فعزم الأمر على أن يسأل أهل الذكر، حتى ولو كانوا على مسافة بعيدة تتطلب شد الرحال، وفي الطريق دهمته سيارة ومات في الحال، مات هذا الشخص على المعصية بجهله، أيقول عاقل إنه مؤاخذ على ذنبه قبل علمه؟ فالموت من تقدير الله وفعله، والجهل الذي وقع فيه هذا الشخص ليس من فعله وكسبه، فنيته التي مات عليها أن يطيع الله إذا علم الحكم الذي ورد في كتاب الله، وقد سمع عُمرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنْه رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكُل امْرِئٍ مَا نَوَي) .