الظُّهْرَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ ثم صَعِدَ المِنْبَرَ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَال مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَل عَنْ شَيْءٍ فَليَسْأَل، فَلا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي البُكَاءِ وَأَكْثَرَ رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ يَقُول سَلُونِي ? يقول أنس فَجَعَلتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَاسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي - فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، وكان إِذَا لاحَي الرِّجَال ? أي خاصمهم أو جادلهم- يُدْعَي لغَيْرِ أَبِيهِ، فشك في أبيه - فَقَال مَنْ أَبِي يا رسول الله؟ قَال: أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُول سَلُونِي، فَبَرَكَ عُمَرُ على رُكْبَتَيْهِ، وقَال رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَسَكَتَ رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ، ثُمَّ قَال عُرِضَتْ على الجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ فَلمْ أَرَ كَالخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وري البخاري بسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رَضِي الله عَنْه أن رسول الله أعْطي رِجَالا من قريش المِائَةَ مِنَ الإِبِل حِينَ كثرت الغنائم مِنْ أَمْوَال هَوَازِنَ وأَفَاءَ اللهُ عَليه مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَال، فَقال بعض الأَنْصَارِ: يَغْفِرُ اللهُ لرَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا و، َسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فعلم رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِمَقَالتِهِمْ فَأَرْسَل إلي الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ، وَلمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال: مَا حَدِيثٌ بَلغَنِي عَنْكُمْ، فَقَال فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُول اللهِ فَلمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا يَغْفِرُ اللهُ لرَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إِنِّي أُعْطِي رِجَالا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَال وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إلي رِحَالكُمْ، فَوَاللهِ لمَا تَنْقَلبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلبُونَ بِهِ، قَالُوا يَا رَسُول اللهِ قَدْ رَضِينَا، فَقَال لهُمُ النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ: سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حتى تَلقَوُا اللهَ وَرَسُولهُ، فَإِنِّي على الحَوْضِ.
فالرضا أساس القبول ولازمه القناعة والطاعة والتسليم، فالرضا بالله ربا وهو أن لا يكره ما يجري به القضاء ويشكره على النعماء والسراء وصبر على البلاء والضراء، والرضا بالإسلام دينا أن يخضع لأمر الله ونهيه، فيذم ما ذمه الله ويكره ما كرهه الله، لموافته رضاه في كل شيء شرعه الله، على تفصيل العلم الذي جاءنا عن رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ، فما كان من خير وبر أمر الله به على الوجوب، أو الاستحباب والمندوب، رضي به العبد ونفذه على الوجه المطلوب، وما كان من شر نهي عنه وحذرنا منه، فعلى العبد أن يمتنع ويرتدع، ويعلم أنه إذا اقترف سوءا فإنه يعترف بذنبه وخطيئته، ويستوجب العقوبة بعدل الله وحكمته، ويسارع لله في تقديم توبته، وأنه لن يخالف أمرا من شريعته، أما الرضا بمحمد صلي الله عليه وسلم نبيا ورسولا ألا يحدث في دين الله أمرا يخالف سنة نبيه صلي الله عليه وسلم قولا وفعلا، ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمرا لأمره ومنتهيا عن نهيه.
واعلم عبد الله أن أساس القبول أو الرد كائن في القلب، فالقلب له نية أصيلة وإرادة مختارة، وله دوره الفعال في تحديد المصير وعواقب التدبير، فإرادة القلب مصدر أفعال الإنسان، وأساس النيات والرغبات، والقصود والاختيارات والحركات والسكنات، سواء الداخلية في ذات الإنسان أو الخارجية في حركة الأبدان، ولما كان الإيمان قول وعمل، قول وعمل في باطن الإنسان و قول وعمل في ظاهره، فإن أصول القبول الذي ينافي الرد أربعة أركان، قبول القلب وهو عمله وعمله، وقبول اللسان وهو قوله ونطقه، وقبول الجوارح بالخضوع والانقياد، أما أصول الرد التي تنفي القبول،