فقال سبحانه وتعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: من الآية63) ، فحذر الله المخالفين لرسول الله من الفتنة والعذاب، فدل هذا العقاب على أن الأمر الذي خالفوه واجب مفروض، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36) ، فبين الله تعالى أنه لا اختيار للعباد إذا أمرهم سوي التنفيذ والانقياد، وهذا يعني أن الأمر المطلوب حكمه الفرض والوجوب، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33) ، فالانقياد شرط لصحة الأعمال وكمالها، وعدم الانقياد يؤدي إلي إحباط الأعمال وبطلانها.
وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ لأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ أَوْ خَمْسٍ فَدَخَل على وَهُوَ غَضْبَانُ فَقُلتُ مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُول اللهِ أَدْخَلهُ اللهُ النَّارَ قَال أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ، وفي رواية ابن ماجة عن البراء بن عاذب أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر أصحابه بفسخ الحج إلي عمرة، فردوا عليه القول، فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان، فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ فقال: ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع)، فالحديث دليل على أن أمره صلي الله عليه وسلم ينبغي أن ينفذ بلا عصيان، ولولا أن أمره للوجوب ما دخل على عائشة غضبان.
وقد ثبت عند البخاري 4875 أن بريرة كانت أمة متزوجة من عبد يقال مغيث وأنجبت له ولدا، فأعتقتها عائشة رضي الله عنها فخيرها رسول الله صلي الله عليه وسلم بين أن تبقي زوجة للعبد أو تنفصل عنه وتنعم بحريتها، فاختار حريتها وفضلتها على البقاء مع زوجها وَقَالتْ: لوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا بقيتُ مَعَهُ، فكان يمشي خلفها ويطوف حولها، ويبكي حتى تَسِيل دُمُوعُهُ على لحْيَتِهِ ويقول بعبرته: عودي إلي يا بريرة، فتأبي عليه، فكان رسول الله يقول للعَبَّاسِ بن عبد المطلب: يَا عَبَّاسُ أَلا تَعْجَبْ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا، فَقَال لهَا النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ: يا بريرة لوْ رَاجَعْتِيهِ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلدِكِ؟ قَالتْ: يَا رَسُول اللهِ أَتَامُرُنِي؟ قَال: إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ، قَالتْ: فَلا حَاجَةَ لي فِيهِ.
والشاهد من الحديث في الانقياد لأمر الله، أن شفاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم في رجوعها إلي زوجها ليست لازمة ولكنها علمت أنه لو أمرها بالرجوع لزوجها للزمها ذلك، فإن أمره صلي الله عليه وسلم للوجوب ويلزمها الانقياد والطاعة.
وكل فعل أمر ورد في القران أو السنة، وفيه إلزام بتنفيذ المطلوب، فإن الحكم فيه يدل على الوجوب كما في قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) المزمل/، ففعل الأمر أقيموا يدل على أن إقامة الصلاة فرض عين على المسلمين، وكذلك الأمر في قوله وآتوا الزكاة يدل على أن الزكاة واجب على الأغنياء للفقراء والمساكين، ولو رأيت الفعل مقترنا بلام الأمر، فاعلم أن الأمر المطلوب يدل على الوجوب، ومثاله في قوله تعالى: (ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ وَليَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ) الحج/29، فالفعل المضارع يقضوا ويوفوا وكذلك يطوفوا، اقترنا الأمر فيهما باللام، فدل الأمر على الحتم والإ لزام، وهذا يعني أن الوفاء بالنذر والطواف بالبيت حكمهما المطلوب هو الفرض والوجوب.