فهرس الكتاب
الصفحة 56 من 85

، وقال تعالى في بيان أن هذا المنهج هو ما دعا إليه المرسلون أجمعون: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون ِ) (الأنبياء/25) ، فالإله بمعني المألوه الذي يستحق العبادة والانقياد والانصياع، وليس الإله بمعني القادر على الخلق والاختراع، كما يقول ذلك كثير من المتكلمين، فلو أقر الإنسان بما يستحقه رب العالمين، من الأسماء والصفات، ونزهه عن كل العيوب والآفات، وأقر بأن الله وحده هو خالق الموجودات، لم يكن مسلما موحدا حتى يشهد بكلمة التوحيد، ويحقق شروطها ويستوفي أركانها والتي من ضمنها، الانقياد لرب العباد، فإن المشركين في الجاهلية كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، ولكن إشكالهم أنهم كانوا يوحدون الله في الدعاء عند الشدائد والنقمة، ويشركون به عند الرخاء والنعمة، يقول تعالى: (وَلئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلقَهُمْ ليَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّي يُؤْفَكُونَ) الزخرف/87، (وَلئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ليَقُولُنَّ اللهُ قُل أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِي اللهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَل هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُل حَسْبِي اللهُ عَليْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُون) الزمر/38، روي النسائي في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، أن رسول الله يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ النَّاسَ إِلا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَال: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُموهُمْ مُتَعَلقِينَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فكان منهم عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْل، بعد أن علم أن النبي (أباح دمه ركب عكرمة البَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عاصفة شديدة أيقنوا أنها ستغرق سفينتهم -? فَقَال: أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلصُوا -، أي وحدوا ربكم في الدعاء والاستغاثة وقد كانوا كما تعلمون يلجئون في الرخاء إلي اللات والعزي ومناة الثالثة الأخرى وعند الشدائد يوحدون -? فَقَال: أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلصُوا فَإِنَّ آلهَتَكُمْ لا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا فَقَال عِكْرِمَةُ: وَاللهِ لئِنْ لمْ يُنَجِّنِي مِنَ البَحْرِ إِلا الإِخْلاصُ لا يُنَجِّينِي فِي البَرِّ غَيْرُهُ، فعاد عكرمة إلي عقله وفطرته، وقال معلنا للتوحيد عند نجاته وعودته - اللهُمَّ إِنَّ لكَ على عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ حتى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلاجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا - وبالفعل وفي بوعده - جَاءَ فَأَسْلمَ ومات عكرمة بفضل الله على كمة التوحيد.

فلا إله إلا الله، أو قضية الألوهية، لم تكن مثار جدل بين المشركين ورسلهم، إلا لأنها مبنية على توحيد العبودية وإفراد العباد ربهم بالطاعة والانقياد.

إذا علمت ذلك فاعلم الانقياد لرب العباد، يتمثل في امتثالك لأحكام العبودية وتنفيذ الأوامر الشرعية، فالعبادة طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل، وما أمر الله به على ألسنة الرسل، يطلق عليه الإرادة الشرعية أو الهداية الدينية، أو ما أراده الله من المكلفين، وما أمر به على ألسنة المرسلين، ليحقق معني العبودية وصلاح البشرية، والأمر الصادر من الله للعباد، وكلفهم فيه بالطاعة والانقياد، له خمس درجات متنوعة:

1 -الحكم الأول أو الدرجة الأولي درجة الإلزام، وهو التي تسمي في الأحكام بالواجب أو الفرض، فالله عز وجل إذا أمر عباده بأمر، فإن هذا الأمر ملزم للمسلمين، ويتحتم عليهم الانقياد له محبين خاضعين، لأن الإنسان في الأصل عبدُ خلقه الله، ويلزم من كونه عبدا أن يطيع سيده ومولاه، فإذا أمرنا الله بأمر فهو على سبيل الحتم والإلزام، وإذا امتنع العبد عن تنفيده وقع في الحرام، واستوجب الحساب والعقاب، والواجب هو الفرض عند جمهور العلماء، ولا فرق بينهما إلا من جهة الأسماء، وقد عرفوه بقولهم: هو ما أمر الله به أمرا ملزما يترتب على تركه العقاب، وقد أمرنا الله في كتابه وفي سنة نبيه صلي الله عليه وسلم، بأن ننقاد لأمره إذا كان مجردا عن قرينة الاختيار، وليس للعبد في تركه مجال،

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام