وإذا وردت آية فيها لفظ كتب عليكم أو كتبنا عليهم، فإن الحكم فيها الوجوب كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَليْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ(183) البقرة/183، ولو ردت آية أو حديث صرح بلفظ فرض أو وجب، علمنا أيضا أن درجة الحكم هي الوجوب والفرضية، كما قَال عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ في الحديث الذي رواه أبو داود: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ: خَمْسُ صَلوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ تعالى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلاهُنَّ لوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لهُ على اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ له)، وكما جاء في حديث البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: إِذَا جَلسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الغَسْلُ).
فالغسل من الجماع حكمه الوجوب لتصريح النبي بذلك، وكذلك إذا كانت الصيغة التي تدل على طلب الفعل مقترنة بوعيد وتهديد، كعذاب أو لعن على ترك الفعل أو غضب على عدم امتثال الأمر، دل ذلك على أن الحكم هو الوجوب ومثال ذلك في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْه قَال: لعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال) فترك الرجال التشبه بالنساء أمر ملزم، وتشبه النساء بالرجال فعل محرم، ومصدر هذا الإلزام بالوجوب أو الحرام، هو قرينة اللعن المترتبة على الفعل.
2 -الحكم الثاني من أحكام العبودية، هو المندوب أو المستحب، فقد تقدم أن الأمر الملزم يسمي بالواجب أو الفرض، وهو الحكم الأول من أحكام العبودية أو الدرجة الأولي من الأحكام الشرعية، التي تتطلب من العباد الامتثال والانقياد، ولكن قد يأمر الله بأمر ولا يريد الإلزام والوجوب، وإنما يريد أمرا فعله محبوب مندوب، وهو المسمي في أحكام الإسلام بالمستحب، فالمستحب هو ما أمر به الشرع لا على وجه الحتم والإلزام، أو ما ندب الشرع إلي فعله دون إلزام، أولوم أو لعن أو عقاب، بل بحث على الطاعة واستحباب، فيثاب المسلم على فعله ولا يعاقب على تركه، ومثاله في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلي أَجَلٍ مُسَمًّي فَاكْتُبُوهُ وَليَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْل) البقرة/282، فالأمر في الآية بكتابة الدين قد يدل على أنه للوجوب، ولكن ليس هذا بمقصود ولا مطلوب، وإنما الحكم أن الأمر بكتابة الدين محبوب مندوب، ولا يريد الله من أمره لنا الفرض والوجوب، لأنه قال بعد ذلك: (وَإِنْ كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَليُؤَدِّ الذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَليَتَّقِ اللهَ رَبَّهـ) البقرة/183، وهذا ما ذهب إليه الشعبي والحسنُ البصري ومالكٌ والشافعي أن كتابة الدين على الندب والإرشاد لا على الفرض وإلزام العباد.
ومن أمثلة ما استحبه الشرع دون إلزام، أمر النبي عليه الصلاة والسلام، بصلاة ركعتين قبل صلاة المغرب، فقد روي البخاري من حديث عَبْد اللهِ المُزَنِيّ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أنه قَال: صَلُّوا قَبْل صَلاةِ المَغْرِبِ قَال فِي الثَّالثَةِ لمَنْ شَاءَ)، ولا يقصد فيه النبي صلي الله عليه وسلم إلا الندب والاستحباب، كما ذكر ذلك العلماء، فقوله لمن شاء دليل على صرف الأمر من الوجوب إلي المندوب.
بالإضافة إلي أنه صلي الله عليه وسلم بين الصلاة المفروضة على المسلم، ففي الصحيح عَنْ طَلحَةَ بْنِ عُبَيْد الله أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ثَائِرَ الرَّاسِ فَقَال يَا رَسُول اللهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللهُ على مِنَ الصَّلاةِ فَقَال