عنوان الفتوى : أسباب ترك قتل النبي للمنافقين

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

كيف يرد على من يقول: إن المنافقين أظهروا نفاقهم فأصبحوا زنادقة، ومع ذلك لم يكفرهم ولم يقتلهم أو يستتيبهم النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ ويحتجون بقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}، ويحتجون أيضًا بقوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين}، ويحتجون أيضًا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لئلا يقولوا محمد يقتل أصحابه. ويحتجون أيضًا بمقولة: سمن كلبك يأكلك. ثم إني سمعت من أحد المشايخ أنه قال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال بأن من قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم الحد أو يستتب من أظهر كفره فإنه كافر مرتد ولا يعذر بالجهل، لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة. ومثله قال ابن حزم -رحمه الله. وقالوا: إن هذا غمز ولمز بالنبي -عليه الصلاة والسلام-. فما هو تعليقكم؟ وخصوصًا أن كثيرًا من الإخوة يقع في هذا الأمر، ويلبس عليه الشيطان، منهم شخص أحبه في لله، وعمره فوق الأربعين سنة، ويخاف الله، وربى أولاده على ذلك، وكان سببًا في إنقاذ حياتي ذات مرة، وعنده مكتبه لعلماء أهل السنة -رحمهم الله-. كيف أتصرف معه؛ هل أكفره؟ ماذا أقول له؟ وإذا كان مرتدًّا ماذا يفعل بعقد النكاح؟ لقد مرّ على قوله نحو شهر ونصف، ولم أره منذ أن قال ذلك.

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالثابت من حيث النقل المحفوظ تاريخيًّا، أن كلام الكفر الذي نطق به المنافقون إنما نطقوا به في غياب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما سمعه بعض المؤمنين ونقلوه للنبي -صلى الله عليه وسلم- سألهم عن ذلك، فأنكروه وتبرؤوا منه، ولما ثبتت تهمتهم بنزول الوحي أظهروا الندم والتوبة واعتذروا. ويكفي في ذلك أن يرجع السائل لتفسير الآيات التي ذكرها.

وقال ابن حزم في معرض الجواب ‏عن شبهة إسقاط حد الردة في مسألة ‏التعريف بالمنافقين والمرتدين: ‏‏{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا ‏نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ ‏وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا ‏قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ ‏طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا ‏مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65، 66]. هذه ‏بلا شك في قوم معروفين كفروا بعد ‏إيمانهم، ولكن التوبة مبسوطة لهم ‏بقوله تعالى: {إن نعف عن طائفة ‏منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا ‏مجرمين}. فصح أنهم أظهروا ‏التوبة والندامة واعترفوا بذنبهم، ‏فمنهم من قبل الله تعالى توبته في ‏الباطن عنده لعلمه تعالى بصحتها، ‏ومنهم من لم تصح توبته في الباطن ‏فهم المعذبون في الآخرة، وأما في ‏الظاهر فقد تاب جميعهم بنص الآية. ‏اهـ.‏

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ‏‏الصارم المسلول: الحد لم يقم على ‏واحد بعينه؛ لعدم ظهوره بالحجة ‏الشرعية التي يعلمه بها الخاص ‏والعام، أو لعدم إمكان إقامته إلا مع ‏تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام ‏وارتداد آخرين عنه، وإظهار قوم من ‏الحرب والفتنة ما يربى فساده على ‏فساد ترك قتل منافق ... اهـ.‏

وقد سبق لنا التفصيل في ذلك ونقل كلام أهل العلم فيه، والتنبيه على أنه لا بد في الحكم ‏بالردة على من أظهر الإسلام من قيام الحجة ‏الشرعية على ردته، ثم إنه لا يقتل ‏عند جمهور العلماء حتى يصرّ على ‏الردة بعد أن يستتاب، وهذا لم يحصل من المنافقين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بل كانوا بين منكر ومتبرئ من الكفر، وبين معتذر معلن بالتوبة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ‏قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة ‏أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ‏ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر. ‏وكان في المنافقين من يعلمه الناس ‏بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون ‏في نفاقه، ومن نزل القرآن ببيان ‏نفاقه -كابن أبيّ وأمثاله- ومع هذا ‏فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم ‏المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت ‏آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماؤهم ‏حتى تقوم السنة الشرعية على ‏أحدهم بما يوجب عقوبته. اهـ.

وبذلك يُعرف جواب آخر السؤال، وراجع في تفصيل ذلك الفتوى رقم: 267592.

ومنها يُعلم خطأ المنقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية مما ذكر السائل أنه سمعه من أحد المشايخ، وكذلك المنقول عن ابن حزم. فقد عرف مما سبق أن مذهبه في ترك قتل هؤلاء المنافقين إنما كان بسبب أنهم أظهروا ‏التوبة والندامة واعترفوا بذنبهم.

ولمزيد الإيضاح نقول: كلام ابن حزم هذا كان في معرض الرد على من أبطل حد الردة، واستدلاله بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد عرف المنافقين، وعرف أنهم مرتدون كفروا بعد إسلامهم، فلم يقتلهم.

ففند ابن حزم ذلك، وأثبت حد الردة، وأجاب على ما يرد عليه المعارضات، وكان من جملة استدلال المعارض أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعاقب المنافقين الذين تخلفوا عنه بعد خروجهم إلى أحد، وقد قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 88، 89]، وجعل هذا المعارض الآية كلها في المنافقين المنصرفين عن أحد! فأجاب عن ذلك ابن حزم بقوله: هذا ممكن، ولكن قد قال تعالى {فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم} [النساء: 89] فأخبرونا هل فعل ذلك النبي -عليه السلام- فقتل الراجعين عن أحد حيث وجدهم؟ وهل أخذهم أم لا؟ فإن قالوا: قد فعل ذلك، كذبوا كذبًا لا يخفى على أحد، وما عند مسلم شك في أنه -عليه السلام- لم يقتل منهم أحدًا، ولا نبذ العهد إلى أحد منهم. وإن قالوا: لم يفعل ذلك -عليه السلام- ولا المؤمنون. قيل لهم: صدقتم، ولا يحل لمسلم أن يظن أن النبي -عليه السلام- خالف أمر ربه، فأمره تعالى إن تولوا بقتلهم، حيث وجدهم، فلم يفعل، وهذا كفر ممن ظنه بلا شك. فإن قالوا: لم يتولوا، بل تابوا ورجعوا وجاهدوا. قيل لهم: فقد سقط حكم النفاق عنهم -بلا شك- وحصل لهم حكم الإعلام بظاهر الآية -بلا شك- فقد بطل تعلقهم بهذه الآية جملة في أنه -عليه السلام- كان يعرف المنافقين. اهـ.

والمقصود أن الرد على من أبطل حد الردة بالعلة المذكورة في صدر السؤال، حكمه حكم كل متأول، فلا يحكم عليه بالكفر وإن فحش خطؤه. بل يُبيَّن له الحق والصواب، ويجاب على ما يورده من معارضات، كما فعل ابن حزم وغيره، وراجع كلامه بطوله في (المحلى بالآثار 12 / 127 : 164). وقد سبق لنا بيان أن التأويل مانع من موانع التكفير، وراجع في ذلك الفتويين: 206329، 184489.

وإنا نخشى على السائل -بسبب موضوع أسئلته- من الوسوسة في هذا الباب، ولذا ننصحه بترك الاسترسال في ذلك والإعراض عنه والانشغال بصغار العلم قبل كباره.

والله أعلم.