عنوان الفتوى : هل من تعارض بين عدم إهلاك الله لإبليس والحكم على المرتد بالقتل؟
يقول أحد المشككين: عندنا في الفقه الإسلامي أنّ من ارتد عن دينه يقتل، فلماذا لم يقتل الله الشيطان بعد أن ارتد، وأعطاه القدرة، وتسلط على الإنسان؟ أردت أن أرد عليه، ولكني لا أفقه العلم الشرعي، فقلت: أسأل أهل الاختصاص. ولكم جزيل الشكر.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يخفى الفرق الهائل بين حال إبليس مع الله رب العالمين، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وله من الحكمة التامة، والحجة البالغة ما يليق بمقام الربوبية، وبين حال المرتد في عالم البشر، ممن تحكمهم شريعة الله، فلا يصدرون الأحكام من عند أنفسهم، ولا يستقلون بها، فإذا حكم الشرع بقتل المرتد، لم يكن لهم أن يخالفوه، فأين هذا من قضاء الله تعالى، وقدره، وحكمه تعالى بنفسه في واقعة عين على إبليس الرجيم؟!
ثم إن هذا الإنظار إنما كان بطلب من إبليس نفسه، فوافق حكمة الله تعالى في قضائه، وقدره، فأجابه إلى ما سأل، لا لكرامته، وإنما لزيادة عذابه، وشقوته، قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأعراف: لما تحقق - يعني: إبليس - الغضب الذي لا مردّ له، سأل من تمام حسده لآدم وذريته: النظرة إلى يوم القيامة، وهو يوم البعث، وأنه أجيب إلى ذلك استدراجًا له، وإمهالًا. اهـ. وقال في تفسير سورة الحجر: أجابه تعالى إلى ما سأل؛ لما له في ذلك من الحكمة، والإرادة، والمشيئة، التي لا تخالف، ولا تمانع، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب. اهـ. وقال البغوي في تفسيره: إنه لم تكن إجابة الله تعالى إياه في الإمهال إكرامًا له، بل كانت زيادة في بلائه، وشقائه. اهـ. وقال الماوردي في النكت والعيون: وهذا السؤال من إبليس لم يكن من ثقة منه بمنزلته عند الله تعالى، وأنه أهل أن يجاب له دعاء، ولكن سأل تأخير عذابه؛ زيادة في بلائه، كفعل الآيس من السلامة. اهـ. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: فلو فرضنا أن الله تعالى حكم في وقت نبي من الأنبياء على المرتد بحكم، وحكم عليه في وقت نبي بعده بحكم آخر، فهل في هذا تناقض؟
الجواب: لا، ليس في ذلك تناقض، فإن الله تعالى ينسخ شرائع الأنبياء بعضها ببعض، ولاسيما في العقوبات، والعلاقات البشرية، ومثال ذلك: حكم الغنائم، فقد كانت محرمة على الأمم من قبلنا، ثم أحلها لهذه الأمة، فقال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [الأنفال:69]، وفي الصحيحين من حديث جابر مرفوعًا: أعطيت خمسًا، لم يعطهن أحد قبلي... وذكر منها: وأحلت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي.
ومثاله أيضًا: ما أحلّه لنا من أنواع الطعام، الذي حرم على بعض من كان قبلنا، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، وقال: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام:146].
ومن أمثال ذلك في باب العقوبات: عقوبة المرتدين بعبادة العجل من قوم موسى، فقد حكم الله تعالى عليهم بالقتل، ولو تابت قلوبهم من ذلك، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54]، قال الخازن في لباب التأويل: ليس المراد تفسير التوبة بالقتل، بل بيان أن توبتهم لا تتم إلا بالقتل، وإنما كان كذلك لأن الله أوحى إلى موسى -عليه الصلاة والسلام- أن توبة المرتد، لا تتم إلا بالقتل.
فإن قلت: التائب من الردة، لا يقتل، فكيف استحقوا القتل، وقد تابوا من الردة!؟
قلت: ذلك مما تختلف فيه الشرائع، فلعل شرع موسى كان يقتضي أن يقتل التائب من الردة، إما عامًّا في حق الكل، أو خاصًّا في حق الذين عبدوا العجل. اهـ.
وسبقه إلى ذلك الرازي في تفسيره، وتبعه عليه جماعة من المفسرين كالنيسابوري، والخلوتي، والألوسي.
والله أعلم.