عنوان الفتوى : ضياع الأبناء بسبب سوء تربية الآباء
مسائل حول الوالدين، والمعاملات، والعقيدة الإسلامية (الأسئلة في الآخر). أنا لا أؤمن بشيء ثابت، أو حقيقي على الإطلاق. عمري 23 سنة، وأفكر في الانتحار كثيرا؛ لأني لا أجد شيئا يمكنني أن أحيا لأجله، وكدت أنتحر تماما من قبل لولا أني لا أعرف أصل نشأتي في هذا العالم ولماذا خلقت، رغم أني أعتبر من حيث العمر كبيرا إلا أن آثار معاملة والداي لا زالت تمزقني من الداخل. لا أحضر المناسبات الاجتماعية، ومنقطع عن العالم لكرهي للبشر إلا أني في المناسبات القليلة التي أحضرها بين أقاربي أتعمد تجاهل والدي وعدم الالتقاء بهما؛ لأني لا أقدر على نسيان ما فعلاه بي. المشكلة الكبرى بدأت قبل 12 عاما وعمري 11 سنة، كنت أتعلم الإسلام من خلال جماعة سلفية ينتمي إليها والدي حتى أعلم هل العيب فيه أم في الإسلام؟ ولم يعجبني دينهم عامة. وفي مشكلتي مع والدي التي أعجز عن التصرف فيها، أفتوني بالذل بفرائض مثل بر الوالدين، ووجوب الإحسان إليهما مع فجرهما معي. فوجدت في الدين غلوا، وتحقيرا لروحي وقيمتي كآدمي فكرهت الدين عامة. 1) ولكن لم أكن أملك القدرة لمحاربته بدون قوة مقابلة، فلجأت إلى تعلم المسيحية، والقراءة في تاريخ المسيحيين، ومعتقداتهم باعتبارها أكبر ديانة في العالم، ولكني وجدتها قائمة على معتقدات كثيرة غير منطقية فضاع أملي فيها. 2) وكذلك كنت أدعو الله، وأبكي له كثيرا كل ليلة لعله يرحمني، ويرفع عني قسوتهم، ولكنه لم يكن يقبل دعائي، فكنت أشك في أنه غير موجود أصلا لولا عدم منطقية الإلحاد؛ لهذا غالبا كان اعتقادي طوال الفترة الماضية باللادينية، ولكنه أيضا اعتقاد غير مريح، ولا يفيدني في شيء، ولا ينضبط بأخلاق كما أحاول، ولا ينضبط بعدالة كما أسعى. 3) كذلك لم أكن أقدر على أن أسامح والدي؛ لأني كثيرا كنت أطلب منهما الرحمة لمرض، أو ضعف شديد ولم يكونا يرحماني، وكانت أمي تتعمد إخراسي بتهديدي بأني أغضب الله، وأعق والداي فكنت أكرههما، وأكره الدين أيضا. في هذا الوقت الزمني قبل 12 عاما بما أني كنت أتضرر عصبيا، واجتماعيا في تعاملي مع باقي الناس، فكان لابد أن أتخلص من المشكلة التي تتسبب لي في ذلك، فلم أجد طريقا منطقيا وعمليا إلا قتل والدي، فبقتلهما لن أصبح متوترا وقلقا وخائفا، ولن يتعين علي برهما والإحسان إليهما، ولن أكون عاقا وسأتخلص من تعذيبهما, ولكن لما أردت قتلهما وجدت صعوبة شديدة، فقد رأيت أني سأتخلص من والدي وسأدخل الأحداث لسنوات طويلة، فأصبحت الدولة مشكلة أخرى، ولكن التخلص من الدولة أمره سهل، والبديل بعد إسقاط النظام هو الصعب مثل ما حدث في ثورة (25 يناير) , العائق الآخر الأشد صعوبة وهو ما زلت أعجز عن مواجهته إلى اليوم هو عائق الدين، فتبدو فكرة أن الله أرسل رسولا هي فكرة محتملة، خاصة وأننا كبشر مختلفون، فنحتاج إلى من يفصل بيننا في أمور كثيرة. أيضا نقطة أخرى بالنسبة للدين وهي أني لو كنت قتلت والدي، فحكمي في الشريعة الإسلامية القتل، أما لو كان والداي قتلاني، فلا يقتلان بي وهذا أراه ظلما، وعدم اعتبار أن الابن روح ولها قيمة. هذه كانت بداية بذرة المشكلة قبل 12 عاما، فقد عشت بكره لوالدي، وكره للدين، وعدم فهم لله، وعدم قبول دعائي، وعجز عن مواجهة مشكلة تتعلق بي مباشرة. أكره أمي مثل والدي؛ لأنها كانت تابعة له في كل شيء، وكثيرا ما كانت هي من توسوس له لكي يقوم هو بالضرب، وبعدها تدعي أنها تريد أن تخفف آلامي، مع موعظة بأن والدي شخص عصبي، ووجوب بر الوالدين، وعدم معصيتهما دينيا. كنت أضرب من يوم أن عرفت الإدراك في الحياة. عندما كان عمري 7 سنوات ذات مرة كنت أحاول إرضاء والدي، وتليين قلبه إذ أمر وقتها بإعداد الشاي، فهرعت إلى القفز فوق الدولاب لإحضار الكوب الفارغ، ومن ردة فعل السرعة انزلقت ووقعت على ظهري وانكسر الكوب، وما هي إلا لحظات حتى قام والدي بدلا من أن يهدئ من روعي بإحضار سكين، وألصقني بالأرض، وحزّ السكين فوق رقبتي، مهددا بقتلي وأنا أبكي، ولا أصدق أن هذا والدي، ثم أكمل بكلام مستفز مدعيا أنه رجل مسؤول فحتى لو كان قد كسر الكوب بدلا مني فلا شيء عليه، أما أنا فغير مسؤول، وتعمدت كسر الكوب برأيه؛ لذا أستحق الضرب والإهانة. كنت أشعر وأنا صغير بنسبة كبيرة أنهما ليسا والدي؛ لهذا أوهمت نفسي كثيرا بقصة اخترعتها لتصبرني بأنهما قتلا والدي الحقيقيين واختطفاني وربياني بينهما، وأعد نفسي بالأحلام أني عندما أكبر سأجبرهما على تحليل DNA وأفضحهما، وسأعرف ماذا فعلا لوالدي الحقيقيين، وأنتقم منهما، لكن كلما كنت أكبر كنت أذهل من حقيقة أني أشبه والدي. أساليب تعذيب والدي كثيرة لكن أكثرها والذي يسبب لي آلاما إلى اليوم عندما كان يطردني خارج البيت، فقد كان يطردني في لحظات سريعة مما جعلني إلى اليوم لا آمن لما سيحدث في أي وقت، فقد أصبحت جبانا، وكذلك ليست لي مواعيد للنوم إطلاقا، فقديما كنت أقضي الليل في البكاء والتضرع لله أن ينجدني، وبعد ذلك أصبح الأرق يلازمني فتقريبا أنام 8 ساعات وأستيقظ في قلق حوالي 18 أو 19 ساعة. كذلك كنت.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغفر لك ذنبك، وأن يلهمك رشدك، وأن يشرح لك صدرك، وأن يقيك شر نفسك ... اللهم آمين.
ولسنا ندري بأي شيء نبدأ، فهذه الحياة الدنيا مهما كان حالها وتقلبت أحوالها، إنما هي دار ابتلاء ومحنة، وامتحان وفتنة، ولذلك خلقها الله عز وجل ليميز الخبيث من الطيب، كما قال عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (الملك: 2) وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) [العنكبوت] وقال عز وجل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (آل عمران: 179) وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية، سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (الأنبياء: 35). ووعود الله تعالى للمؤمنين بالحياة الطيبة، وإجابة الدعاء، وحسن العاقبة لابد أن تتحقق ولكن بطريقة تتفق مع هذه الحكمة العظيمة، وقد سبق لنا بيان ذلك مفصلا في الفتوى رقم: 117638 فراجعها للأهمية، وليكن مضمونها منك على بال، واعلم أن الانتحار مع كونه ليس علاجا لأي مشكلة كانت، فإنه مع ذلك يجلب غضب الله ومقته وعقابه، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 10397.
وأما مسألة حقوق الأبناء على الآباء، وظاهرة العنف الأبوي فقد سبق أن أجبناك عن ذلك في عدة فتاوى سابقة لك، فراجع منها على سبيل المثال الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 212317، 190121، 217291.
وأما مسألة اللجوء إلى الله تعالى ودعائه سبحانه، فهذا ينتفع به المسلم على أية حال ما لم يستعجل، ولكن صور استجابة الدعاء متعددة؛ وراجع في ذلك الفتويين: 140414، 137782. فعليك بحسن الظن بالله تعالى، وقد سبق لنا بيان سبيل الوصول إلى حسن الظن بالله تعالى، والترهيب من سوء الظن به عز وجل، فراجع الفتويين: 177463، 131535.
وراجع في بيان وسائل تحصيل الاستقامة وتقوية الإيمان والمحافظة عليه، الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 10800، 12744، 31768.
وأخيرا فإننا نلفت نظر السائل إلى فائدة مراجعة طبيب نفساني متخصص، يكون معروفا بتدينه واستقامته؛ فإن لذلك نفعا كبيرا في مثل حاله إن شاء الله تعالى.
والله أعلم.