عنوان الفتوى : الدعاء معه البشرى بما يسر في الدارين
أنا امرأة أبلغ من العمر 32 سنة، والحمد لله قضيت معظم سنوات حياتي وأنا مبتلاة. والحمد لله الذي ألهمني الصبر طيلة هذه السنوات .بحثت عن سبيل للفرج بكل ما قدرت عليه، وزدت من العبادات والصدقات والذكر والاستغفار حبا في الله أولا ثم رجاء الفرج خاصة من المرض الذي تقريبا توقفت حياتي بسببه من سنوات ويداي مرفوعتان إلى السماء ودموعي لم تنضب أدعو الله في كل وقت وحين، وكلما أدعو أبكي وبحرارة دعوت الله بكل ما يتخيله بشر، بذلت كل أسباب استجابة الدعاء، ولكن إلى الآن لم يفرج الله عني، حاشا لله أن أكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول ولا كلام العلماء، ولكن ماذا أفعل وقد استنفدت كل ما لدي، بدأت أضعف بعد كل هذه السنوات، حوالي 17 سنة، أخشى أن أسقط، وقد بدأت بالسقوط فعلا، فلم أعد كما كنت، وبدأت أفقد حلاوة الإيمان من قلبي. أرشدوني إلى شيء ممكن يكون سبب الفرج، دائما أبحث وأقرأ عن ما يقوله العلماء، وأفعل ما يجزمون أنه سبيل لاستجابة الدعاء وتفريج الهموم، وأدوام على ذلك، ولكن تمضي سنوات، ولعل البلاء يزيد فيها، وأحيانا يخف قليلا. جزاكم الله خيرا، دلوني على باب النجاة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية نسأل الله تعالى أن يشفيك ويعافيك، وأن يلهمك رشدك، ويقيك شر نفسك.
ثم اعلمي أختنا الكريمة أن اختيار الله تعالى لعبده خير من اختيار العبد لنفسه، فهو سبحانه أرحم به من نفسه ومن أمه التي ولدته، فقد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقالوا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها. متفق عليه.
واعلمي أيضا أن الإنسان بطبعه ظلوم جهول، فهو لا يعلم ما هو الأصلح له في العاجل والآجل معا، فقد يتمنى العبد شيئا وفيه هلكته، وقد يكره شيئا وفيه منفعته، ولذلك قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {البقرة: 216} وقال سبحانه: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً {النساء: 19}.
وإذا تقرر هذا، فاعلمي أن إجابة الدعاء قد تقع بحصول عين ما يدعى به في الحال، وقد تقع بعد وقت من دعائه، وهذا الوقت لا يعلم مقداره إلا الله، وقد يستجاب للعبد ولكن لا يحصل له المطلوب بعينه، فإن صور الاستجابة تتنوع، فإما أن يعطى ما سأل، وإما أن يصرف عنه من السوء مثله، وإما أن يدخر له في الآخرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر! قال: الله أكثر. رواه أحمد وصححه الألباني. قال ابن عبد البر في (التمهيد): فيه دليل على أنه لا بد من الإجابة على إحدى هذه الأوجه الثلاثة. اهـ.
فكل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة: فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه. كما قال ابن حجر في (فتح الباري).
واختيار إحدى هذه الصور الثلاثة من أنواع الإجابة موكول إلى حكمة الله تعالى وعلمه، فهو سبحانه الذي يعلم الغيب وحده، قال ابن الجوزي في (كشف المشكل): اعلم أن الله عز وجل لا يرد دعاء المؤمن، غير أنه قد تكون المصلحة في تأخير الإجابة، وقد لا يكون ما سأله مصلحة في الجملة، فيعوضه عنه ما يصلحه، وربما أخر تعويضه إلى يوم القيامة، فينبغي للمؤمن ألا يقطع المسألة لامتناع الإجابة، فإنه بالدعاء متعبد، وبالتسليم إلى ما يراه الحق له مصلحة مفوض. اهـ.
فعلى الداعي أن يشغل نفسه بالدعاء وآدابه وتحقيق شروط إجابة الدعاء، ولا يستعجل فإن الاستعجال من موانع استجابة الدعاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر في (فتح الباري): قال الداودي: يخشى على من خالف وقال: قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة وما قام مقامها من الادخار والتكفير. اهـ. وراجعي في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 111052، 125921، 63158.
وأخيرا نذكر أختنا الفاضلة بأن المؤمن يصبر ويرضى بقضاء الله تعالى، ويبصر الرحمة من خلال البلاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وحسنه الألباني.
فصبرك على بلواك واحتسابك أجرها لن يضيع سدى، فقد قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر: 10}
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها. رواه أبو يعلى وابن حبان والحاكم، وحسنه الألباني.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض. رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
فأبشري بما يسرك إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {يوسف: 90}.
وقد سبق لنا بيان أن الدنيا دار ابتلاء، وبيان بعض ثمرات الابتلاءات والمصائب وفوائدها، في الفتويين رقم: 51946 ، 16766.
كما سبق لنا ذكر بعض البشارات لأهل البلاء، وبيان الأمور المعينة على تجاوز المصائب، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 18103، 5249، 39151.
والله أعلم.