من مظاهر اختلال الموازين بين يدي الساعة (خطبة)
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
من مظاهر اختلال الموازين بين يدي الساعةالحمد لله الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديرًا، وجرت الأمور على ما يشاء حكمة وتدبيرًا، ولله ملك السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، ولن تجد من دونه وليًّا ولا نصيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه، له الملك وله الحمد، وكان الله على كل شيء قديرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعْـــــد:
فإن كانت هناك وصية فإنما هي الوصية بالتقوى والاستعداد ليوم الوعد والوعيد عملًا بقول ربنا الملك المجيد: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، وبعد:
عباد الله، فإن حديثي إلى حضراتكم في هذه الدقائق المباركات تحت عنوان:
(من مظاهر اختلال الموازين بين يدي الساعة)
عباد الله: لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم ببعض المظاهر بين يدي الساعة توضح اختلال الموازين وتغير المعايير لدى الناس، فمن ذلك: [كثرة العقوق].
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أمارات الساعة قال: ((أن تلِدَ الأَمَة ربَّتَها..))، ولقد اختلف أهل العلم في تحديد المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تلد الأمة رَبَّتَها))، وأوجه الأقوال كما بيَّن الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: (كثرة العقوق من الأولاد)، وقد كثر العقوق في زماننا بصورة فجة تُدمِي القلب، فمن تأمل أحوال الناس رأى جليًّا ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة العقوق؛ حيث اتصف كثيرٌ من الأبناء والبنات بالأنانية وحب الذات، فعاملوا آباءهم بغلظة وقسوة وجفاء؛ بل أصبح بعضهم يتمنَّى موت والديه أو الحي منهما، وينتظر ذلك بفارغ الصبر، بل لولا بقية حياء لديه لألقى بوالديه في دار من دور المسنِّين كما يفعل الفجرة، ولقد رأينا من الأولاد من ينسى عطاء والديه وحبهما وحنانهما، ويندفع في جحود ووحشية وعصيان ونكران وإساءة، فيرفع يده على والده أو ترفع يدها على أمها، ولقد سمعنا عن أحداث في هذا الصدد تخلع القلب من مكانه، إن دلت فإنما تدل على قرب قيام الساعة واختلال الموازين والمعايير لدى الناس فإن الله لم يأمر عباده بهذا العقوق وهذا المنكر؛ وإنما أمرهم ربهم بالبر والإحسان والصلة إذ يقول: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، وأقول: إن الدنيا سلف ودين، ومن زرع شيئًا حصده وجناه، ولا يظلم ربُّك أحدًا.
عباد الله: ومن بين ما بيَّنه نبينا صلى الله عليه وسلم من مظاهر تبين اختلال الموازين بين يدي الساعة [ضياع الأمانة وإسناد الأمر لغير أهله]، فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))، ومن رأى حالنا وما نعيشه في هذه الأزمان رأى عجبًا فقد عشنا زمانًا ضيعت فيه الأمانة، وأُسنِدت كثير من الأمور في مجتمعاتنا لغير أهلها، فقد تقلد غير الأكْفاء أعمالًا ليسوا أهلًا لها، ولا يجيدون القيام بها، ووالله إن من الخيانة لهذا الدين ولهذه الأمة أن يُؤخَّر مَن يصلح ويُقدَّم المفسدون في الأرض ويقربون، ووالله لقد كان من أسرار عظمة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه وضع كل صحابي من صحابته في المكان المناسب له، ولقدراته وإمكانياته، فقد وضع كل رجل في تخصُّصه ومكانه اللائق به، أما اليوم الذي نجد فيه القوم يقدمون للمركز الفلاني والمنصب الفلاني- أيًّا كان المنصب أو الموقع- لرجل ليس من أصحاب الكفاءات فقد ضيعت الأمانة وضل الناس.
عباد الله: ومن بين ما بيَّنه نبينا صلى الله عليه وسلم من مظاهر تبين اختلال الموازين بين يدي الساعة ما جاء في سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيأتِي على الناسِ سنواتٌ خدَّاعاتٌ؛ يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ، ويخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَة، قِيلَ: وما الرُّويْبِضةُ؟ قال: الرجُلُ التَّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامةِ))، ومن تأمَّل واقعنا المعاش رأى بعين البصيرة ما أخبر عنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فقد أصبحنا في زمان سمة بعض من فيه تكذيب الصادق، وتخوين الأمين، وكيل الاتهامات الظالمة الباطلة للصادقين الأمناء الشرفاء، وتشويه سمعتهم، وعلى النقيض نجد تصديق الكذبة وائتمان الخونة اللئام على شئون الأمة؛ بل ومدحهم، ونظم القصائد في شكرهم والثناء عليهم، بل ومن تأمل حق التأمل رأى أن أكثر من يقدم في محافل الناس بالباطل هو الرويبضة الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد جاء في الحديث الذي رواه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه، لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يظهَرَ الفُحشُ والبُخلُ ويُخوَّنَ الأمينُ ويُؤتَمَنَ الخائنُ ويهلِكَ الوُعولُ وتظهَرَ التُّحوتُ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما الوُعولُ والتُّحوتُ؟ قال: الوُعولُ: وجوهُ النَّاسِ وأشرافُهم، والتُّحوتُ: الَّذينَ كانوا تحتَ أقدامِ النَّاس لا يُعلَمُ بهم)).
عباد الله: ومن بين ما بيَّنه نبينا صلى الله عليه وسلم من مظاهر تبين اختلال الموازين بين يدي الساعة ما رواه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقومُ الساعةُ حتى يكونَ أسْعَدَ الناسِ بالدُّنيا لُكَعُ بن لُكَعَ))، ومعناه: أن المال والوجاهة الاجتماعية في آخر الزمان غالبًا ما ستكون في أيدي اللئام أبناء اللئام، وأن أسعد الناس بمُتَع الدنيا سيكون اللئيم ذليل النفس صغير العلم والعقل، وكم رأينا في زماننا لُكَعَ بن لُكَعَ يفتي في دين الله، والدين من غيه بريء، وكم رأينا من يلبس لباس الفتيا ويحاول مجاراة المجتمعات والأهواء ليرتفع ذكره فيفتي بما يفتح على الأمة أبواب المنكرات غير مكترث بقواعد الدين وثوابته.
عباد الله: ومن بين ما بيَّنه نبينا صلى الله عليه وسلم من مظاهر تبين اختلال الموازين بين يدي الساعة [عدم تحرِّي الحلال]فقد روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ))، وهذا واقع خطير يعيشه كثير من الناس، فإن كثيرًا من الناس أصبح المهم عندهم جمع المال والحصول عليه، لا يبالون بأي طريقة حصلوا عليه، ولئن نصحت أحدهم يتبجَّح قائلًا: لسنا في زمن الصحابة!
عباد الله: ومن بين ما بيَّنه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم من مظاهر تبين اختلال الموازين بين يدي الساعة [ظهور الكاسيات العاريات]، فقد رأينا من بعض أهل زماننا النظر إلى التحلُّل والميوعة وتحرر المرأة دون قيود وضوابط على أنه تقدُّم وحضارة، وأنه يوافق روح العصر، واعتبار الحجاب الشرعي والعِفَّة والحشمة نوعًا من التخلُّف والرجعية، فصار يُنظَر إلى المرأة الشقراء المتبرِّجة النصف عارية على أنها هي المرأة المتقدمة العاقلة، وينظر إلى المرأة المحتشمة المتحجبة التي لا يرى الناس منها شيئًا على أنها جاهلة لا عقل لها، وسبحان الله! هذا زمن انقلاب الموازين، ولو كان الأمر يُقاس بالثياب، لكانت الحيوانات أكثر تقدُّمًا من الإنسان؛ لأنه لا لباس لها، والله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿ يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 27].
عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك ويُهْدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.