عنوان الفتوى : التحذير من عدوان الأباء على أولادهم، والعقوبات الشرعية المترتبة علىه
هل يوجد تشريع للحد من العنف الأبوي تجاه الأبناء؟ توجد مظاهر كثيرة في المجتمع الإسلامي من العنف الأبوي تجاه الأبناء مما يتسبب في أذيتهم نفسيا وجسديا، فلماذا لا نرى حلا إسلاميا لهذه الظاهرة؟ ولماذا لا يوجد تشريع يقوم هؤلاء الآباء وكثير منهم لا يعتدلون بالنصيحة؟ فلا يوجد تدخل إسلامي فيه تقويم للآباء إلا في حالة وصول هذا الإجرام إلى حد القتل، فحينها يتدخل التشريع بفرض دية على الوالد القاتل، أما ما دون القتل: فلا يوجد تشريع يعمل على تقويم هؤلاء الآباء الذين ملؤوا المستشفيات بأبنائهم وأدوا بهم إلى التشريد في الشوارع، أو أصابوهم بعاهات جسدية جراء تعذيبهم لهم، ونحن في نفس الوقت نرى أن الإسلام شرع للوالدين ضرب أبناهم وهو ما يعطيهم ذريعة لأفعالهم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن دين الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وكل خير للعباد فهو مبين في هذا الدين أحسن بيان وأتمه، قال سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ {النحل:89}.
والشرع الحنيف قد جعل الآباء مسؤولين عن أبنائهم أمام الله، ففي الحديث: كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم. متفق عليه.
وكفى بهذا تخويفا وتحذيرا من الاعتداء على الأبناء، والنصوص الكثيرة التي تنفر من الظلم والعداون والبغي كلها تشمل الآباء إن اعتدوا على أبنائهم بغير حق، وضرب الآباء لأبنائهم إنما شرع لتأديبهم وتقويمهم، ولم يبح إباحة مطلقة خاضعة لهوى الأب وشهوته، وهو مضبوط في الشرع بضوابط وقيود تحجز عن العدوان فيه، قال ابن عثيمين: إذا كان الطفل يتأدب بالضرب ولم يكن بد منه، فلا بأس به، وقد جرت عادة الناس على هذا، وإذا كان لا يتأدب كطفل في المهد جعل يصيح فتضربه أمه مثلا فهذا لا يجوز، لأن فيه إيلاما بلا فائدة، والمدار كله على هل هذا الضرب يتأدب به الطفل أو لا يتأدب؟ وإذا كان يتأدب به فلا يضرب ضربا مبرحا، ولا يضرب على الوجه مثلا، ولا على المحل القاتل، وإنما يضرب على الظهر، أو الكتف، أو ما أشبه ذلك مما لا يكون سببا في هلاكه، والضرب على الوجه له خطره، لأن الوجه أعلى ما يكون للإنسان، وأكرم ما يكون على الإنسان، وإذا ضرب عليه أصابه من الذل والهوان أكثر مما لو ضرب على ظهره، ولهذا نهي عن الضرب على الوجه. اهـ.
وانظر المزيد في ضوابط ضرب الأبناء في الفتوى رقم: 14123.
وليعلم أن الآباء مفطورون على الشفقة والرحمة بأبنائهم، والاعتداء على الأبناء أمر شاذ، تنفر منه الفطر السليمة، فلا يفتقر إلى عقوبة خاصة تمنع منه، والعقوبات الشرعية الخاصة تكون غالبا على المعاصي التي تتوق لها النفوس وتحتاج إلى حد يمنعها منها، قال ابن القيم: وأما قوله: أوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول، فهذا أيضا من كمال الشريعة، ومطابقتها للعقول والفطر، وقيامها بالمصالح، فإن ما جعل الله سبحانه في طباع الخلق النفرة عنه ومجانبته اكتفى بذلك عن الوازع عنه بالحد، لأن الوازع الطبيعي كاف في المنع منه، وأما ما يشتد تقاضي الطباع له فإنه غلظ العقوبة عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له، وسد الذريعة إليه من قرب وبعد، وجعل ما حوله حمى، ومنع من قربانه .اهـ.
وقال: من العقوبات التي رتبها الله على الجرائم، وجعلها بحكمته على حسب الدواعي إلى تلك الجرائم، وحسب الوازع عنها فما كان الوازع عنه طبيعيا وما ليس في الطباع داع إليه اكتفي بالتحريم مع التعزير، ولم يرتب عليه حدا، كأكل الرجيع وشرب الدم، وأكل الميتة، وما كان في الطباع داع إليه رتب عليه من العقوبة بقدر مفسدته، وبقدر داعي الطبع إليه، ولهذا لما كان داعي الطباع إلى الزنا من أقوى الدواعي كانت عقوبته العظمى من أشنع القتلات وأعظمها، وعقوبته السهلة أعلى أنواع الجلد مع زيادة التغريب. اهـ.
وهناك باب عظيم في الشرع وهو باب التعزير، وهو العقوبة المشروعة على كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، فلولي الأمر أن يعاقب الآباء إن اعتدوا على أبنائهم بالعقوبة المناسبة التي تردعهم عن الوقوع في ذلك، وانظر أدلة التعزير وبعض أحكامه في الفتويين رقم: 117180، ورقم: 34616.
والأب إن اعتدى على ولده في نفس أو طرف وإن كان لا يقتص منه له عند جماهير العلماء، إلا إن اعتداءه عليه محرم وتجب الدية على الأب إن اعتدى على ابنه في نفسه أو أطرافه، لما أخرجه مالك في الموطأ: أن رجلا من بني مدلج يقال له قتادة، حذف ابنه بالسيف، فأصاب ساقه، فنزي في جرحه فمات، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب، فذكر ذلك له فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم إليه عمر بن الخطاب، أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول؟ قال: هأنذا، قال: خذها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس لقاتل شيء.
وانظر الفتوى رقم: 30793.
والله أعلم.