عنوان الفتوى : التعزير مفوض إلى رأي الإمام على حسب ما تقتضيه الحاجة
هناك قضية يغلب على الظن أنكم علمتم بها: ألا وهي الحكم على الطبيبين المصريين في المملكة بتهمة ترويج المخدرات وغيرها بالجلد 1500 جلدة والسجن 15 سنة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ في مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ على أَقْوَالٍ: أحدها: أَنَّهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، فَيَجْتَهِدُ فيه وَلِيُّ الْأَمْرِ . الثَّانِي: وهو أَحْسَنُهَا أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ في مَعْصِيَةٍ قَدْرَ الْحَدِّ فيها .. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَدْنَى الْحُدُودِ إمَّا أَرْبَعِينَ وَإِمَّا ثَمَانِينَ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يُزَادُ في التَّعْزِيرِ على عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وهو أَحَدُ الْأَقْوَالِ في مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هل يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ الْقَتْلَ ؟ فيه قَوْلَانِ: أحدهما: يَجُوزُ، كَقَتْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ قَتْلَهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ ابن عَقِيلٍ .. ثم قال ـ رحمه الله ـ : وَالْمَنْقُولُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ؛ فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ بِجَلْدِ الذي وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وقد أَحَلَّتْهَا له مِائَةً. وأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي اللَّهُ عنهما أَمَرَا بِجَلْدِ من وُجِدَ مع امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ في فِرَاشٍ مِائَةَ جَلْدَةٍ. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الذي زور عليه خاتمه فأخذ من بيت المال مائة. وَعَلَى هذا يُحْمَلُ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم: "من شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ في الثَّالِثَةِ أو في الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ" فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ إذَا أَكْثَرَ منه، وَلَوْ كان ذلك حَدًّا لَأَمَرَ بِهِ في الْمَرَّةِ الْأُولَى انتهى.
وهذا الذي رجحه ابن القيم من أن التعزير يَجْتَهِدُ فيه وَلِيُّ الْأَمْرِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، هو الأتبع للأدلة والأوفق للمصلحة، وهو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، حتى لقد قال رحمه الله: أفتيت ولاة الأمور في شهر رمضان سنة أربع بقتل من أمسك في سوق المسلمين وهو سكران وقد شرب الخمر مع بعض أهل الذمة وهو مجتاز بشقة لحم يذهب بها إلى ندمائه، وكنت أفتيتهم قبل هذا بأنه يعاقب عقوبتين: عقوبة على الشرب وعقوبة على الفطر، فقالوا: ما مقدار التعزير؟ فقلت: هذا يختلف باختلاف الذنب وحال المذنب وحال الناس. وتوقفت عن القتل، فكبر هذا على الأمراء والناس حتى خفت أنه إن لم يقتل ينحل نظام الإسلام على انتهاك المحارم في نهار رمضان، فأفتيت بقتله. انتهى.
ومما يذكر في ذلك أن هشام بن عبد الله المخزومي - وهو قاضي المدينة ومن صالح قضاتها - أُتِيَ برجل خبيث معروف باتباع الصبيان قد لصق بغلام في ازدحام الناس حتى أفضى. فبعث به هشام إلى مالك وقال: أترى أن أقتله ؟ فقال مالك: أما القتل فلا, ولكن أرى أن تعاقبه عقوبة موجعة, فقال: كم ؟ قال: ذلك إليك. فأمر به هشام فجلد أربع مائة سوط, وأبقاه في السجن, فما لبث أن مات. فذكروا ذلك لمالك فما استنكر, ولا رأى أنه أخطأ.
وقال الحطاب وعليش: قال في مسائل أبي عمران القابسي من كتاب الاستيعاب وكتاب الفضول فيمن باع حرا ماذا يجب عليه؟ قال: يحد ألف جلدة ويسجن سنة، فإذا أيس منه ودى ديته إلى أهله.
وقد سبق أنه إذا اقتضت المصلحة زيادة التعزير على من ارتكب جريمة حد فلا بأس فيها، وذلك في الفتوى رقم: 12066. وأن التعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ونحوه، وليس فيه شيء مقدر، وإنما هو مفوض إلى رأي الإمام على حسب ما تقتضيه الحاجة، وذلك في الفتوى رقم: 34616.
وللشيخ: إسماعيل بن محمد الأنصاري، بحث بعنوان: التدابير الزجرية والوقاية في التشريع الإسلامي وتطبيقها. طبع في مجلة البحوث الإسلامية تناول فيه هذه المسألة بنوع من التفصيل.
والله أعلم.