عنوان الفتوى : متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا أكبر مخرجًا من الملة
بعد أن شهدت تونس ثورة أسقطت رأس النظام السابق - كما نعلم جميعًا, والحمد لله - والذي كان مضيقًا علينا في ديننا, منتهجًا سياسة تجفيف المنابع, وتقليم الأظافر، صار العلم الشرعي يدرس في المساجد بكل يسر - والحمد لله - وقد حضرت إلى الآن 4 دروس بعنوان: نواقض الإسلام، ومن نواقض الإسلام: الحكم بغير ما أنزل الله، وكما تعلمون أنه في تونس وصل حزب النهضة الإسلامي إلى الحكم, لكنه لم يفعل شيئًا يوحي بأنه حزب إسلامي، أو لم يسعَ إلى تطبيق الشريعة, بل على العكس صاروا يمدحون الديمقراطية, ويتبجحون بائتلافاتهم مع العلمانيين, ويقولون: إن على جميع الأطياف أن تشارك في التأسيس لهذا الدستور - الذي هو أصلًا شكل من أشكال التخلي عن شرع الله, لكننا مجبرون كما يقولون - وأبي عضو في حركة النهضة منذ كانت حركة دعوية لا تعترف بغير الإسلام وشرع الله, وقد بذل أفرادها الغالي والثمين من أنفُسٍ وسنوات قضوها في السجن في سبيل الله إعلاء لراية الإسلام، لكنهم الآن انقلبوا رأسًا على عقب، وأخبرت أبي أن من لم يحكم بما أنزل الله فحكمه الخروج عن الملة, وأن من والاهم له نفس الحكم, - وأبي ممن والاهم – ولكنه قال لي: إن تحكيم الشرع الآن غير ممكن في هذه الظروف, وعلينا أن نبين للناس أولًا ما هي الشريعة, فسألته عن الانبطاح الكبير للعلمانيين, والتبجح بالديمقراطية، فقال لي: إن هذه مناورات سياسية, مع أنني لا أظن أنه مقتنع بكلامه, بل يقوله دفاعًا عن رفاق دربه الذين غيروا مبادئهم ظاهرًا, فهل حكم هؤلاء الخروج عن الملة والكفر الأكبر - والعياذ بالله -؟ وبالتالي عليّ أن أنصح والدي - وكل موالي هذا الحزب عمومًا - بالابتعاد عنه أم ماذا؟ احترت في أمري؛ لأن من ضمن الدروس التي حضرتها أن هؤلاء كافرون, ومن يشكك في كفرهم له نفس حكمهم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية: نقرر ما أشار إليه السائل بإيضاح متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، فقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالة نواقض الإسلام: الناقض الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه، فهو كافر اهـ.
قال الشيخ ابن باز تعقيبًا على هذه الرسالة: يدخل في ذلك: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها، ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلف المسلمين، أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى, ويدخل فيه أيضًا: من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق, أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر, ويدخل في ذلك أيضًا: كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرمه الله إجماعًا، وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كالزنا, والخمر, والربا, والحكم بغير شريعة الله - فهو كافر بإجماع المسلمين. اهـ. وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية:35130، 1808، 32864.وهذا بالنسبة للحكم على النوع.
أما الحكم على المعين بالكفر: فلا يصح إلا إذا توفرت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعه، ومن ذلك أن يكون بالغًا عاقلًا مختارًا غير معذور بجهل أو تأويل؛ ولذلك فإننا ننبه على خطر تكفير المعين، فهذا لا يتكلم فيه إلا الراسخون في العلم، ممن يجمعون بين العلم بالشريعة، والعلم بكيفية تنزيلها على الواقع.
والأصل أن من ثبت إسلامه بيقين، فلا يزول إسلامه بالشك، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان, فلا يكفر المسلم إلا إذا أتى بقول أو بفعل أو اعتقاد دل الكتاب والسنة على كونه كفرًا أكبر مخرجًا من ملة الإسلام، أو أجمع العلماء على أنه كفر أكبر, وقد سبق لنا بيان ذلك، وبيان ضوابط التكفير وخطر الكلام فيه، وأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، وذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 721، 106396، 53835.
وأمر آخر ينبغي التنبيه عليه في قول السائل: (هؤلاء كافرون, ومن يشكك في كفرهم فله نفس حكمهم!!) فهذا إنما يتأتى في الكفر المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يصح ذلك في حال الحكم بردة المسلم الذي يقع في عمل من أعمال الكفر بجهل أو شبهة، دون إقامة الحجة عليه، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 98395.
وأما الديموقراطية فقد سبق لنا بيان حقيقتها, ومناقضة فلسفتها الغربية للإسلام في عدة فتاوى، منها الفتوى رقم: 10238. وراجع للأهمية في بقية ما يتعلق بالسؤال الفتويين: 195525، 194605.
وأخيرًا: نلفت نظر الأخ السائل إلى أن أمور السياسة والحكم الشرعي فيها يحتاج إلى معرفة دقيقة بالواقع الذي يدور في بلدكم، وما يكتنفه من أحوال وظروف خاصة، ولذلك فإننا نحيلك على أهل العلم عندكم فهم أدرى بهذه الملابسات.
والله أعلم.