عنوان الفتوى : دعوة العلمانيين والليبراليين.. الوسائل والخطاب الدعوي المناسب
كيف ندعو العلمانيين والليبراليين؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمما يشكر للأخ السائل ما يشير إليه سؤاله من حرصه على معرفة الحق، والشفقة على الخلق, فلا يليق بالدعاة أن يقتصر اهتمامهم على التحذير من الباطل، بل لا بد أن يكون لأهله نصيب من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل:125), قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على المنطقيين: الإنسان له ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به، وأما أن يعرفه ولا يعمل به، وأما أن يجحده, فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به, والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخافه فلا توافقه على العمل به, والثالث: من لا يعرفه بل يعارضه, فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة, فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به، فيدعون بالحكمة, والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة, فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة، وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؛ فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته، فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة، فلا بد من الدعوة بهذا وهذا, وأما الجدل فلا يدعى به، بل هو من باب دفع الصائل، فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، ولهذا قال: (وجادلهم) فجعله فعلًا مأمورًا به مع قوله: ادعهم، فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن، وقال في الجدال (بالتي هي أحسن) ولم يقل: بالحسنة، كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة، والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل، فما دام الرجل قابلًا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعا لم يحتج إلى مجادلة, فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن, والمجادلة بعلم كما أن الحكمة بعلم، وقد ذم الله من يجادل بغير علم فقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} والله لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إن لم تكن علمًا، فلو قدر أنه قال باطلًا لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل، لكن هذا قدر يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه، لا لبيان الدعوة إلى القول الحق، والقرآن مقصوده بيان الحق ودعوة العباد إليه، وليس المقصود ذكر ما تناقضوا فيه من أقوالهم ليبين خطأ أحدهما لا بعينه، فالمقدمات الجدلية التي ليست علمًا هذا فائدتها، وهذا يصلح لبيان خطأ الناس مجملًا. اهـ.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: المنيب المتذكر شديد الحاجة إلى الأمر والنهي، والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب، والمعارض المتكبر شديد الحاجة إلى المجادلة، فجاءت هذه الثلاثة في حق هؤلاء الثلاثة في قوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] أطلق الحكمة ولم يقيدها بوصف الحسنة، إذ كلها حسنة، ووصف الحسن لها ذاتي, وأما الموعظة فقيدها بوصف الإحسان، إذ ليس كل موعظة حسنة, وكذلك الجدل قد يكون بالتي هي أحسن، وقد يكون بغير ذلك، وهذا يحتمل أن يرجع إلى حال المجادل وغلظته، ولينه وحدته ورفقه، فيكون مأمورًا بمجادلتهم بالحال التي هي أحسن, ويحتمل أن يكون صفة لما يجادل به من الحجج والبراهين، والكلمات التي هي أحسن شيء وأبينه، وأدله على المقصود، وأوصله إلى المطلوب, والتحقيق: أن الآية تتناول النوعين. اهـ.
وعلى ذلك: فلا يصح أن نتوجه بالدعوة إلى العلمانيين أو الليبراليين دون أن نلمَّ بحقيقة هذه المذاهب، وحقيقة الفرق بينها وبين ديننا الحنيف.
وأمر آخر يحسن التنبيه عليه، وهو أن فهم الناس وقناعتهم وتعصبهم لهذه الأفكار الغربية يختلف اختلافًا عظيمًا، فمن أراد دعوة أحدهم فلا بد أن يعرف طريقة فهمه لهذه المصطلحات, ومدى قناعته بها، ثم بعد ذلك يتوجه إليه بالخطاب الدعوي المناسب لحاله، بالحكمة أو الموعظة الحسنة, أو المجادلة بالتي هي أحسن، كما سبق بيانه.
وجدير بالذكر أن كثيرًا ممن عرفنا حاله ممن ينتسبون إلى الفكر الليبرالي أو إلى العلمانية، ولا سيما الشباب منهم: لا يعرف حقيقة الإسلام وشموله، وأنه دين ودولة، عقيدة وشريعة، منهج وسلوك، وكثير منهم عنده صورة مبتورة ومشوشة عن هذه الملة السمحة وتشريعاتها، بسبب الغزو الفكري, وهجمات التشويه الإعلامي, والتضليل الثقافي, والشبهات التي رسخها المستشرقون الحاقدون وأذنابهم من أبناء هذه الأمة، ممن تربى على موائدهم وتشبع بأفكارهم، إخلادًا إلى الأرض, واتباعًا للهوى، ثم بسبب الضعف الذي أصاب الأمة على مر الزمان.
ولذلك كان من الضروري بيان حقيقة هذا الدين، وبيان محاسنه وكماله، وما فيه من دلائل الإعجاز التشريعي على وجه الخصوص، وما يتميز به عن الحضارة الغربية في هذا الجانب, وفي الجانب الأخلاقي، وهذه المباحث تحتاج إلى قراءة متأنية، ويمكن أن يرجع فيها إلى كتاب أصول الدعوة للأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان, ومبحث الإعجاز التشريعي للأستاذ الدكتور فهد الرومي في كتابه دراسات في علوم القرآن من ص 300 إلى ص 313, وكذلك الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم في كتابه مباحث في إعجاز القرآن من ص 231 إلى ص 258.
وللجنة العلمية بجمعية الترتيل رسالة مختصرة ومفيدة يمكن أن تكون تمهيدًا لمن يراد دعوته من هؤلاء بعنوان: (العلمانية - الليبرالية - الديمقراطية - الدولة المدنية : في ميزان الإسلام), وهو متوفر على موقع المكتبة الشاملة, ولبيان بعض المراجع عن هذا الموضوع يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 158261.
ونجمل القول هنا: ونشير إلى أن كل ما في الفكر الليبرالي من مزايا ومنافع حقيقية للبشرية يوجد مثله، أو أفضل منه في الإسلام، الذي يمثل قمة العدالة والأمانة, وإعطاء كل ذي حق حقه، والذي يُحرِّم ويُجرِّم الظلم والفساد بكافة صوره وأنواعه، ويجعل محاربته وإنكاره نوعًا من أنواع الجهاد, ويمكن أن تراجع في ذلك الفتوى رقم: 154193, كما يكن الرجوع للفتوى رقم: 172845 لمعرفة أوجه التشابه والاختلاف بين الديموقراطية الغربية والشورى الإسلامية, وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 170599، 170659، 130054.
والله أعلم.