دراسة تطبيقية من اللوائح التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية السعودي
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
دراسة تطبيقية من اللوائح التنفيذيةلنظام المرافعات الشرعية السعودي
نقتصر في هذا التطبيق على مثال واحد، أطال بعض الناس وقوفهم عنده، وأشكل عليهم تقريره وفهمه، وهو اللائحة التنفيذية الواردة في هـ من الفقرة العاشرة من اللائحة التنفيذية للمادة الرابعة والثلاثين، ونصها: "للزوجة في المسائل الزوجية الخيار في إقامة دعواها في بلدها أو بلد الزوج، وعلى القاضي إذا سمع الدعوى في بلد الزوجة استخلاف قاضي بلد الزوج؛ للإجابة عن دعواها، فإذا توجهت الدعوى ألزم الزوج بالحضور إلى محل إقامتها للسير فيها، فإذا امتنع سُمِعت غيابيًّا، وإذا لم تتوجه الدعوى، ردها القاضي دون إحضاره".
ووجه الإشكال عندهم: أن المادة الرابعة والثلاثين من النظام قد جاء فيها: "تُقام الدعوى في المحكمة التي يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة المدعى عليه، فإن لم يكن له محل إقامة في المملكة، فيكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة المدعي، وإذا تعدد المدعى عليهم كان الاختصاص للمحكمة التي يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة الأكثرية، وفي حال التساوي يكون المدعي بالخيار في إقامة الدعوى أمام أي محكمة يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة أحدهم"، فقررت هذه المادة أن الدعوى تقام في بلد المدعى عليه، ولم تفرِّق بين مسألة زوجية أو غيرها، ثم استثنت المادة السابعة والثلاثون قضايا النفقة، فجعلت للمدعي بها الخيارَ في إقامة دعواه في المحكمة التي يقع في نطاق اختصاصها محلُ إقامة المدعى عليه أو المدعي؛ ا.هـ.
فالمادة الرابعة والثلاثون جعلت الدعوى في محل إقامة المدعى عليه، ثم استُثْنِيَ منها ما جاء في المادة السابعة والثلاثين من قضايا النفقة، وأن للمدعي فيها إقامتَها في محل إقامته، أو محل إقامة المدعى عليه، والاستثناء معيار العموم، فإلحاق استثناء آخر - كما جاء في هـ من الفقرة العاشرة من اللائحة التنفيذية للمادة الرابعة والثلاثين - بإلحاق القضايا الزوجية بالنفقة، وجَعْل الخيار للزوجة بين إقامة هذه الدعوى في محل إقامتها أو محل إقامة المدعي، زيادة في النظام أو معارضة له، وتعد باطلة بذلك.
والجواب عن هذا الاعتراض:
أن النظام جعل مسائل النفقة مستثناةً؛ مراعاةً لحال أصحابها من العجز غالبًا لشيخوخة، أو صغر، ونحو ذلك، ثم مراعاة لقلة مبلغ النفقة غالبًا، الذي ربما ذهب في نفقات تتبع المدعى عليه في بلده، ولو نظرنا إلى حال الزوجات في القضايا الزوجية، لوجدناها تشارك أصحاب قضايا النفقة في تلك العلة، وتزيد عليهم؛ فإن المرأة ممنوعة شرعًا من السفر بدون مَحْرم، ويتعذر سُكْناها أو يشق عليها في بلد ليس لها فيه محرم، مع ما تحتاجه في الحل والترحال من مصاريف، ربما تَعجِز عنها، مما قد يحملها على ترك دعواها، وربما عرَّضها ذلك للفتنة التي لا يُقرُّ الشرع تعرضها لها.
لذا؛ فإن مراعاتها وإصدار لائحة تنفيذية تَحُل الإشكال الذي كانت تعانيه، مما يدعو إليه الشرع، ويوافقُ النظامَ ومقاصدَهُ، ولا يعارضه.
ثم إن القياس على المستثنى صحيح مُعتَدٌّ به عند المحققين من أهل الأصول إذا عُقِلت علته؛ إذ إنه صار بذلك أصلاً برأسه - كما في مبادلة الزبيب بالعنب في شجره، قياسًا على العَرِيَّة التي ثبتت المبادلة فيها بالنص - وهذا مبني على أصل أصولي، وهو أن المستثنى من الأصل مرخَّص فيه لعذر، وحقيقة الرخصة عند الأصوليين: "ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح".
فالمعارض الراجح هو العذر الذي لأجله وقعت الرخصة، فاستثني حكم الواقعة عن حكم أصلها.
فالعَرِيَّة، وهي بيع الرطب على أصوله خَرْصًا بما يساويه من التمر، مما رخص فيه بنص الشرع، استثناء من المنع في بيع الرطب على الشجر بخرصه من التمر، وهو المسمى المزابنة.
فعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: ((ذلك الربا، تلك المزابنة))، إلا أنه رخص في بيع العَرِيَّة، النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بِخَرْصها تمرًا، يأكلونها رطبًا"[1].
وجازت العريَّة مراعاةً لحاجة الناس إلى الرطب، والأصل منعُها؛ لأنها من باب الربا، والجهل بالتساوي فيه كالعلم بالتفاضل، وجاز بيعه خرْصًا بما يساويه لحاجة الناس إلى الرطب.
والقياس على المستثنى المرخص فيه جائز متى عُقِلت علته، واشتركا في الوصف؛ لأنه صار أصلاً برأسه.
ومثاله: إلحاق الزبيب بالتمر في جواز بيعه خَرْصًا بالعنب على الشجر، وكذا جميع الزروع[2].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): "وحقيقة الأمر أنه لم يشرع شيء على خلاف القياس الصحيح، بل ما قيل: إنه على خلاف القياس، فلا بد من اتصافه بوصف، امتاز به عن الأمور التي خالفها، واقتضى مفارقته لها في الحكم، وإذا كان كذلك، فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه، فحكمه كحكمه"[3].
وعلى هذا، فإن إقامة الزوجة الدعوى على زوجها في بلدها في المسائل الزوجية مَقيسٌ على جواز ذلك في مسائل النفقة المرخص فيها بموجب النظام.
وبذا يظهر أنه لا إشكال فيما تقرر في الفقرة محل الدراسة من اللوائح التنفيذية؛ لشهادة الأدلة الشرعية على ما يوجِب استثناءها، وقياسًا لها على استثناء النفقة، والقياس على المستثنى أمرٌ مقرَّرٌ شرعًا - كما نبه عليه.
وقد صدر في الموضوع نفسه - إقامة الدعوى من الزوجة على زوجها في بلد الزوجة - فتوى من سماحة رئيس قضاة المملكة العربية السعودية سابقًا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ) ذات الرقم 936/1 والتاريخ 14/4/1384هـ، بما يوافق ما جاء في اللائحة التنفيذية محل الدراسة.
وقد تم - بحمد الله - الانتهاء من كتابة هذه الدراسة وتسطيرها، نفع الله بها كاتبها، وقارئها، والناظر فيها، وجعلها خالصة لوجهه الكريم، موجِبةً للفوز لديه بجنات النعيم.
[1] متفق عليه؛ فقد أخرجه البخاري 2/763.
كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، وهي بيع الثمر بالتمر، وبيع الزبيب بالكَرْم، وبيع العرايا، وأخرجه مسلم واللفظ له 3/1170، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.
[2] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/427، الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 128.
[3] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 20/556، وانظر الخلاف مبسوطًا في كتاب: "المعدول به عن القياس؛ حقيقته وحكمه، وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية منه" لعمر بن عبدالعزيز 47، وكتاب: "الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس" لعبدالكريم النملة 177.