عنوان الفتوى : من أحكام الجهاد للنساء
هل يشترط المحرم لسفر المرأة الى أرض الجهاد؟ وهل يشترط إذن الزوج؟ وهل يشترط عدم الاختلاط في أرض الجهاد؟ وهل كان نساء الصحابة اللاتي يذهبن للجهاد يداوين جراح الرجال ؟ أليس في ذلك حرج؟ هل يشترط توفر المحرم لها في مكان إقامتها في أرض الجهاد؟ وهل إذا تعرضت للاعتقال وتبعاته قد ذهبت إلى التهلكة المحرمة؟ جزاكم الله خيرًا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الجهاد الذي يعنى به القتال لا يجب على النساء في الأصل, فقد سألت أم المؤمنين عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لا، لَكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور" رواه البخاري, وفي رواية عند الإمام أحمد: يا رسول الله: هل على النساء جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة.
قال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء. اهـ
وقال خليل: وسقط بمرض وصبًا وجنون وعمى وعرج وأنوثة... اهـ
وقد يجب الجهاد على المرأة إذا فاجأ العدو القوم، ولم يستطيعوا الدفاع دون مشاركة النساء، قال خليل: وتعين بفجء العدو وإن على امرأة... اهـ, وهذا النوع ليس فيه سفر في الغالب.
ويباح للنساء المشاركة مع المجاهدين في السفر معهم لمساعدتهم في الخدمة والعلاج الطبي عند الحاجة لهن والقتال أحيانًا، فقد ثبت أن نسيبة أم عمارة الأنصارية - رضي الله عنها - شاركت في القتال يوم أحد دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم تنقزان القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم.
وفي صحيح مسلم عن أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.
وفي صحيح البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم، ونردُّ الجرحى والقتلى إلى المدينة. إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة.
وفي صحيح مسلم أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله: هذه أم سليم معها خنجر, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر؟ "فقالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضحك.
وروى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى.
قال الإمام الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للمرأة الأجنبية معالجة الرجل الأجنبي للضرورة.... إلى أن قال: وهكذا حال المرأة من ردِّ القتلى والجرحى، فلا تباشر بالمس مع إمكان ما هو دونه. انتهى.
وهذا يدل على جواز مخالطتها الرجال عند الاضطرار إليها, ولا بد أن تقدر الضرورة بقدرها, فلا تمس من بدن الرجل إلا ما لا بد منه, كما لا تنظر من عورته إلا موضع العلاج, وليس هذا من الاختلاط المحظور.
وفي حال ما إذا كان الجهاد واجبًا وجوبًا عينيًا على الجنسين فلا تتوقف مشاركتها فيه على إذن الزوج؛ لأن فروض الأعيان - مثل الصلاة المفروضة, وصيام رمضان- لا يملك الزوج منع الزوجة منها.
وإن كان الجهاد واجبًا وجوبًا كفائيًا فلا بد عند السفر إليه من إذن الزوج, ووجود المحرم عند السفر المعتبر, وأن يخرجن مع الجيش الكبير الذي لا يخشى أن يقهره عدوه، ويسبي من فيه من النساء.
قال ابن عبد البر: وخروجهن مع الرجال في الغزو مباح إذا كان العسكر كثيرًا تؤمن عليه الغلبة. اهـ
وأما السفر الذي يخشى أن تتعرض فيه للاعتقال فلا يشرع لها.
ولا يجوز للمرأة عند الجمهور أن تسافر وليس معها محرم لها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثًا إلا ومعها ذو محرم منها" والحديث في الصحيحين وغيرهما.
قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه على صحيح مسلم: فالحاصل أن كل ما يسمى سفرًا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يومًا أو بريدًا أو غير ذلك؛ لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرًا, والله أعلم. انتهى, وانظر الفتوى رقم:6219، والفتوى رقم :17103.
واعلم أن اشتراط المحرم يختص بالسفر، أما الإقامة فلا يشترط لها المحرم، وإنما يشترط لها الأمن من الفتنة, كما بيناه في الفتوى رقم: 112128.
هذا وننبه على بعض أنواع الجهاد التي يمكن النساء المشاركة فيها فنقول: إن الجهاد له أنواع غير القتال, فقد ذكرابن القيم في الزاد وابن حجر في الفتح أنواع الجهاد فذكروا أنه يطلق على مجاهدة النفس والشيطان والفساق والكفار.
وقد قدمنا بسط القول في ذلك في الفتويين التاليتين: 54245 93709
وبإمكان المرأة أن تشارك في عدة من هذه الأنواع من دون سفر, ومن أهم ذلك مجاهدة نفسها بحمل نفسها على العمل بما أوجبه الله عليها من الطاعات, والبعد عن المعاصي, والاستقامة والثبات على ذلك، وكذلك رعاية وتعليم أبنائها، وتنشئتهم على آداب الإسلام، فتربية النفس والنشء على الدين من أعظم الواجبات, وقد قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا {التحريم:6}.
ومن ذلك جهادها بالدعوة إلى الإسلام بتعليم بنات جنسها، وأمرهن بالمعروف ونهيهن عن المنكر، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {التوبة:71}
ويمكن دعوة الرجال بما تيسر من تعليمهم ونصحهم إن كانوا محارم أو أجانب مع أمن الفتنة, وعدم الخضوع بالقول والخلوة بالأجانب, كما كان أمهات المؤمنين وغيرهم من نساء الصحابة يحدثن عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد روى عنهن الرجال تلك الأحاديث.
ويمكن للمرأة أن تنفق من مالها في سبيل الله تعالى على الجهاد والمجاهدين، عملاً بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{ الصف:11،10}, وبقوله صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" رواه أبو داود وغيره، وصححه الشيخ الألباني.
وقد حصل من ذلك الكثير في جهاد سلف من هذه الأمة، ومن ذلك ما حصل عندما حضَّ النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك على الجهاد ورغب فيه، وأمر بالصدقة ورغب الأغنياء في ذلك، فحملت إليه صدقات كثيرة، وأتت النساء بنصيبهن من ذلك.
والله أعلم.