أنا هو
مدة
قراءة القصيدة :
7 دقائق
.
كانت قبيل العصر مركبة | تجري بمن فيها من السّفر |
ما بين منخفض و مرتفع | عال ، و بين السّهل و الوعر |
و تخطّ بالعجلات سائرة | في الأرض إسطارا و لا تدري |
كتبت بلا حبر و عزّ على | الأقلام حرف دون ما حبر |
سيّارة في الأرض ما قتئت | كالطّير من وكر إلى وكر |
تأبى و تأنف أن يلمّ بها | تعب ، و أن تشكو سوى الزّجر |
حملت من الركاب كلّ فتى | حسن الرّواء و كلّ ذي قدر |
يتحدّثون فذاك عن أمل | آن ، و ذا عن سالف العمر |
يتحدّثون و تلك سائرة | بالقوم لا تلوي على أمر |
فكأنّما ضربت لها أجلا | أن تلتقي و الشمس في خدر |
حتى إذا صارت بداحية | ممدودة أطرافها صفر |
سقطت من العجلات واحدة | فتحطّمت إربا على الصّخر |
فتشاءم الركّاب و اضطربوا | مما ألمّ بهم من الضّر |
و تفرّقوا بعد انتظامهم | بددا و كم نظم إلى نثر |
و الشّمس قد سالت أشعّتها | تكسو أديم الأرض بالتّبر |
و الأفق محمرّ كأنّ به | حنقا على الأيّام و الدّهر |
قد كان بين الجمع ناهدة | الثديين ذات ملاحة تغري |
تبكي بكاء القانطين و ما | أسخى دموع الغادة البكر |
و قفت و شمس الأفق غاربة | تذري على كالورد ، كالقطر |
شمسان لولا أنّ بينهما | صلة لما بكتا من الهجر |
و تدير عينيها على جزع | كالظّبي ملتفتا من الذّعر |
و إذا فتى كالفجر طلعته | بل ربما أربى على الفجر |
وافى إليها قائلا عجبا | ممّ البكاء شقيقة البدر ؟ |
قالت أخاف اللّيل يدهمني | ما أوحش اظلماء في القفر ! |
و أشدّ ما أخشاه سفك دمي | بيد الأثيم اللّصّ ذي الغدر |
" هنري " اللّعين و ما الفتى هنري | إلاّ لبن أمّ الموت لو تدري |
رصد السبيل فما تمرّ به | قدم و لا النسمات إذ تسري |
وا شقوتي إنّ الطريق إلى | سكني على مستحسن النكر |
إنّي لأعلم إنّما قدمي | تسعى حثيثا بي " القبر |
قال الفتى هيهات خوفك لن | يجديك شيئا ربّة الطهر |
فتشجهي و عليّ فاتّكلي | فأنا الذي يحميك من هنري |
قالت أخاف من الخؤون على | هذا الشباب الناعم النّضر |
فأجابها لا تجزعي و ثقي | أنّي على ثقة من النّصر |
عادت كأن لم يعرها خلل | تخد القفار سفينة البرّ |
و اللّيل معتكر يجيش كما | جاشت هموم النّفس في الصدر |
فكأنّه الآمال واسعة | و البحر في مدّ و في جزر |
و كأنّ أنجمه و قد سقطت | دمع الدّلال و ناصع الدّر |
و البدر أسفر رغم شامخة | قد حاولت تطويه كالسّر |
ألقى أشعّته فكان لها | لون اللّجين و لؤلؤ الثّغر |
فكأنّه الحسناء طالعة | من خدرها أو دمية القصر |
و كأنّما جنح الظّلام جنى | ذنبا فجاء البدر كالغدر |
و ضحت مسالك للمطيّة قد | كانت شبيه غوامض البحر |
فغدت تحاكي السّهم منطلقا | في جريها و الطيف إذ يسري |
و القوم في لهو و في طرب | يتناشدون أطايب الشّعر |
حتى إذا صارت بمنعرج | و قفت كمنتبه من السّكر |
فترجّلت " ليزا " و صاحبها | و مشت و أعقبها على الأثر |
و استأنفت تلك المطيّة ما | قد كان من كرّ و من فر |
مشت المليحة و هي مطرقة | ما ثمّ من تيه و لا كبر |
أنّى تتيه و قد أناخ بها | همّ و بعض الهمّ كالوقر |
لم تحتسي خمرا و تحسبها | ممّا بها نشوى من الخمر |
في غابة تحكي ذوائبها | في لونها و اللّف و النّشر |
ضاقت ذوائبها فما انفجرت | إلاّ لسير الذّئب و النمر |
كاللّيلة الليلاء ساجية | و لربّ ليل ساطع غرّ |
قد حاول القمر المنير بها | ما حاول الإيمان في الكفر |
تحنو على ظبي و قسورة | أرأيتم سرين في صدر ؟ |
صقر وورقاء ، و من عجب | أن تحتمي الورقاء بالصّقر |
هذا و أعجب أنّها سلمت | منه على ما فيه من غدر |
ظلّت تسير و ظلّ يتبعها | ما نمّ من إثم و لا وزر |
طال الطريق و طال سيرها | لكنّ عمر اللّيل في قصر |
حتّى إذا سفر الصّباح و قد | رفع الظّلام و كان كالسّتر |
و الغاب أوشك أن يبوح بها | و به ، بلا حذر ، إلى النّهر |
نظرت إليه بمقلة طفحت | سحرا ووجه فاض بالبشر |
قالت له لم يبق من خطر | جمّ نحاذره و لا نذر |
أنظر فإنّ الصّبح أوشك أن | يمحو ضياء الأنجم الزّهر |
و أراه دبّ إلى الظّلام فهل | هذا دبيب الشّيب في الشّعر |
و أسمع ، فأصوات الطيور علت | بين النّقا و الضال و السّدر ؟ |
قال الفتى أو كنت في خطر ؟ | قالت له عجبا ألم تدر ؟ |
فأجابها ما كان في خطر | من كان صاحبه الفتى هنري |
فتقهقرت فزعا فقال لها | لا تهلعي واصغي إلى حرّ |
ما كنت بالشّرير قطّ و لا | الرّجل الذي يرتاح للشّرّ |
لكنّني دهر يجوز على | دهر يجوز على بني الدّهر |
بل إنّني خطر على فئة | منها على خطر ذوي الضّر |
قتلوا أبي ظلما فقتلهم | عدل و حسبي العدل أن يجري |
لا سلم ما بيني و بينهم | لا سلم بين الهرّ و الفأر |
سيرون في الموت منتقما | لا شافع في الأخذ بالثّأر |
تالله ما أنساك يا أبتي | أبدا و لا أغضي على وتر |
قالت لقد هيّجت لي شجنا | فإليك ما قد كان أمري |
بعث المليك إلى أبي فمضى | و أخي معا توّا إلى القصر |
فإذا أبي في القبر مرتهن | و إذا أخي في ربقة الأسر |
يا ساعديّ بترتما ويد | الدهر الخؤون أحق بالبتر |
نابي و ظفري بتّ بعدكما | وحدي بلا ناب و لا ظفر |
و يلاه من جور الزّمان بنا | و الويل منه لكلّ مغترّ |
و كأنّنا و الموت يرتع في | أرواحنا مرعى و مستمري |
لما انتهت و إذا به دهش | حيران كالمأخوذ بالسّحر |
شاء الكلام فناله خرس | كلّ البلاغة تحت ذا الحصر |
و كذلك الغيداء أذهلها | ميل إلى هذا الفتى الغرّ |
قالت أخي و الله | و اقتربت |
و إذا به ألقى عباءته | برح الخفاء بها عن الجهر |
صاحت أخي فيكتور وا طربي | روحي ، شقيقي ، مهجتي ، ذخري |
و تعانقا ، فبكى فرحا | إنّ البخار نتيجة الحرّ |
و تساقطت في الخدّ أدمعها | كالقطر فوق نواضر الزّهر |
... | |
قل للألي يشكون دهرهم | لا بدّ من حلو و من مرّ |
صبرا إذا جلل أصابكم | فالعسر آخره إلى اليسر |