أرشيف المقالات

النفاق الاجتماعي

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد :
معنى النفاق لغةً واصطلاحاً: اختلف علماء اللغة في أصل النفاق، فقيل: إن ذلك نسبةً إلى النفق وهو السرب في الأرض، لأن المنافق يستر كفره ويغيبه، فتشبه بالذي يدخل النفق يستتر فيه.
وقيل: سمي به من نافقاء اليربوع، فإن اليربوع له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء، فإذا طلب من القاصعاء قصع فخرج من النافقاء، كذا المنافق يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي يدخل فيه، وقيل: نسبة إلى نافقاء اليربوع أيضاً، لكن من وجه آخر وهو إظهاره غير ما يضمر، وذلك: أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض ترك قشرة رقيقة حتى لا يعرف مكان هذا المخرج، فإذا رابه ريب دفع ذلك برأسه، فخرج، فظاهر جحره تراب كالأرض، وباطنه حفر، فكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر.

أما النفاق في الاصطلاح الشرعي فهو: القول باللسان أو الفعل بخلاف ما في القلب من القول والاعتقاد، أو هو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه، وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به.
- ولكننا هاهنا لانتحدث عن النفاق بشكله العام، ولكن سنتناول في هذه المقاله مايسمى بـ (النفاق الاجتماعي).

النفاق الاجتماعي ..
ليس نفاقاً دينياً يظهر المرء فيه الإسلام ويبطن فيه الكفر، بل هو يتعلَّق بسلوك اجتماعي، وعلاقات فردية، وأمراض اجتماعية ..
تؤثر بقوة المجتمع وتماسك أفراده، ويظهر خطره في أن النفاق عمومًا مذموم ومنبوذ، والمنافقون مكروهون مزيفون.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه».

وذو الوجهين هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها.

عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة » (رواه أبوداود)
أوقات يقوم بهذا التصرف الإنسان لذكائه، أو لمصلحة دنيويه، ويدخل في ذلك المصالح الإجتماعية أو مصالح العمل ..
وقد ينوي بذلك عدم التعادي من الناس، فيرضي ذلك ويجامل هؤلاء، وهو في الأصل لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

عن عمارة قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
فإذا داهنت أو مدحت أو حتى جاملت الفاسق أو حتى من لم يستحق المجامله بذلك توهم السامع بعكس ماهو فيه، ويصدقك السذج، ويتبعك الإمعه، وخسرت من يفهم ماتقوم به.
فأقترفت جملة من الأخطاء ..
بسبب ذلك النفاق أو مايسمونه بعض الناس بالمجامله، ويتعذرون بِـ مشي حالك، لاتدقق.

يقول الدكتور النابلسي : إذا تكلم الإنسان شيئا غير صحيح، أمامه نموذجان؛ أمامه إنسان بسيط يسلِّم له، ليس له هذه القدرة ليكتشف خطأه، عنده ثقة، وأمامه إنسان ذكي دقيق، البسيط غششته، والذكي خسرته، فأنت خسرت على جبهتين، الأول البسيط الذي صدقك ووثق بك غششته، والذكي الحصيف خسرته، أما إذا تكلمت الحق، وحرصت على أن تقول الحق، ولو كان الثمن باهظا، إنك ترقى عند الناس.

عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ».
يعني أصنافاً وأنواعاً وأشكال مختلفه ..
منهم من يكون بصراحته مزعجاً، ومنهم من تتقبل صراحته لجمال أسلوبه، ومنهم اللبق، ومنهم المداهن. 

ثبت في صحيح البخاري قال ناس لابن عمر رضي الله عنه : (إنا لندخل إِلى أمرائنا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إِذا خرجنا من عندهم، فقال : كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال القرطبي: (إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق إذ هو متملق بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس ).

عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهِ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «لَا يَنْبَغِي لِذِي الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وتتجلى هذه الصفه عند بعض الأشخاص في السكوت عن الخطأ بنية الحصول على مصالح شخصية، أو خوفاً من فقدتن ثقة المُجَامل، يقول الحسن البصري : (تولى الحجاج العراق وهو عاقل كيس فما زال الناس يمدحونه حتى صار أحمق طائشا سفيها) ..
وهذا أثر من الآثار الجمة لسلوك النفاق الإجتماعي، أنه يغير سلوك هؤلاء الأشخاص، ويصدقون ماوصلوا إليه من المجاملات.

يقول ابن القيم في كتابه الفوائد: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا؛ قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق".
ورحم الله الإمام أحمد حيث قال: "إذا تكلم العالم تقية، والجاهل بجهل، فمتى يعرف الحق؟".

عن ابن عُمَرَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ؛ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً ».
وفي رواية : «تَكِرُّ فِي هَذِهِ مَرَّةً وَفِي هَذِهِ مَرَّةً».
تتجلى هذه الظاهره كثيراً في مجتمعاتنا ، وفي علاقات العمل والعلاقات الإجتماعية الأخرى، وكذلك وسائل التواصل لا تخلوا منها.

قال محدث المغرب أبو الفضل عبدالله ابن الصديق الغماري رحمه الله: "أما الذين يسارعون إلى إباحة بعض المحرمات، ويصدرون فتاوى يرضون بها رؤساء بعض الحكومات، وقد تختلف فتاواهم بالتحليل والتحريم حسب اختلاف الأغراض والشهوات، فهؤلاء مجتهدون في محو الدين، مجدون في تغيير أحكامه، ولن يفلتوا من عقاب الله تعالى، ولا من شديد انتقامه، وما الله بغافل عما يعملون" (خواطر دينية وبحوث غالية لابن الصديق الغماري، ص: 161).

والنفاق الاجتماعي علامة من علامات قيام الساعة، قال صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع» (يعني العبيد والسفلة من الناس) (رواه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه، وحسنه البيهقي في دلائل النبوة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه).

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال : متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال.
وقال بعضهم : بل لم يسمع.
حتى إذا قضى حديثه قال : «أين السائل عن الساعة؟» قال: ها أنا يا رسول الله، قال: «إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة» قال: كيف إضاعتها ؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (متفق عليه).

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من استعمل رجلا من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين»
وأما من قصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود، ولكن يكون بحدود.

وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين).

هذه بعض الأحاديث التي وردت في نبذ هذه الخصلة الذميمة كأن يقف الإنسان موقفين متناقضان.
وأخيراً يكون التنافس والتسابق في مضمار الآخرة في العلم والعمل، أما التسابق الدنيوي فكلا المتسابقين خاسر ومفلس، ويأتي يوم القيامة خالي الوفاض.

وصلى الله على حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد سعيد قاسم

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢