ذكرى أبو التمن ..
مدة
قراءة القصيدة :
6 دقائق
.
طالَتْ – ولو قَصُرَت يدُ الأعمارِ - | لرَمتْ سِواكَ عَظُمْتَ مِنْ مُختارِ |
من صفوةٍ لو قيلَ أيٌّ فَذُّهُمْ | لم تَعْدُ شَخْصَكَ أعينُ النُظَّار |
لكن أرادتْ أن تحوزَ لنفسها | عَينَ القِلادةِ فازدَرَتْ بنُثار |
وأرى المنايا بالذي تختارُهُ | للموتِ عاطلةً ، وذاتَ سِوار |
فطوَتْكَ في دَرْج الخُلودِ فعطَّرتْ | بك سالفَ الأحقابِ والآثار |
واستنزلَتْكَ لغُربةٍ ولأنتَ مِن | عَلياك في لَجِبٍ من الأنصار |
وتجاهَلتْ أنَّ البلادَ بحاجةٍ | لكَ حاجةَ الأعمى إلى الإِبصار |
مُدَّتْ من الأُخرى إليك معاصمٌ | مِن رفقةٍ لك قادةٍ أبرار |
خُلصاءِ سَعيِكَ في الجْهاد وإخوةٍ | لكَ في الوفاءِ المحضِ والإِيثار |
ورفاقُ هذي الدار فيما أسلَفوا | للكاتِبَيْنِ رفاقُ تلكَ الدار |
بَكَرَ النَّعِيُّ فما سَمعتُ بمِثْلها | عِبءاً على الأسماعِ والأبصارِ |
رَمتِ العَماياتُ العيونَ وصَكَّتِ الأسماعّ | صافرةٌ مِن الإِنذار |
وترنَّحَ الأحرارُ يؤذِنُ بَعضُهُمْ | بعضاً بفقدهُمِ أبا الأحرار |
لله درُّكُّ مِن نقيٍّ لم يَنَلْ | أذيالَهُ وَضَرٌ مِن الأوضار |
في حيثْ تزدحِمُ الشكوكُ وترتَمي | شُبُهاتُها حتَّى على الأخيار |
خاضَ السياسةَ وانجلى عن لُجَّها | ألِقَ الجبينِ مكلَّلآً بالغار |
في حينَ رامَ سِواه خوضَ عُبابها | فطغى عليه فضاعَ في التَّيار |
وصليبُ عُودٍ حينَ بعضُ مُرونةٍ | في ضَعفها خطرٌ مِن الأخطار |
وطَريُّ نفسٍ حينَ بعضُ صلابةٍ | في عُقمها حجرٌ مِن الأحجار |
وخَفيُّ كيدٍ حيثُ يسمو كائدٌ | ومن المكايدِ جالبٌ للعار |
وصريحُ رأيٍ لم يَحِد عن خُطَّةٍ | ليلوذَ من تأويلها بجِدار |
حَرْبٌ على مُستعمِرٍ وربيبهِ | ومُسالِمٍ مُستَعْمِراً ومُجاري |
أعزِزْ عليَّ " أبا عزيزٍ " أنْ أرى | حُضَّارَ حفلِكَ زائغي الأبصارِ |
خَلَتِ المحافلُ من عُلاك وأوحشتْ | من بَعْد وجهِكَ ندَوةُ السُمَّار |
وتَعَرَّتِ الأنظارُ عن مُستَشرِفٍ | بادي السَّنا ، عالٍ على الأنظار |
ولقد يَعِزُّ عليكَ أنَّكَ لا تَرى | في " الأرْبِعاء " مواكبَ الزُّوّار |
أأبا عزِيزٍ كنتَ تُذكي جذوتي | ويَلَذُّ سَمْعُك مَنطقي وحِواري |
غوْثَ الصريخِ ، أتتك تُعوِلُ حُرَّةٌ | حَّراءُ صارخةٌ من الأشعار |
هَيَّجتَ منّي أيَّ داءِ كامنٍ | وقدحتَ منّي أيّ َزندٍ واري |
قسَماً بيومِكَ والفُراتِ الجْاري | والثورةِ الحمراء والثُّوّار |
والأرضِ بالدَّمِ ترتوي عن دِمْنَةٍ | وتَمُجّهُ عن روضةٍ مِعطار |
والخيلِ تَزحفُ لم تَدَعْ لمُغيِرها | جثثٌ تُغَطي الأرضَ أيَّ مُغار! |
قسَماً بتلكَ العاطفاتِ ولم تكُنْ | لي قبلَها من حِلْفةٍ بالنَّار |
إنَّ الذينَ عهِدتَهُم حطَبَ الوغى | لولاهُم لم تشتعِل بأوار |
والَّلاقِحينَ نَتاجَها بأعزِّ ما | ملَكَتْ يمينٌ من حِمىً وذمار |
والداهناتِ دماؤُهم لِمَمَ الثَّرى | والمُؤنساتِ شواطئَ الأنهار |
والناحرينَ مِنَ الضَّحايا خيرَ ما | حَمَلَت بُطونُ حرائرٍ أطهار |
ما إنْ تَزالُ حقوقُهُمْ كذَويهمُ | في الفَقْر سارحةً معَ الأبقار! |
وأعزُّ ما تبغي الحلائلُ مِنهمُ | أنْ تُسترَ العَوراتُ بالأطمار |
خمسٌ وعشرونَ انقضَتْ وكأنَّها | بشخُوصِها خَبَرٌ منَ الأخبارِ |
ضِقنا بها ضيقَ السجينِ بقيدهِ | من فَرْطِ ما حَمَلَتْ من الأوزار |
وتَجَهَّمَتْ فيها السماءُ فلم تَجُدْ | للخابطينَ بكوكبٍ سيَّار |
شاخَ الشبابُ الطّيبون وجُدّدتْ | فيها شَبيبةُ شِيخةٍ أشرار |
وبدا على وَجهِ الحفيدِ وجدِّه | للناظرينَ تقارُبُ الأعمار |
مَن كان يحسَبُ أنْ يُمَدَّ بعُمره | حُكْمٌ أقيمَ على أساسٍ هاري؟! |
مَن الفظاعةِ أنْ تُريدَ رَعيَّةٌ | في ظِلِّ دُستورٍ لها وشِعار |
ما يَطلُبُ المأسورُ من يدِ آسرٍ : | إسداءَ عارفةٍ وفَكَّ إسار |
ورِوايةٍ حبَكَ الزَّمانُ فُصولَها | فبدَتْ لنا ممسوخةً الأدوار |
من شرّ ما اختلقَ الرُّواةُ ،وَلفَّقتْ | حِيلٌ ، وضمَّتْ دَفَّةُ الأسفار |
وممثلينَ تصنّعاً ووراءَهمْ | خَلْفَ السِتار مُلّقِنٌ مُتواري |
ومفّرِقينَ مَذاهباً وعناصراً | مُتَكَفِّلينَ سياسةَ استعمار |
نزلوا على حُكم الغريبِ وعَرَّسوا | في ظِلِّ مأْثَمةٍ له وفَجار |
وتحلَّبُوا أوطارَهُ فاذا بها | وَشَلٌ لِما استحلى من الأوطار |
واستفرَشَ الشعْبُ الثرى ، ودُروبهُمْ | مملوءةٌ بنُثارةِ الأزهار! |
وتحَّلأَ الجَمْعُ الظِماءُ ووُكِّلَتْ | أبناؤهم بالوِرد والإِصدار |
ذُعِر الجْنوبُ فقيلَ : كيدُ خوارجٍ ! | وسكا الشَّمالُ فقيلَ : صنْعُ جِوار! |
وتنابزَ الوَسطُ المُدِلُّ فلم يَدَعْ | بعضٌ لبعضٍ ظِنَّةً لفَخار |
ودعا فريقٌ أنْ تسودَ عَدالةٌ | فرمُوا بكلِّ شنيعةٍ وشَنار! |
ومشَى المغيثُ على الجياع | – يَقوتهُمْ – وعلى العُراةِ ، بجحفلٍ جرّار |
وتساءلَ المتَعَجِّبونَ لحالةٍ | نكراءَ : مَنْ هُم أهلُ هذي الدار؟ |
هِيَ للصحابةِ مِن بَني الأنصار | من كلِّ بَدريٍّ وكلّ حَواري |
للحاكمينَ بأمرِهم عن غَيرِهم! | ولصَفْوةِ الأسباطِ والأصهار |
من كلِّ غازٍ شامخٍ في صدره | زاهي الوسامِ ، مدِّوخِ الأمصار |
هيَ للذينَ لو امتحنتَ بلاءهم | لعجِبتَ من سُخْريَّةِ الأقدار |
هي للذي من كلِّ ما يَصِمُ الفتى | كاسٍ ، ومن جُهْدٍ يُشرّفُ عاري |
ومُسلَّطٍ لمُسَلَّطينَ مشتْ به الأهواءُ | مِشيةَ مُثقَلٍ بخُمار |
نَسِيَ المُعيرَ ولو تذكَّرَ لأنثنى | خَزْيانَ من ثوبٍ عليه مُعار |
كم رامَ غيرُكَ مِثلَها فأحلَّهُ | نزَقُ الغُرور بشَرِّ دارِ بَوار |
بل لو تذكَّرَ لم يجدْ لضميرهِ | ومصيرهِ عَوناً من التَّذكار |
لم يبقَ إلَّا أنْ تُتَمَّمَ خطوةٌ | ويظَلَّ يَلعبُ لاعبٌ بالنار |
فلَرُبَّما نفَتِ الشَّكاةَ وقرَّبَتْ | يومَ الخلاصِ سياسةُ الإصرار |
أأبا عزيزٍ والحديثُ كما رَوَوا | شَجَنٌ ، ومُرُّ القول عذْبٌ جاري |
ومن العواطفِ ما يثورُ ويَغتلي | مثلَ الجحيم ، ويرتمي بشِرار |
عَفْواً وإنْ شطَّ المَدى عن غايتي | ونبَتْ جيادُ الشعر عن مِضماري |
فلقد تَحَشَّدَتِ البواعثُ واشتكَتْ | صَمْتَ القريض لِفَحْلهِ الهدّار |
ولقد عَهِدْتُكَ بالبلاد وأهلِها | جَمَّ الشُجونِ ، مُوزَّعَ الأفكار |
ووجدتُ قَدْحَ الذكريات شجيَّةً | بَرْداً لِأفئدةٍ عليك حِرار |
وعَرَفتُ أشجاناً يثيرُكَ بَعْثُها | فأثَرْتُهُنَّ فطِرْنَ كُلَّ مطار |
إيهٍ شبابَ الرافدين ومَنْ بهم | يرجو العراقُ تَبَلّجَ الأسحار |
الحاملِينَ مِنَ الفوادحِ ثِقْلَها | ليسوا بأنكاسٍ ولا أغمار |
والَّذائِدينَ عن الحياض إذا انتحَتْ | كُرَبٌ ، ولاذَ مُكابرٌ بفِرار |
والباذلينَ عن الكرامة- أُرخصَتْ - | أغلَى المُهورِ ، وأفدحَ الأسعار |
الفَقْرَ إذ طُرقُ الغِنى مفتوحةٌ | والبؤسَ إذ غَدقُ النعيم جواري |
ومؤَّججينَ نفوسَهمْ وقُلوبَهمْ | شُعَلاً يسيرُ على هُدها الساري |
والحابسينَ زئيرَهم بصدورهم | فإذا انفجرنَ بهِ فأيُّ ضواري |
والقانعينَ مِن الحياة رخيَّةً | بلُماظَةٍ ، ومن الكَرى بغرِار |
والمغرِياتُ مُراوداتٌ ترتجى | وتَخيبُ ، من عُونٍ ومن أبكار |
لا تيأسوا أنْ يَلُحْ مِن ليلةٍ | فجرٌ ، ولم تؤذِنْ بضوءِ نهار |
فلئِنْ صَلِيتُمْ مِن هَناةٍ جَمْرها | ومشَيْتُمُ منهنَّ فوق شِفار |
فطِوالُ مُحْرِجةِ الأمور وإنْ قَسَتْ | في شِرعةِ التأريخِ جِدُّ قِصار |
لا بُدَّ أنْ يَثِبَ الزَّمانُ ، وينثني | حُكمُ الطُغاةِ مُقَلَّمَ الأظفار |
وتُجَدِّدَ الأيَّامُ عَهْدَ وصالِها | مِن بَعدِ إعراضٍ لها ونِفار |
فهُناك سوفَ يكونُ من زَهَراتِكم | أصفى معارِفها وأطيبُ جار |
وهناكَ سوفَ يَرى الغَنيِمةَ معشرٌ | أنْ يُمْسِكُوا من خَلْفِكُمْ بغُبار |
فحَذارِ من عُقبى القُنوطِ حذارِ | وبِدارِ للعهدِ الجديدِ بِدار |