خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
البيت العتيق ووفود الرحمن
الحلقة مفرغة
الحمد لله الذي جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، وخصه بأول بيت وضع للناس مباركاً للعالمين وهدىً ويُمناً، حرَّمه وعظَّمه يوم خلق السماوات والأرض، وجعله لطالبي خيري الدارَين كفايةً ومغنى، أحمده سبحانه وأشكره وأستعينه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضي لنا الإسلام ديناً، فضلاً منه ومَنَّاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله بعثه مِنَّا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعــد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله، فقد فاز من أطاعه واتقاه، وخاب -والله- وخسر من كفر به وعصاه، وويل لمن زلت به قدماه، يوم يُكشَف الغطاء والبصر حديد، وينظر المرء ما قدمت يداه.
أيها الإخوة المسلمون: إن ما يكتبه الكاتبون، ويؤلفه المؤلفون، ويبحثه الباحثون، في فضل مكة وفي شرف البيت وفي تعظيم المشاعر، لا يعدو أن يكون عيضاً من فيض، فليس شرف هذه البقاع الطاهرة بالذي يُسْتَوعَب، وحسب الراغب، بل حسب العاشق الإلماع دون الإشباع، وتكفيه الإشارة عن طويل العبارة.
اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً ومهابةً وبراً، وزد من شرَّفه وعظَّمه ممن حجَّه واعتمره، وسكن فيه وجاوره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، ومهابةً وبراً.
أيها الإخوة: لقد اقتضت حكمة الله أن يجمع أهل الإسلام على قبلة واحدة، كما شاء سبحانه أن يحفظ هذا البيت ليبقى قياماً للناس، ومثابة وأمناً، ومبعثاً للوحي، ومصدراً للإيمان.
رفع الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام قواعد البيت، وخُتِمَت النبوَّات والديانات بمحمد صلى الله عليه وسلم، لتكون لأمته -أمةِ التوحيد- قيادة ركب البشرية وهدايتها: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78] .
البيت الحرام قبلة المسلمين، رمز التوحيد، ومظهر الإيمان، تشرئب إليه القلوب، وتتطاول إليه الأعناق، فهو مظهر وحدتهم، وسر اجتماعهم، ومحور شعائرهم قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم ) .
من هذا التاريخ تصدَّرت مكة ، وشرفت الكعبة، وتقدس البيت، يدينون لله بزيارته، ويتقربون لله بحَجِّه، وأمم الإسلام تولِّيه شطرها، فلا تمر ساعة أو لحظة من ليل أو نهار إلا وهم متوجهون إلى هذا البيت، ما بين قائم وقاعد، وراكع وساجد، وقانت وخاشع.
هو أول البيوت وضعاً، بنته الأنبياء الكرام بأيديها؛ إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فله شرف الأولوية، ودوام الحرمة، ومباشرة الأنبياء.
مضاعفة الأجور في البيت الحرام
فهو أول بيت وُضِع للناس، وقد نسبه الله عز وجل لنفسه تشريفاً وتكريماً: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ [الحج:26] وقد باشر بناءه إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
ثم الحظوا هذا السر: فإن الله سبحانه وتعالى لَمَّا أراد أن يفرض على عباده حج بيته، قدم بذكر محاسن البيت، وعِظَم شأنه، وكبير شرفه، تشويقاً وإغراءً وتمجيداً وتشريفاً، فقال عز شأنه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:96-97] .
بيت الله مبارك، الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، والحسنات فيه مضاعفة، أفاض الله عليه من بركات الأرض، وثمرات كل شيء في وادٍ غيرِ ذي زرع، فيه من الأقوات أكثرها، ومن الثمار أجودها، ومن الأثمان أقلها، ثمرات تُجْبَى إليه من حيث تكون، فتُساق إلى مكة سَوقاً، تهوي إليه أفئدةٌ من الناس من أشراف الأمم، وأعيانها، وعلمائها، وصلحائها، ومن كل طبقاتها، رجالاً وركباناً، يأتون من كل فج عميق، شدوا الرحال إلى بيت الله فرضٌ وحتمٌ على كل مسلم مستطيع.
وقصد البيت مكفر للذنوب {مَن حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه } والمتابعة بين الحج والعمرة تنفي الفقر والذنوب.
مهوى الأفئدة إلى بيت الله
من الناس من بلَّغهم الله بيته، فذاقوا وارتشفوا، وعرفوا واغترفوا، فمهما ترددوا عليه لا يبغون عنه حِولاً، ولا يقضون منه وطراً، إذا ذكروا بيت الله حنُّوا، وإذا تذكروا بُعدهم عنه أنُّوا، ثم لا يزالون يجأرون إلى مولاهم بقلوب مشفقة ودموع مغرورقة، ونفوس متحرقة، أن يعيدهم إليه مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة.
ومنهم من فاته القُرب والدُّنو، فهو يؤمُّه بقلبه في كل حين وآن، ويولِّي إليه وجهه حيث ما كان، لم يُكتب له الوصول إلى البيت، لكن قلبه موصولٌ برب البيت، أعاقته المعاذير، ولم تسعفه المقادير، كلما أذن مؤذن الحج تولوا وأعينهم تفيض من الدمع، فنَصَبوا موائد اللهف، وأراقوا دموع الأسف، حنين أفئدتهم لا ينقطع، ومُنى نفوسهم لا ينقضي.
البيت الحرام مدار لقيام أمر الدنيا والدين
وكم هو جميلٌ لذي الفقه والبصر، أن يقارن بين المال والكعبة في هاتين الآيتين الكريمتين:
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] .
وبين قوله سبحانه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ [المائدة:97] .
يوضح ذلك الإمام القرطبي رحمه الله، رابطاً بين وظيفة الملوك والولاة، ووظيفة هذا البيت المعظم، فهو يقول رحمه الله: قال العلماء: إن الله خلق الخلق، وفيهم طبع من التحاسد والتنافس، والتقاطع والتدابر، والسلب والنهب، والقتل والثأر، فكان من حكمة الله الإلهية، ومشيئته الأزلية أن هيأ لهم وازعاً يدوم معه الحال، ورادعاً يُحمد معه المآل، فجعل لهم من أنفسهم ولاة وسلاطين يمنعونهم من التنازع، ويحملونهم على التآلف، ويردون الظالم عن المظلوم، ويحفظون لكل ذي حق حقه، فتجري على رأيهم الأمور، ويكف الله بهم عاديات الجمهور.
ثم قال: وكذلك بيت الله سبحانه عظَّمه في قلوبهم، وأوقع هيبته في نفوسهم، وعظَّم فيهم حرمته، فقال عز من قائل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67] فكان موضعاً مخصوصاً، لا يدركه ظلوم، ولا يناله غشوم، يحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، يقيمون بجواره، ويحجون إلى عرصاته، فتقوم بهذا المصالح والمنافع، جذب إليه الأفئدة، وجلب إليه الأرزاق، وهو قيام لهم في أمر دينهم، يهذب أخلاقهم، ويزكي نفوسهم، يجمع كلمتهم، ويقطع دابر أعدائهم، قياماً للناس.
فالكعبة المشرفة ليست نصَباً تذكارياً، يُتَعَلَّق به تَعَلُّق الآثار، ولكنها دين وعقيدة وعبادة، لا تقوم للمسلمين قائمة بدونها، ولا تكتمل للمسلمين شخصيتهم الشرعية ما لم يجتمعوا حولها ويعظِّموا حرمتها، وإذا أذن الله بخراب الدنيا سلط الله على هذا البيت من يهدمه، فقيام البيت قيام الناس, والله غالب على أمره.
البيت الحرام مثابة وأمنا
ما أحوج البشرية المُفَزَّعَة الوَجِلَة المتطاحنة المتصارعة إلى منقطة الأمان التي جعلها الله في هذا المكان، وجعلها في هذا الدين، وبيَّنها للناس في هذا الكتاب، الأمن لا يكون إلا في جوار الله، والخوف لا يكون إلا في البُعد عن هدى الله. نعمة الأمن شديدة المساس بالإنسان، عظيمة الوقع في حسه، متعلقة بحرصه على نفسه.
تأملوا قول كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57].
إن كثيراً من ضعاف الإيمان يسلكون هذا المسلك الجاهلي، يشفقون من اتباع شرع الله، ويخشون من السير على هدي الله، وَجِلُون من عداوة أعداء الله ومكرهم، يرهبون من تألُّب الخصوم عليهم، يشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية.
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57] ماذا كان جوابه؟ وماذا كان الرد؟
لقد جاء الرد القرآني واضحاً: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57] من الذي وهبهم الأمن في ديارهم؟!
ومن الذي جعل لهم البيت أمناً حراماً؟!
ومن الذي جعل القلوب تأوي إليه، تحمل من ثمرات الأرض وأرزاقها، تتجمع في حرم الله من كل صقع بعد أن تفرقت في مواطنها ومواسمها؟!
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله؟!
أفمن أمَّنهم وهم عصاة يَدَع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
بل ماذا حصل لَمَّا اتبعوا الهدى مع محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ألم تُفْتَح لهم مشارق الأرض ومغاربها؟!
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57] لا يعلمون أين يكون الأمن، ولا يعلمون أين تكون المخافة، لا يعلمون أن الأمر كله لله.
إن بيت الله هو دار الهدى، رحابه الأمن، وجواره البركة، من قلب الحرم الأطهر انطلقت القصة الكبرى والخطب الجلل، في الحرم ولد الهدى وتنزل الوحي: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:1-5] .
من الحرم بدأت كتائب الإسلام زحفها لاستئصال الجاهلية، تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتنشر الإسلام، وتبسط السلام.
الارتباط بالبيت العتيق ارتباط بأهداب الرسالة وجذور الديانة.
من الأميين التائهين في الصحراء أُخْرِجَت للناس خير أمة، انتشروا وانبثوا كما تُرْسِل الشمس أشعتها حياةً للأرض المَيْتَة، وضياءً للقلوب المظلمة.
تدوِّي بطاحُ مكة لتحكي التاريخ، وسيرة العدل، ومسيرة الحق، وميزان القيم، وسوق الفضيلة.
على رمالها عُفِّر الشرك، وعلى جبالها تحطَّمت الأصنام، وفي شعابها أُزْهِقَ الباطل.
أيها الإخوة: هذا هو بيت الله، وتلكم هي بعض خصائص حرمه ومزايا كعبته.
وإن شئتم مزيداً من النظر والتأمل فتفكروا وتدبروا: ما الذي أتى بضيوف الرحمن؟!
وما الذي حبب للمجاورين الجوار؟!
ترى القلب الساكن يتحرك ويتحرك حتى يرحل إلى أطهر الأماكن! الانتقال إليه أجمل ساعات العمر! وشهوده أعز وقائع الدهر!
فلِلَّه كم لهذه الديار من حبيب وسليب؟!
وكم أُنْفِق في حبها وبلوغها وخدمتها من الأموال والأرواح؟!
كم نفوس طاهرات قد أحرمت؟! وكم أرواح زاكيات قد هتفت؟!
وكم شفاه نقيات كبرت وهللت؟! وكم أيْدٍ كريمات رمت واستلمت؟! وكم أقدام شريفات طافت وسعت؟!
هنا يتجلى الشرف والتقديس، حين تنتقل الخطى بين المشاعر، وتهتف مع الملأ الطاهر في مظاهر من التقوى، ورسوم من الخشوع، ورقة المشاعر، لا لباس أنصع من لباس الحجاج والمعتمرين، ولا عبير أزكى من شعث المحرمين والمجاهدين.
فيا لَشَرف رَكْب الملبِّين والطائفين! ويا لكرامة رءوس المحلِّقين والمقصِّرين! وناهيك ثم ناهيك بأنَّات التائبين وتأوُّهات الخاشعين، ومناجاة المنكسرين! هل أُتْعِبَت النفوس، وهل أُنْفِقَت الدراهم إلا في طاعة الله؟! وهل تُرِك الأهلون وعُطِّلَت الأعمال إلا طمعاً في جنة الله؟!
الإسلام هو الداعي، والإيمان هو الحادي.
لبيك لبيك لبيك، لا شريك لك، لبيك لبيك وسعديك، والخير كله بيديك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:26-28] .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا.
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
مضاعفة الأوزار والآثام في بيت الله
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله اتخذه خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ساروا على النهج، وحافظوا على العهد، وما بدلوا تبديلاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعــد:
فاتقوا الله أيها الناس؛ فتقوى الله وقاية من عذابه، واحذروا المعاصي؛ فإنها موجبات غضبه وأليم عقابه، وهُبُّوا من الغفلات: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [لقمان:33] فلسوف يفاجئ الغافل ما ليس في ظنه ولا حسابه.
أيها المسلمون! هذا هو بيت الله، وهذا هو حرمه وفضله، فحقه أن يُعظَّم ويُكرَّم، ويُقدَّس ويطهر.
ألا فليتقِ الله المجترئون على حرمات الله، وليتق الله من لم يعظِّم شعائر الله، إن الذنب ليعظُم في حرم الله وجوار بيته، عليهم أن يطهروا نفوسهم من موبقات الذنوب، ويطهروا بيت الله من رجس الأعمال.
ليتقِ الله الغارقون في الملاهي، وأسبابها ووسائلها، وليتقِ الله أَكَلَةُ الربا، ومقترفو الزنا، ومتعاطو الخمور والمخدرات، أين أدب الجوار؟!
وأين وازع الإيمان؟! وأين شكر النعمة؟!
متى يتوب من لم يتب وهو في حرم الله؟!
أما علم هذا أن الله قد جعل قصد بيته مكفِّراً لما سلف من الذنوب؟!
{فمن حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه } .
يا هذا! إن الهَمَّ بالسيئة -وإن لم تُفْعَل- مُتَوَعَّد عليها بالعذاب والعقاب: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
والإلحاد -وقاك الله-: كل ما خالف الشرع من ترك المأمورات أو فعل المنهيات، حتى عد بعض أهل العلم احتكار الطعام بـمكة من الإلحاد في الحرم.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[لو أن رجلاً هَمَّ فيه بإلحاد وهو بـعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً ]] .
أما علمت أن الله قد قَصَم عدوان المعتدين! ودَحَر جيش الغازي! ونُكِّسَت أعلام الباغي؟!
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] .
وهل ترى أعظم خسارةً وأقل نصيباً ممن أنعم الله عليه بزيارة بيته أو جوار حرمه، ثم كَرَّ على أعماله فهدم ما بنى، وشتت ما جمع، انتكس بعد هدى، وارتكس بعد الصفاء، وسوَّد صفحاته بأعمالٍ شوهاء؟!
وإن لضيوف الرحمن حقاً، فاعرفوا حقهم يا أهل الحرم.
أيها المجاورون في الحرمين الشريفين! اعرفوا لضيوف الرحمن حقهم، ولوفود بيت الله واجبهم من التكريم، وحفظ الحقوق، والصدق في معاملاتهم، وإرشاد ضالهم، والنصح في توجيههم، فأدوا لهم حقهم، واشكروا فضل الله عليكم، يا أهل الحرم!
وولاة الأمر في الحرمين الشريفين -وفقهم الله- قد بذلوا وأنفقوا، ووسعوا وجددوا، قياماً بحق الولاية، وشكراً للنعمة، وإكراماً لوفود الله، فشكر الله مساعيهم، وبارك في جهودهم، وتقبل منا ومنهم، فأروا الله من أنفسكم خيراً، واشكروا نعمة الجوار، واعرفوا حق هذه الديار.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، المبعوث من هذه البقاع نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلاً عليماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وجميع أعداء الدين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، وأعز به دينك وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في فلسطين ، وفي كشمير ، وفي كل مكان، اللهم أيدهم، وأعنهم، ولا تعن عليهم، اللهم قهم شر أعدائهم إنك سميع مجيب.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.