استقيموا ولا تطغوا


الحلقة مفرغة

الحمد لله سلك بأهل الاستقامة سبيل السلامة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، بوأ المتقين في دار المقامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم القيامة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، فاز من جعله إمامه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والكرامة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعــد:

أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله.

يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13-14].

أيها المسلمون: الاستقامة كلمة جامعة تأخذ بمجامع الدين، الاستقامة قيام بين يدي الله بما أمر الله، والتزام بالصدق مع الله، ووفاء بالعهد مع الله، فالاستقامة: لله وبالله وعلى أمر الله قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [الأحقاف:13] فكما استقاموا إقراراً استقاموا إسراراً، وكما استقاموا قولاً استقاموا عملاً، لقد جمعوا بين أصلي الكمال في الإسلام: الإيمان والاستقامة.

فالإيمان بالله: كمال في القلب بمعرفة الحق، والسير عليه معرفة بمقام الربوبية والألوهية، معرفة بالله رباً حكيماً إلهاً مدبراً معظماً في أمره ونهيه، قد عمر القلب بخوفه ومراقبته، وامتلأ منه خشية وإجلالاً، ومهابةً ومحبة، وتوكلاً ورجاءً، وإنابة ودعاء، أخلص له في القصد والإرادة، ونبذ الشرك كله وتبرأ من التعلق بغير ربه، والاستقامة اعتدال في داخل النفس من غير عوجٍ يمنة أو يسرة، وانتهاج للتقوى والعمل الصالح، والتزامٌ بالتواضع من الرأي والعلم والعمل، وقيام بأداء الفرائض واجتناب النواهي، وقول بالحق وحكم به، وبعد عن مواضع الشبه وموارد الفتن.

قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [الأحقاف:13] إذا تمكن ذلك في العبد وتحقق، ظهر ذلك طمأنينة في النفس، ورقة في القلب وقرباً من الرب، إيمان واستقامة ينجلي بها الليل البهيم لذي البصر السقيم، وينسكب على القلوب الظامئة فترتوي، ويغشى النفوس العاصية فتستكين، ويهيمن على القلوب الشاردة فترجع وتئوب.

بالاستقامة أُمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112] .. فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [الشورى:15] وبالاستقامة أُمر النبيان الكريمان، موسى وهارون عليهما السلام: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89].

أيها المسلمون: استقيموا كما أمرتم ولا تطغوا، استقيموا ولا تتبعوا الهوى، استقيموا ولا تتبعوا سبيل الذين لا يعلمون.

أيها المسلمون: الاستقامة شاقة؛ فالنفس معها تحتاج إلى المراقبة والملاحظة، استقامة لا تتأثر بالأهواء، استقامة تحقق العدل والتوحيد، استقامة بعيدة عن المجاوزة والطغيان، يقول عمر رضي الله عنه: [[الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب ]].

وأوضح من ذلك وأبلغ إرشاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إذ قال له: (يا عبد الله بن عمرو ! إن لكل عالم شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر ).

ويقول بعض السلف : ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصاناً.

سددوا وقاربوا

أيها الإخوة: الأمر خطير فبعض الناس قد لا يفوته علم أو عبادة، ولكن يفوته التوفيق والصواب، استقامة في اقتصاد، وعمل بعد علم، وإخلاص في القلب، ومتابعة للسنة، اقتصاد يعصم عن بدعة التفريط والإضاعة، ويحفظ من حد الغلو والإسراف والمجاوزة، ونظراً لعظم الأمر ودقته فقد وجهكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {استقيموا ولن تحصوا } وبقوله: {سددوا وقاربوا } وقبل ذلك: أمركم ربكم عز وجل بقوله: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6].

فالمطلوب الاستقامة وهي السداد والإصابة، فإن لم يقدر فليجتهد في المقاربة وليستغفر الله، فإن نزل عن ذلك فالخوف عليه من التفريط والإضاعة، استغفار مقارن لمسيرة الاستقامة وجبر للنقص البشري، وتسديد للقصور الإنساني، استغفار وتوبة تعيدان إلى جادة الاستقامة، وتردان إلى مسلك الحق والعدل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115].

{وأتبع السيئة الحسنة تمحها } استقامة مقرونة باستغفار، مما يعني يقظةً دائمة، ومحاسبة صادقة، وضبطاً للانفعالات البشرية.

حفظ القلب واللسان مدار تحقيق الاستقامة

إذا كان الأمر كذلك -أيها الإخوة المسلمون- فإن مدار تحقيق الاستقامة على وجهها يكون بحفظ القلب واللسان، فقد جاء عند أحمد من حديث أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: {لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه }.

ولقد كان من دعاء نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: {أسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً } فمن صلح قلبه استقام حاله فلم ينظر ببصره إلى محرم، ولم ينطق لسانه بمأثم، ولم تبطش يده في مظلمة، ولم ينهض بقدمه إلى معصية، والأعضاء كلها تكفر اللسان، وتقول له في مطلع كل صباح: {اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا } بهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً.

أيها الإخوة: الأمر خطير فبعض الناس قد لا يفوته علم أو عبادة، ولكن يفوته التوفيق والصواب، استقامة في اقتصاد، وعمل بعد علم، وإخلاص في القلب، ومتابعة للسنة، اقتصاد يعصم عن بدعة التفريط والإضاعة، ويحفظ من حد الغلو والإسراف والمجاوزة، ونظراً لعظم الأمر ودقته فقد وجهكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {استقيموا ولن تحصوا } وبقوله: {سددوا وقاربوا } وقبل ذلك: أمركم ربكم عز وجل بقوله: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6].

فالمطلوب الاستقامة وهي السداد والإصابة، فإن لم يقدر فليجتهد في المقاربة وليستغفر الله، فإن نزل عن ذلك فالخوف عليه من التفريط والإضاعة، استغفار مقارن لمسيرة الاستقامة وجبر للنقص البشري، وتسديد للقصور الإنساني، استغفار وتوبة تعيدان إلى جادة الاستقامة، وتردان إلى مسلك الحق والعدل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115].

{وأتبع السيئة الحسنة تمحها } استقامة مقرونة باستغفار، مما يعني يقظةً دائمة، ومحاسبة صادقة، وضبطاً للانفعالات البشرية.

إذا كان الأمر كذلك -أيها الإخوة المسلمون- فإن مدار تحقيق الاستقامة على وجهها يكون بحفظ القلب واللسان، فقد جاء عند أحمد من حديث أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: {لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه }.

ولقد كان من دعاء نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: {أسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً } فمن صلح قلبه استقام حاله فلم ينظر ببصره إلى محرم، ولم ينطق لسانه بمأثم، ولم تبطش يده في مظلمة، ولم ينهض بقدمه إلى معصية، والأعضاء كلها تكفر اللسان، وتقول له في مطلع كل صباح: {اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا } بهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً.

إذا كان الأمر كذلك فأحق من يحفظ حق الاستقامة: ولاة أمور المسلمين ورعاياهم: أما ولاة أمور المسلمين: ففرض عليهم الاستقامة على أمر الله، وتقوى الله فيما استرعاهم ربهم من مسئوليات، فمسئوليتهم عظمى، وأمانتهم كبرى، يجب عليهم أن يقيموا دين الله ويحكموا بما أنزل الله، ويطبقوا في الناس شرع الله: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] يقيمون العدل في الأمة ويرعون المصالح ويتفقدون الأحوال، ويرفقون بالرعية ويأمنون السبل، ويفكون المظالم، ويحفظون الدين، وينفذون الأحكام، ويقيمون الحدود، ويولون الأكفاء: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].

حقوق ولاة الأمر على الرعية

أما الرعية: ففرض عليهم حفظ حقوق ولاة أمور المسلمين، والتعاون معهم في أداء المسئوليات، وحمل الأمانات، وتكثير الخير وسبله، وتقليل الشر وموارده، حق لولاة الأمور السمع والطاعة، والدعاء بالتوفيق والتسديد، وبذل النصح والصدق فيه بالحكمة والرفق، والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، مع حفظ حقهم في الإجلال والهيبة، والتعظيم والتوقير، والحذر من الوقيعة في أعراضهم، والجرأة عليهم بتنقصهم أو الدعاء عليهم فهذا من أسباب تولد الضغائن والأحقاد وفشو التنازع، والطاعة لازمة على المرء فيما أحب وكره، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، إلا أن يأمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة: {إنما الطاعة في المعروف }.

يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: {بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم } متفق عليه.

ومن رأى من أميره شيئاً يكرهه من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزع يداً من طاعة، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية، والعاصي لا يكفر بالمعصية إن لم يستحلها، وليس من سبيل الاستقامة أن يحمل الحماس بعض الناس على الوقوع في مخالفات الشرع.

فاتق الله يا عبد الله ولا تقل بلسانك إلا معروفاً، ولا تبسط يدك إلا إلى خير، كف عما لا يعنيك، ودع فضول الكلام والنظر، اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا ترتفع عنك نعمته، واجعل طاعتك لمن لا غنى لك عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.

يقول سفيان الثوري رحمه الله: [[عليك بالرجاء لمن يملك الوفاء، وعليك بالحذر لمن يملك العقوبة، وعليك بمراقبة لمن لا تخفى عليك منه خافية ]].

أيها الإخوة! أيها الأحبة! هذه هي الاستقامة في حقيقتها وطريقها.

أما جزاء أهلها: فتتنزل عليهم ملائكة الرحمن ألا تخافوا ولا تحزنوا، أمن من المخاوف وسلامة من المكاره، لا يأسون على فائت، ولا يشفقون من مستقبل، مسددون موفقون، محفوظون بملائكة الله من أمر الله، بإذن الله: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت:31] لهم الأمن في الحال والمآل والنعيم المقيم: نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].




استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3697 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3088 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3072 استماع
الطلاق وآثاره 3013 استماع
لعلكم تتقون 2999 استماع
الماء سر الحياة 2956 استماع
من أسس العمل الصالح 2933 استماع
الزموا سفينة النجاة 2883 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2872 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2851 استماع