نظرات في الدعوة ومسالك الدعاة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة في الله: أشكر الله عز وجل على أن أتاح لي هذه الفرصة في هذا البيت من بيوت الله؛ لنلتقي بهذا الجمع الكريم الطيب المبارك، ثم أشكر الإخوة في مكتب الدعوة بـالرياض والقائمين عليه على دعوتهم، وإتاحتهم الفرصة لي للتحدث إليكم في موضوعٍ أحسبه من المواضيع المهمة، والتي لا شك أنكم سمعتم بها، واطلعتم على كثيرٍ من جوانبها ومباحثها، ولكن لابد من التذكير، وأؤكد لكم أن ما تسمعونه إنما هو تذكير، والذكرى تنفع المؤمنين، والتذكير لا يلزم منه أن يأتي المتحدث بجديد، وهذا التذكير هو تذكير في باب عظيم.. باب الدعوة إلى الله عز وجل التي هي وظيفة الرسل، ويحصل كذلك -أيضاً- التذكير بها ونحن في هذه الأجواء والظروف التي تجري في الساحة الإسلامية -إن صح التعبير- من أمور تقتضي وقوفنا جميعاً، والتحدث فيما ينبغي التحدث فيه، والخوض في مثل هذه القضايا؛ حتى نكون على بصيرة من أمرنا، وحتى نتلمس طريقنا في مثل هذا الاجتماع المبارك، وفي مثل هذه المذاكرات في الأمور المهمات التي يهتم بها هذا المكتب ونظراؤه في مدن بلادنا الحبيبة.

والموضوع الذي اختير الحديث عنه عنوانه: (نظرات في الدعوة ومسالك الدعاة).

هذا الموضوع دعا إليه -في تقديري- ما يلحظ في الساحة من نشاط يقوم به رجال أفاضل يدعون إلى الله، ويلاقون في دعوتهم ما يلاقيه من يقوم بمهمتهم في الماضي والحاضر، فهي سنة الله في الحاضرين والغابرين، والدعوة إلى الله هي طريق المرسلين، وقد لاقى أنبياء الله في ذلك ما لاقوا من العنت والصدود والإباء والاستكبار من لدن فئاتٍ كثيرةٍ وطبقات كبيرة من الملأ الذين استكبروا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

إن الدعوة تقوي الأمل واليقين، وترتفع بالمدعوين إلى مستوى الشعور بالمسئولية والتكليف، وإذا ما تأكد فيهم هذا الشعور فسوف تتغير طباعهم، وتعتدل مسالكهم، ويصح توجههم وتوجيههم، ومن أجل هذا فإن واجب الداعي إلى الله عز وجل أن يعمل على إيقاظ هذا الشعور، وفي مقدمةٍ لهذا الموضوع أرى أنه يحسن التذكير بقضايا مهمة، بل هي أساسية في الدعوة بينها الله عز وجل في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وكأن مسارات الدعوة تجري في هذه الأمور الثلاثة:

1- الحكمة.

2- الموعظة الحسنة.

3- الجدال بالتي هي أحسن.

فيحسن أن نقدم بكلماتٍ يسيرةٍ عن هذه الأجزاء الثلاثة.

الحكمة في الدعوة إلى الله

الحكمة مأخوذة من الحكمَةَ -بفتح الكاف والميم- وهو ما يوضع للدابة، يذللها راكبها حتى يمنع جماحها، واشتقت الحكمة من ذلك؛ لأنها إذا رزقها العبد فإنها تمنعه من أخلاق الأراذل، فالحكمة في أصلها هي: وضع الأشياء في مواضعها، وهي كل كلمة -فيما يتعلق بالدعوة- وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح، وكل صوابٍ من القول ورث فعلاً صحيحاً، والحكمة تستجلب الخير الكثير، كما أخبر الله عز وجل في كتابه بقوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] فالخير الكثير يجلبه صواب القول وسداد الرأي، مع ما يكتب الله من هدايةٍ وتوفيق.

فمن كل ما سبق نعرف أن الحكمة كلمة عامة جامعة تشمل: الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس، ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكلياتٌ جامعة لمجامع الأدب، وباختصار فهي: اسم جامع لكل كلامٍ أو علم يراعى فيه إصلاح الناس ومعتقداتهم إصلاحاً مستمراً لا يتغير.

الموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله

أما الموعظة الحسنة فهي: القول الذي يلين نفس المخاطب ليستعد لفعل الخير والاستجابة له، وتجمع بين الرغبة والرهبة، والإنذار والبشارة، فالموعظة الحسنة تجمع بين الرغبة والرهبة، والإنذار والبشارة، فهي تذكير بالخير فيما يرق له القلب، وتخويف وترجئة وتلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه وتجعله بصورة من يقبل الفضائل ويحبها ويتحلى بها.

وأحب أن تتنبهوا لهذا القول؛ لأنه سيأتي له تفصيل فيما بعد.

قولنا: إنها تلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه: فأنت حينما تدعو أخاك المسلم ولو كان على منكر يجب أن تحفظ له حق الإسلام، وأن يشعر منك بالتقدير والاحترام، فهذه موعظة، وليس المقصود الإهانة أو التبكيت أو التوبيخ، وسيأتي تفصيل لهذا؛ ولهذا نقول: هي تخويف وترجئة وتلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه، وتجعله بصورة من يقبل الفضائل ويحبها ويتحلى بها.

ومن أهم مظاهر الوعظ الحسن: أن يحس الموعوظ بأن الواعظ يحبه، ويشفق عليه ويقصد نفعه.

المجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة إلى الله

من المعلوم أن المجادلة مقصودٌ بها دفع ودرأ المخاصمة، ولكن إذا احتاج رجل الدعوة وإلى الجدال فليكن بالتي هي أحسن، ويكون حسن الجدال في الالتزام بموضوعيته، وبعده عن الانفعال، والترفع عن المسائل الصغيرة في مقابل القضايا الكبرى؛ حفظاً للوقت، وعزة النفس، وكمال المروءة، مع الحرص على الرفق واللين والبعد عن الفظاظة والتعنيف.

ويدخل في الجدال بالتي أحسن: رد تكذيب المعاندين بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجه، مثل قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، وقوله: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:68-69].

ومن الجدال بالتي هي أحسن: الإعراض عن كثيرٍ مما يقوله المخالف أو الخصم؛ لأن الدخول فيه يدخل في قضايا صغيرة، أو يدخل في قضايا ثنائية لا تصل فيها إلى الحق الذي تريد، بل قد يكون فيها خروج عن المروءة والأدب والمقصد الأعظم من الدعوة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن.

الحكمة مأخوذة من الحكمَةَ -بفتح الكاف والميم- وهو ما يوضع للدابة، يذللها راكبها حتى يمنع جماحها، واشتقت الحكمة من ذلك؛ لأنها إذا رزقها العبد فإنها تمنعه من أخلاق الأراذل، فالحكمة في أصلها هي: وضع الأشياء في مواضعها، وهي كل كلمة -فيما يتعلق بالدعوة- وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح، وكل صوابٍ من القول ورث فعلاً صحيحاً، والحكمة تستجلب الخير الكثير، كما أخبر الله عز وجل في كتابه بقوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] فالخير الكثير يجلبه صواب القول وسداد الرأي، مع ما يكتب الله من هدايةٍ وتوفيق.

فمن كل ما سبق نعرف أن الحكمة كلمة عامة جامعة تشمل: الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس، ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكلياتٌ جامعة لمجامع الأدب، وباختصار فهي: اسم جامع لكل كلامٍ أو علم يراعى فيه إصلاح الناس ومعتقداتهم إصلاحاً مستمراً لا يتغير.

أما الموعظة الحسنة فهي: القول الذي يلين نفس المخاطب ليستعد لفعل الخير والاستجابة له، وتجمع بين الرغبة والرهبة، والإنذار والبشارة، فالموعظة الحسنة تجمع بين الرغبة والرهبة، والإنذار والبشارة، فهي تذكير بالخير فيما يرق له القلب، وتخويف وترجئة وتلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه وتجعله بصورة من يقبل الفضائل ويحبها ويتحلى بها.

وأحب أن تتنبهوا لهذا القول؛ لأنه سيأتي له تفصيل فيما بعد.

قولنا: إنها تلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه: فأنت حينما تدعو أخاك المسلم ولو كان على منكر يجب أن تحفظ له حق الإسلام، وأن يشعر منك بالتقدير والاحترام، فهذه موعظة، وليس المقصود الإهانة أو التبكيت أو التوبيخ، وسيأتي تفصيل لهذا؛ ولهذا نقول: هي تخويف وترجئة وتلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه، وتجعله بصورة من يقبل الفضائل ويحبها ويتحلى بها.

ومن أهم مظاهر الوعظ الحسن: أن يحس الموعوظ بأن الواعظ يحبه، ويشفق عليه ويقصد نفعه.

من المعلوم أن المجادلة مقصودٌ بها دفع ودرأ المخاصمة، ولكن إذا احتاج رجل الدعوة وإلى الجدال فليكن بالتي هي أحسن، ويكون حسن الجدال في الالتزام بموضوعيته، وبعده عن الانفعال، والترفع عن المسائل الصغيرة في مقابل القضايا الكبرى؛ حفظاً للوقت، وعزة النفس، وكمال المروءة، مع الحرص على الرفق واللين والبعد عن الفظاظة والتعنيف.

ويدخل في الجدال بالتي أحسن: رد تكذيب المعاندين بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجه، مثل قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، وقوله: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:68-69].

ومن الجدال بالتي هي أحسن: الإعراض عن كثيرٍ مما يقوله المخالف أو الخصم؛ لأن الدخول فيه يدخل في قضايا صغيرة، أو يدخل في قضايا ثنائية لا تصل فيها إلى الحق الذي تريد، بل قد يكون فيها خروج عن المروءة والأدب والمقصد الأعظم من الدعوة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن.

إذا كان الأمر كذلك -أيها الإخوة- فنأتي إلى موضوعٍ يكون محلَّ نظر في مسالك الدعاة، وقبل أن ندخل في هذا الموضوع والذي هو لب هذا الحديث، نشير إلى بعض الصفات -بشيء من الإيجاز- التي يجب أن يتحلى بها رجل الدعوة، ومنها تتشعب تلك المسالك.

وهي أمورٌ سبق أن ذُكرتم بها في أكثر من مقام ومناسبة، وهي معهودة لديكم، ولكننا نذكرها بشيء من الإيجاز:

من صفات الداعية: التقوى

من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها رجل الدعوة: التقوى.

ويقصد بها كل معانيها: من فعل المأمورات، وترك المنهيات، والتحلي بصفات أهل الإيمان، فتقوى الله بشمولها إذا رزقها العبد فإنها تنير القلب، وتفتح المدارك، ويستبصر بها موهوبها مواطن الحق، ويهتدي بها إلى الوسائل والأساليب الصحيحة الملائمة للظروف والأحوال والأشخاص، فالعاقبة للتقوى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2].. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] وأولياء الله هم المتقون.

من صفات الداعية: الإخلاص

الإخلاص باب عظيم معلوم نظرياً، وتحقيقه عزيز، ومن حقق هذه الصفة لم يلتفت إلى نظر الناس أو تلمس مراضيهم، ويأتي هنا قول الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "إن بعض الناس يدعو إلى الله وهو إنما يدعو إلى نفسه".

وأعظم الناس مطالبة وحاجة إلى هذه الخصلة هم العلماء والدعاة، ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من ضيع هذه الخصلة، ولقد قال الغزالي رحمه الله في الإحياء ؛ محذراً من الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره -نسأل الله السلامة- وإذلال المدعو". ولعلكم تدكرون ما قلناه قبل قليل: وهو أن الموعظة الحسنة أن تجل أخاك، وتتلطف معه، وتحفظ له حق الإسلام.

قد يقصد الداعي -نسأل الله السلامة كما ذكر الشيخ الإمام الغزالي صاحب الإحياء بما سماه-: الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي، وهذا كلامٌ يكتب بماء الذهب.

يقول: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره وإذلال المدعو بإشعاره ولو بطرفٍ خفي بالجهل، وخسة أهل الجهل، والتقصير، وسوء حال المقصرين.

قال: وهذه مزلة عظيمة، وغائلة هائلة، وغرور للشيطان يطوق به كل إنسان إلا من عرَّفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن في الاحتكام على الغير لذةً للنفس عظيمة".

أي: الإنسان عندما يتكلم في عيوب الناس يجد لذة في أنه يتعالى ويخاطب الناس: افعلوا وأصلحوا، لماذا لا تقدموا؟ فالنقد لذيذ للإنسان، ويجد لذة في التعالي على الناس، ولهذا يقول الشيخ: "فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة".

ولم يقتصر الغزالي رحمه الله على هذا الإيضاح، بل زاد في بيان المعيار والمحك في ذلك حين قال: "وهناك محكٌ ومعيار ينبغي أن يمتحن الداعي به نفسه، وهو: أن يكون قيام غيره بالدعوة وإصلاح الناس واستجابتهم لغيره أحب إليه من استجابتهم له، فإن كان يحب أن يكفيه غيره فهو على خير، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا متبع لهوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته، فليتق الله تعالى فيه، وليدع أولاً نفسه". انتهى بتصرف وحذف من الإحياء .

لكن هل هناك حقيقة لكلام الشيخ حينما قال: "أن يكون دعوة غيره أحب إليه من دعوته في نفسه"؟

هذا فيه نظر، وخاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: {فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } فلا شك أنه كان مؤهلاً للدعوة متصدراً لها، لكن لاشك أنه إذا وجد من يكفيه اكتفى به، على معنى أنه إذا وجد في نفسه -فعلاً- أنه يحب الظهور فليتوارى، أما إذا جاهد نفسه وأراد أن ينال شرف هذا الحديث الذي أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم: { لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } فهذا محل نظر في كلام الغزالي رحمه الله.

من صفات الداعية: العلم

ومن الصفات التي ينبغي وقد يتحتم أن يتحلى بها رجل الدعوة: العلم؛ بل هو المقصود الأعظم من (البصيرة) في قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] بل إن من معاني الحكمة العلم، فالبصيرة تجمع العلم والحكمة، وهذه الخصلة لا تحتاج إلى معنى العلم، فهي معلومة لديكم، ويكفي في هذا التنبيه إلى ما تحفظونه من ترجمة الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه حيث قال: (باب: العلم قبل القول والعمل) واستدل بقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] قال رحمه الله: (فبدأ بالعلم قبل القول والعمل) وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[العامل بغير علمٍ كالسائر على غير هدى ]] وفي مأثور الحكم: "من تمسك بغير أصلٍ ذل، ومن سلك طريقاً بغير دليل ضل".

ويشمل العلم: الفهم الدقيق لما جاء في الكتاب والسنة، وسير السلف ، وفهوم أهل العلم والفقه علماً وعملاً.

من صفات الداعية: التواضع

من الصفات المهمة للداعية: التواضع:

ذلك أن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون من يستطيل عليهم، أو يبدو منه احتقارهم أو استصغارهم، ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً، بل إن الاستعلاء سببٌ ظاهرٌ في كره الحق ورفضه، ومن أجل هذا فإن التواضع ثمرة المعرفة بالله وبالنفس، يقول الخليفة أبو بكر رضي الله عنه: [[لا يحتقرن أحدٌ أحداً من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير ]] وقد خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28].

ويقول ابن الحاج : "من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى، فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول". أي: بقدر التواضع.

ومما يلحق بهذا الباب: العلم بأن من طبائع النفوس النفرة ممن يكثر الحديث عن نفسه، أو يستجلب الثناء عليها، أو يستدر لها المديح، فالفضل من الله، ومن تحدث إلى الناس فليتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه.

من صفات الداعية: الحلم

ومن صفات الداعية أيضاً: الحلم:

وهو ضبط النفس عند الغضب، والرجوع إلى العقل عند ثورة الانفعال، وما هذا إلا بشارات القوة وعنوان البطولة: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } وما أحوج الدعاة إلى الله إلى هذا وخاصة حين يحتدم الجدال، ويرون أشياء قد تثار، ولكن الحكيم والحليم هو الذي يظهر أثره في مثل هذه المواقف، ومن أحوجُ الخلق بهذا رجل الدعوة الذي ميدانه صدور الرجال ونفوس البشر.

ومن أبرز صور الحلم: كظم الغيظ، ثم يعقبه في الترقي: العفو عن الناس، وتلك صفات المتقين أهل الجنة التي عرضها السماوات والأرض، ومن رزق الحلم ترقى في درجاته؛ فيصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه.. ويخطئ من يظن أن الحلم عجز، وأن العفو ضعف، وأن الإعراض عن الجاهل خوف وخور، ولا يقول ذلك إلا من تأخذه العزة بالإثم، وهو خلق ذميم يتنافى مع الحلم كما ترى.

خرج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه من المسجد يوم فسبه رجل، فانتدب الناس إليه، يريدون أن يمنعوه ويكفوه، فقال: [[دعوه، ثم أقبل عليه وقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل إذا رآه قال: إنك من أولاد الأنبياء ]].

من صفات الداعية: عدم الغلظة والفظاظة

ومن الصفات كذلك: عدم الغلظة والفظاظة.

أيها الإخوة: أيها الشباب! أيها الدعاة: الناس في حاجةٍ إلى كنفٍ رحيم، وبشاشةٍ سمحة.. بحاجة إلى ودٍ يسعهم، وحلمٍ لا يضيق بجهلهم.. بحاجةٍ إلى من يحمل همومهم، ولا يثقل عليهم بهمومه، يجدون في رحابه العطف والرضا، ومن أجل هذا تأتي الرحمة الربانية لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الرسول القدوة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران:159] فما غضب عليه الصلاة والسلام لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه، وما نازعهم في شيء من أعراضهم، وسعهم حلمه وبره وعطفه.

وحينما يوهب العبد قلباً رحيماً، وطبعاً رقيقاً مع العلم والحكمة؛ فإنه لا يستكثر على الصغير والجاهل أن يصدر عنهم صدود عن الناصحين، والدنيا مليئة بمن لا يحبون الناصحين.

إن الداعي إلى الحق صاحب الخبرة والمراس لا يعجب من صدود الناس ونفرتهم، لكن رحمته بهم وشفقته عليهم لا تنفك تغريه بمعاودة الكرة تلو الكرة، كما يعاود الوالدان الحريصان على أولادهما في الإلحاح بالغذاء والدواء في حال الصحة والمرض، بل لقد جاء حديثٌ أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما أنا لكم مثل الوالد لولده } هل رأيتم والداً يمل من نصح ولده؟ حتى ولو نصحته ثم نصحته تجد الوالد دائماً يكرر، هذا الذي ينبغي أن تفعلوه مع الناس، ولا تضيق صدوركم أبداً، وهل رأيت أعظم شفقة من الوالد على ولده؟ وكم قابل محمدٌ صلى الله عليه وسلم إعراض قومه بابتهاله النبوي: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.

من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها رجل الدعوة: التقوى.

ويقصد بها كل معانيها: من فعل المأمورات، وترك المنهيات، والتحلي بصفات أهل الإيمان، فتقوى الله بشمولها إذا رزقها العبد فإنها تنير القلب، وتفتح المدارك، ويستبصر بها موهوبها مواطن الحق، ويهتدي بها إلى الوسائل والأساليب الصحيحة الملائمة للظروف والأحوال والأشخاص، فالعاقبة للتقوى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2].. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] وأولياء الله هم المتقون.

الإخلاص باب عظيم معلوم نظرياً، وتحقيقه عزيز، ومن حقق هذه الصفة لم يلتفت إلى نظر الناس أو تلمس مراضيهم، ويأتي هنا قول الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "إن بعض الناس يدعو إلى الله وهو إنما يدعو إلى نفسه".

وأعظم الناس مطالبة وحاجة إلى هذه الخصلة هم العلماء والدعاة، ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من ضيع هذه الخصلة، ولقد قال الغزالي رحمه الله في الإحياء ؛ محذراً من الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره -نسأل الله السلامة- وإذلال المدعو". ولعلكم تدكرون ما قلناه قبل قليل: وهو أن الموعظة الحسنة أن تجل أخاك، وتتلطف معه، وتحفظ له حق الإسلام.

قد يقصد الداعي -نسأل الله السلامة كما ذكر الشيخ الإمام الغزالي صاحب الإحياء بما سماه-: الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي، وهذا كلامٌ يكتب بماء الذهب.

يقول: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره وإذلال المدعو بإشعاره ولو بطرفٍ خفي بالجهل، وخسة أهل الجهل، والتقصير، وسوء حال المقصرين.

قال: وهذه مزلة عظيمة، وغائلة هائلة، وغرور للشيطان يطوق به كل إنسان إلا من عرَّفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن في الاحتكام على الغير لذةً للنفس عظيمة".

أي: الإنسان عندما يتكلم في عيوب الناس يجد لذة في أنه يتعالى ويخاطب الناس: افعلوا وأصلحوا، لماذا لا تقدموا؟ فالنقد لذيذ للإنسان، ويجد لذة في التعالي على الناس، ولهذا يقول الشيخ: "فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة".

ولم يقتصر الغزالي رحمه الله على هذا الإيضاح، بل زاد في بيان المعيار والمحك في ذلك حين قال: "وهناك محكٌ ومعيار ينبغي أن يمتحن الداعي به نفسه، وهو: أن يكون قيام غيره بالدعوة وإصلاح الناس واستجابتهم لغيره أحب إليه من استجابتهم له، فإن كان يحب أن يكفيه غيره فهو على خير، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا متبع لهوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته، فليتق الله تعالى فيه، وليدع أولاً نفسه". انتهى بتصرف وحذف من الإحياء .

لكن هل هناك حقيقة لكلام الشيخ حينما قال: "أن يكون دعوة غيره أحب إليه من دعوته في نفسه"؟

هذا فيه نظر، وخاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: {فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } فلا شك أنه كان مؤهلاً للدعوة متصدراً لها، لكن لاشك أنه إذا وجد من يكفيه اكتفى به، على معنى أنه إذا وجد في نفسه -فعلاً- أنه يحب الظهور فليتوارى، أما إذا جاهد نفسه وأراد أن ينال شرف هذا الحديث الذي أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم: { لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } فهذا محل نظر في كلام الغزالي رحمه الله.

ومن الصفات التي ينبغي وقد يتحتم أن يتحلى بها رجل الدعوة: العلم؛ بل هو المقصود الأعظم من (البصيرة) في قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] بل إن من معاني الحكمة العلم، فالبصيرة تجمع العلم والحكمة، وهذه الخصلة لا تحتاج إلى معنى العلم، فهي معلومة لديكم، ويكفي في هذا التنبيه إلى ما تحفظونه من ترجمة الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه حيث قال: (باب: العلم قبل القول والعمل) واستدل بقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] قال رحمه الله: (فبدأ بالعلم قبل القول والعمل) وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[العامل بغير علمٍ كالسائر على غير هدى ]] وفي مأثور الحكم: "من تمسك بغير أصلٍ ذل، ومن سلك طريقاً بغير دليل ضل".

ويشمل العلم: الفهم الدقيق لما جاء في الكتاب والسنة، وسير السلف ، وفهوم أهل العلم والفقه علماً وعملاً.

من الصفات المهمة للداعية: التواضع:

ذلك أن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون من يستطيل عليهم، أو يبدو منه احتقارهم أو استصغارهم، ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً، بل إن الاستعلاء سببٌ ظاهرٌ في كره الحق ورفضه، ومن أجل هذا فإن التواضع ثمرة المعرفة بالله وبالنفس، يقول الخليفة أبو بكر رضي الله عنه: [[لا يحتقرن أحدٌ أحداً من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير ]] وقد خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28].

ويقول ابن الحاج : "من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى، فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول". أي: بقدر التواضع.

ومما يلحق بهذا الباب: العلم بأن من طبائع النفوس النفرة ممن يكثر الحديث عن نفسه، أو يستجلب الثناء عليها، أو يستدر لها المديح، فالفضل من الله، ومن تحدث إلى الناس فليتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه.