صلاح الدين وتجديد الجهاد


الحلقة مفرغة

السفر مظنة لحصول المشقة التي تلحق المسافر ويحتاج معها إلى الترخص في بعض الواجبات الشرعية كالصلاة ونحوها، وقد راعت الشريعة هذا الجانب للمسافر، فشرعت له قصد الصلاة الرباعية، والجمع بين الصلاتين تقديماً أو تأخيراً، كل ذلك بشروط معلومة أهمها أن يكون السفر شرعياً من حيث المسافة.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.

أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فكانت سيرته صلى الله عليه وسلم بحقٍ نموذجاً فريداً لم يمر بالبشرية مثله أبداً ولن يمر، كان قدوة بعبادته وتقواه وخشيته وتعليمه وجهاده صلى الله عليه وسلم، وتجرد عليه الصلاة والسلام في دعوته للناس، فكان مستضعفاً في مكة، وجعل يدعو الناس إلى الإسلام حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة بعد مرحلة استضعاف طويلة -مكث ثلاث عشرة سنة مستضعفاً- بـمكة لا يستطيع الجهاد، حتى هاجر إلى المدينة، وأسس ذلك المجتمع المسلم، فأذن الله سبحانه وتعالى بالجهاد أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا، ويجهز البعوث، ويقود الجيوش حتى آخر لحظة من حياته.

مات صلى الله عليه وسلم جاهداً مجاهداً، وسار من بعده خلفاؤه على هذا النهج في حرب المرتدين، وفي حروب فارس والروم، حتى أذن الله بأن تضعف هذه الأمة مرة أخرى، وأن ترجع ضعيفة بعد قوتها الأولى، ولكن الله رحيم بعباده، فلما جاءت جيوش الصليبيين إلى بلاد الشام كانت أكبر نكسة أصيب بها المسلمون، وأعظم الخطوب خطراً منذ حرب المرتدين.

ثم بعد ذلك جاءت نكسة التتر بعد موجة الصليبيين، ثم بعد ذلك جاء الكفار في العصر الحديث بغزوهم العسكري والفكري، والله سبحانه وتعالى لا يترك هذه الأمة بلا رحمة، بل إنه أذن عز وجل بأن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، ولذلك كان التجديد وأحاديث المجددين من البشائر التي ينبغي على المسلم أن يتمعنها ويتأملها؛ لأنها تبعث في النفس الأمل في أوساط الضعف والهزيمة مثل الأوساط التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام، ولكن هذه الأمة كالغيث لا يدرى خيرٌ أوله أم آخره.. (الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة).

فبعث الله المجددين في كل فرع من فروع الدين، فكان منهم من جدد في جميع الفروع كـعمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان منهم من جدد في جوانب الفقه أو التفسير أو الحديث، وكان منهم من جدد في جوانب الجهاد، ولذلك تمر بعض القرون بالأمة الإسلامية ولا يمكن أن يكون المجدد فيها واحداً، بل قد يكون مجموعة من الناس يجدد في وقت واحد؛ هذا يجدد من جهة، وهذا من أخرى، وهذا من ثالثة، حتى يقوم عماد الإسلام مرة أخرى.

كان الوقت الذي غزا فيه النصارى بلاد المسلمين وقتاً عصيباً جداً؛ فإنهم -عليهم لعائن الله- قام فيهم بطرس الناسك يحرضهم على غزو بلاد المسلمين، ويقول: إن أرض المسلمين تنبع لبناً وعسلاً، وأعلن بما يسمى بـ(الحرب المقدسة) حتى اجتمع من جيوش الكفرة من النصارى خلق عظيم غزوا سواحل بلاد الشام، فاحتلوا كثيراً منها، وأمعنوا في المسلمين قتلاً، وفي بلادهم وممتلكاتهم نهباً وسلباً، وقام المسلمون من كل مكان من بلاد الشام يذهبون إلى إخوانهم يستنصرونهم فلا معين ولا ناصر، وكان يشكو مصر في ذلك الوقت الدولة الفاطمية الباطنية الرافضية الكافرة -التي لما قام ملوكها قاموا بقتل علماء السنة في مصر ، وجعلوا المساجد والأئمة والخطباء والقضاة منهم من أتباع المذهب الفاطمي، ينتسبون إلى فاطمة وفاطمة منهم بريئة رضي الله عنها.

وكان هؤلاء من خياناتهم: أنهم كانوا يتعاونون مع النصارى، وهكذا الباطنيون في كل عصر ومصر يكيدون لـأهل السنة ، ويتعاونون حتى مع الشيطان الرجيم في سبيل القضاء على ملة الإسلام، وما كانوا يقلون خطراً أبداً عن النصارى، بل إن شرهم مستطير، وبلاءهم عظيم، وقد قيَّض الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام في هذه الفترة ثلاثة من ملوك المسلمين العظام تتابعوا واحداً بعد واحد: محمود بن زنكي (نور الدين الشهيد) وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله تعالى، وهو الذي سنتحدث عن سيرته في هذه الليلة وعن تجديده في جانب الجهاد، وسنركز على جانب الجهاد أكثر شيء.

صلاح الدين رحمه الله بشر يصيب ويخطئ، وقد تكون له زلات، ولكن لا شك كما قال شيخنا عبد العزيز حفظه الله، وقد سألته عن هذا الرجل، وعما قيل فيه سلباً وإيجاباً، قال: لا شك أنه من مجددي الإسلام في الجهاد، وقال: وجهوده في القضاء على الباطنيين والنصارى عظيمة جداً لم يقم بها أحدٌ مثله، في القضاء على هاتين الطائفتين في وقت واحد.

مولد صلاح الدين ونشأته

ولد صلاح الدين رحمه الله تعالى في قلعة تكريت عام [532هـ] واسمه: يوسف بن أيوب بن شاذي وهو كردي لا عربي، ولقبه: صلاح الدين.

انتقلت أسرته إلى الموصل، ثم رافق والده الذي عُيِّن حاكماً على بعلبك ؛ ودرس صلاح الدين رحمه الله فيها أنواعاً من العلوم، وتعلم الصيد والفروسية، ثم لحق بعمه أسد الدين ابن شيركوه في حلب ، وأبدى صلاح الدين في دمشق مهارة وقدرة كبيرة، ثم رجع إلى حلب واهتم به نور الدين لملامح الفطنة التي رآها عليه، ثم إن عمه أسد الدين شيركوه قد اصطحبه معه إلى مصر بأوامر من نور الدين رحمه الله، وكان نور الدين يسعى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر لجعل الصليبيين بين شقي الرحا، وكان من أهداف نور الدين رحمه الله أن يوحد بلاد المسلمين لحرب النصارى وهو يعلم علماً تاماً أنه لا يمكن أن يحارب المسلمون النصارى وهم متفرقون.

وفي هذا درس عظيم لكل من يرى أن نبدأ بالأعداء الخارجيين قبل الأعداء الداخليين.

صلاح الدين في مصر

أراد نور الدين رحمه الله إسقاط الخلافة الباطنية، كما زعموا أنها خلافة، وعينوا لها خلفاء باطنيين في مصر ، فأراد نور الدين ضمها إلى نفوذ أهل السنة والجماعة مرة أخرى، واستغل نور الدين خلافاً حصل بين وزيرين من الدولة الفاطمية، فأرسل أسد الدين مع ابن أخيه صلاح الدين في جيش إلى مصر ، ثم عاد إليها مرة أخرى في عام (562هـ) ومعه ولد أخيه صلاح الدين أيضاً، وحصلت معركة مهمة بين شاور الخائن والصليبيين من جهة، وشاور من الباطنيين في مصر الذي استنجد بالصليبيين، حيث حدثت معركة بينه وبين الصليبيين من جهة، ومع جيش أهل السنة بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين من جهة أخرى، وانتهت المعركة بانتصار أهل السنة بقيادة أسد الدين شيركوه، وخرج أسد الدين من مصر ليعود إليها ويصبح وزيراً للخليفة الفاطمي الذي لم يبق له تقريباً إلا مجرد اسم، وقتل الخائن شاور عام (564هـ)، وشاء الله أن يموت أسد الدين شيركوه في عام (564هـ) ليتولى بعده صلاح الدين الوزارة، وظن الخليفة الفاطمي أن صغر سن صلاح الدين... كم كان عمره ذلك الوقت؟ تولى عام (564هـ) وكان عمره في ذلك الوقت [32] سنة، ولكن صلاح الدين خيب ظن ذلك الخليفة الفاطمي الباطني، وقام بإصلاحات كثيرة جداً، منها: إلغاء ضرائب الفاطميين، وبذل الأموال للناس في أوقات الشدة حتى أحبوه، وصدَّ غارات شنها الصليبيون على دمياط عام (555هـ] وأسس المدارس، وحصن المدن والموانئ والثغور المصرية، وبنى قلعة المقطم المشهورة، واكتشف خيانة من الفاطميين فتخلص منها، وبدأ بمشروع مهم جداً وهو عزل قضاة مصر الباطنيين الفاطميين وتولية قضاة بدلاً منهم من أهل السنة والجماعة ، وألغى (حي على خير العمل) من الأذان التي اخترعها أولئك الباطنيون في مصر ومسجد الأزهر الذي بناه الباطنيون الكفرة الذي يعتقد كثير من المسلمين أن جوهر الصقلي بطل إسلامي، مع أنه زنديق ملحد من هؤلاء الباطنيين، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم، فكان ذلك المسجد منارة لـأهل السنة في مصر كما طهره صلاح الدين رحمه الله تعالى.

وتمكن صلاح الدين رحمه الله بحنكته وحماسه وإخلاصه من إلغاء الخلافة الباطنية الفاطمية في مصر في أول جمعة من محرم عام (567هـ) وصار الخطباء في يوم الجمعة يدعون للخليفة العباسي على المنابر، وتوفي آخر خليفة باطني في (العاشر من محرم) من هذه السنة دون أن يعلم بأن دولته قد سقطت؛ لأن صلاح الدين أخفى ذلك عنه، ثم قام الباطنيون بتدبير عدة محاولات لاغتيال هذا القائد المسلم صلاح الدين رحمه الله بعد هذه الإصلاحات العديدة، منها: مؤامرة عمارة اليمني وعبد الصمد الكاتب وداعي الدعاة في عام (569هـ)، واتصلوا بالإسماعيليين لاغتيال صلاح الدين؛ وكان الإسماعيليون مسرورين بتدبير محاولة الاغتيال، فاتصلوا بهم من مصر واتصلوا بالصليبيين لغزو مصر ، وإشعال الفتنة من الداخل، وكان حول صلاح الدين أناس مخلصون يقظون، فكان أحد رجال صلاح الدين داخلاً في بطن هذه المؤامرة ليستكشف أحوالها، فأحبطت قبل أن تنفذ، وصلب زعماءهم، وعرف الصليبيون اكتشاف المؤامرة فرجعوا مدحورين، وجرت معارك في البر والبحر بين صلاح الدين وملك صقلية في أواخر عام (569هـ) انتهت بانتصار صلاح الدين.

صلاح الدين بعد نور الدين محمود

وفي عام (568هـ) وافت المنية نور الدين محمود رحمه الله وتولى ولده بعد ذلك، وقام الطامعون يريدون الاستيلاء على دولة نور الدين محمود الذي كان في بلاد الشام في حلب وفي دمشق ، فتمهدت الأمور لـصلاح الدين لدخول دمشق وضمها إلى مصر ليكمل خطته؛ وهي بلاد الشام، ومحاصرة الصليبيين، وأراد بعض طلاب الدنيا ممن كانوا مع نور الدين الاستعانة بالإسماعيليين في محاولة أخرى لاغتيال صلاح الدين رحمه الله، وأوشكت المؤامرة على النجاح لولا أن الله قدر انكشافها، ففشلت بعد أن جرح صلاح الدين في تلك المؤامرة.

استطاع صلاح الدين أن يوحد بلاد الشام تحت قيادته، وكان مع ذلك لا يخوض معارك مع بعض الطامعين في الإمارة من المسلمين لاستبقاء الدم الإسلامي -يبقى دم المسلم لحرب النصارى- وحاول الإسماعيليون مرة أخرى قتل صلاح الدين عام (570-571هـ) بالاندساس في جيشه حتى وصلوا إلى خيمته، حتى أن أحد هؤلاء الباطنيين وصل إلى خيمة صلاح الدين وفي يده سكينٌ مشفرة، ولكن الله قيض من الحراس من قتله، وأُحبطت اغتيال صلاح الدين وهو يحاصر قلعة أعزاز بـحلب؛ وهذا دليل على أن الباطنيين المنافقين الذين يزعمون الإسلام، خطرٌ على المسلمين في كل زمان ومكان، ويجب كشفهم والقضاء عليهم، وما ضُرب الإسلام منذ خلافة عثمان بن عفان رحمه الله حتى هذه الأيام بمثل ما ضرب من الباطنيين ابتداءً بـعبد الله بن سبأ وانتهاءً بهم الآن، وهم يدبرون المؤامرات تلو المؤامرات للقضاء على أهل السنة.

قام صلاح الدين رحمه الله بتأديبهم، وكان من طرق صلاح الدين في مواجهة بعض الأمراء من المسلمين الطامعين في السلطة أن يقول: من جاءني راضياً سلمت له بلاده على أن يكون من جنودي في جهاد الصليبيين، فكان من الواضح أن الرجل لا يريد الدنيا، ولا يريد الملك لنفسه، وإنما يريد أن يوحد المسلمين لحرب النصارى.

ومع الأسف! فإن بعض الطامعين في الدنيا من المسلمين قاموا بعقد المعاهدات مع النصارى، وبعضهم دفع عشرة آلاف دينار سنوياً للنصارى وسلمهم بعض ثغور المسلمين، وأطلق بعض أسرى النصارى مقابل الاستعانة بالنصارى في حرب صلاح الدين ، وهكذا يفعل حب الدنيا الأفاعيل، وعندما لا يكون الولاء والبراء الصحيح متمكناً من قلب المسلم، فإنه يفقد توازنه، فمثل هؤلاء الناس لم يكن الولاء والبراء متحققاً في نفوسهم، فصاروا يوالون الكفار ويعادون المسلمين، والولاء والبراء من أساسيات العقيدة، لا يمكن لمسلم أن يجاهد دون أن يتمكن الولاء والبراء من قلبه، ولا يمكن أن يحقق الإيمان بدون أن يتمكن الولاء والبراء من قلبه.

مكث صلاح الدين الأيوبي تسع سنوات من عام (570 - 579هـ) من أجل توحيد بلاد المسلمين، حتى ضم مصر والشام وإقليم الجزيرة وأخضع الموصل ليصبح أقوى ملوك الشرق قاطبة.

ولد صلاح الدين رحمه الله تعالى في قلعة تكريت عام [532هـ] واسمه: يوسف بن أيوب بن شاذي وهو كردي لا عربي، ولقبه: صلاح الدين.

انتقلت أسرته إلى الموصل، ثم رافق والده الذي عُيِّن حاكماً على بعلبك ؛ ودرس صلاح الدين رحمه الله فيها أنواعاً من العلوم، وتعلم الصيد والفروسية، ثم لحق بعمه أسد الدين ابن شيركوه في حلب ، وأبدى صلاح الدين في دمشق مهارة وقدرة كبيرة، ثم رجع إلى حلب واهتم به نور الدين لملامح الفطنة التي رآها عليه، ثم إن عمه أسد الدين شيركوه قد اصطحبه معه إلى مصر بأوامر من نور الدين رحمه الله، وكان نور الدين يسعى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر لجعل الصليبيين بين شقي الرحا، وكان من أهداف نور الدين رحمه الله أن يوحد بلاد المسلمين لحرب النصارى وهو يعلم علماً تاماً أنه لا يمكن أن يحارب المسلمون النصارى وهم متفرقون.

وفي هذا درس عظيم لكل من يرى أن نبدأ بالأعداء الخارجيين قبل الأعداء الداخليين.

أراد نور الدين رحمه الله إسقاط الخلافة الباطنية، كما زعموا أنها خلافة، وعينوا لها خلفاء باطنيين في مصر ، فأراد نور الدين ضمها إلى نفوذ أهل السنة والجماعة مرة أخرى، واستغل نور الدين خلافاً حصل بين وزيرين من الدولة الفاطمية، فأرسل أسد الدين مع ابن أخيه صلاح الدين في جيش إلى مصر ، ثم عاد إليها مرة أخرى في عام (562هـ) ومعه ولد أخيه صلاح الدين أيضاً، وحصلت معركة مهمة بين شاور الخائن والصليبيين من جهة، وشاور من الباطنيين في مصر الذي استنجد بالصليبيين، حيث حدثت معركة بينه وبين الصليبيين من جهة، ومع جيش أهل السنة بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين من جهة أخرى، وانتهت المعركة بانتصار أهل السنة بقيادة أسد الدين شيركوه، وخرج أسد الدين من مصر ليعود إليها ويصبح وزيراً للخليفة الفاطمي الذي لم يبق له تقريباً إلا مجرد اسم، وقتل الخائن شاور عام (564هـ)، وشاء الله أن يموت أسد الدين شيركوه في عام (564هـ) ليتولى بعده صلاح الدين الوزارة، وظن الخليفة الفاطمي أن صغر سن صلاح الدين... كم كان عمره ذلك الوقت؟ تولى عام (564هـ) وكان عمره في ذلك الوقت [32] سنة، ولكن صلاح الدين خيب ظن ذلك الخليفة الفاطمي الباطني، وقام بإصلاحات كثيرة جداً، منها: إلغاء ضرائب الفاطميين، وبذل الأموال للناس في أوقات الشدة حتى أحبوه، وصدَّ غارات شنها الصليبيون على دمياط عام (555هـ] وأسس المدارس، وحصن المدن والموانئ والثغور المصرية، وبنى قلعة المقطم المشهورة، واكتشف خيانة من الفاطميين فتخلص منها، وبدأ بمشروع مهم جداً وهو عزل قضاة مصر الباطنيين الفاطميين وتولية قضاة بدلاً منهم من أهل السنة والجماعة ، وألغى (حي على خير العمل) من الأذان التي اخترعها أولئك الباطنيون في مصر ومسجد الأزهر الذي بناه الباطنيون الكفرة الذي يعتقد كثير من المسلمين أن جوهر الصقلي بطل إسلامي، مع أنه زنديق ملحد من هؤلاء الباطنيين، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم، فكان ذلك المسجد منارة لـأهل السنة في مصر كما طهره صلاح الدين رحمه الله تعالى.

وتمكن صلاح الدين رحمه الله بحنكته وحماسه وإخلاصه من إلغاء الخلافة الباطنية الفاطمية في مصر في أول جمعة من محرم عام (567هـ) وصار الخطباء في يوم الجمعة يدعون للخليفة العباسي على المنابر، وتوفي آخر خليفة باطني في (العاشر من محرم) من هذه السنة دون أن يعلم بأن دولته قد سقطت؛ لأن صلاح الدين أخفى ذلك عنه، ثم قام الباطنيون بتدبير عدة محاولات لاغتيال هذا القائد المسلم صلاح الدين رحمه الله بعد هذه الإصلاحات العديدة، منها: مؤامرة عمارة اليمني وعبد الصمد الكاتب وداعي الدعاة في عام (569هـ)، واتصلوا بالإسماعيليين لاغتيال صلاح الدين؛ وكان الإسماعيليون مسرورين بتدبير محاولة الاغتيال، فاتصلوا بهم من مصر واتصلوا بالصليبيين لغزو مصر ، وإشعال الفتنة من الداخل، وكان حول صلاح الدين أناس مخلصون يقظون، فكان أحد رجال صلاح الدين داخلاً في بطن هذه المؤامرة ليستكشف أحوالها، فأحبطت قبل أن تنفذ، وصلب زعماءهم، وعرف الصليبيون اكتشاف المؤامرة فرجعوا مدحورين، وجرت معارك في البر والبحر بين صلاح الدين وملك صقلية في أواخر عام (569هـ) انتهت بانتصار صلاح الدين.

وفي عام (568هـ) وافت المنية نور الدين محمود رحمه الله وتولى ولده بعد ذلك، وقام الطامعون يريدون الاستيلاء على دولة نور الدين محمود الذي كان في بلاد الشام في حلب وفي دمشق ، فتمهدت الأمور لـصلاح الدين لدخول دمشق وضمها إلى مصر ليكمل خطته؛ وهي بلاد الشام، ومحاصرة الصليبيين، وأراد بعض طلاب الدنيا ممن كانوا مع نور الدين الاستعانة بالإسماعيليين في محاولة أخرى لاغتيال صلاح الدين رحمه الله، وأوشكت المؤامرة على النجاح لولا أن الله قدر انكشافها، ففشلت بعد أن جرح صلاح الدين في تلك المؤامرة.

استطاع صلاح الدين أن يوحد بلاد الشام تحت قيادته، وكان مع ذلك لا يخوض معارك مع بعض الطامعين في الإمارة من المسلمين لاستبقاء الدم الإسلامي -يبقى دم المسلم لحرب النصارى- وحاول الإسماعيليون مرة أخرى قتل صلاح الدين عام (570-571هـ) بالاندساس في جيشه حتى وصلوا إلى خيمته، حتى أن أحد هؤلاء الباطنيين وصل إلى خيمة صلاح الدين وفي يده سكينٌ مشفرة، ولكن الله قيض من الحراس من قتله، وأُحبطت اغتيال صلاح الدين وهو يحاصر قلعة أعزاز بـحلب؛ وهذا دليل على أن الباطنيين المنافقين الذين يزعمون الإسلام، خطرٌ على المسلمين في كل زمان ومكان، ويجب كشفهم والقضاء عليهم، وما ضُرب الإسلام منذ خلافة عثمان بن عفان رحمه الله حتى هذه الأيام بمثل ما ضرب من الباطنيين ابتداءً بـعبد الله بن سبأ وانتهاءً بهم الآن، وهم يدبرون المؤامرات تلو المؤامرات للقضاء على أهل السنة.

قام صلاح الدين رحمه الله بتأديبهم، وكان من طرق صلاح الدين في مواجهة بعض الأمراء من المسلمين الطامعين في السلطة أن يقول: من جاءني راضياً سلمت له بلاده على أن يكون من جنودي في جهاد الصليبيين، فكان من الواضح أن الرجل لا يريد الدنيا، ولا يريد الملك لنفسه، وإنما يريد أن يوحد المسلمين لحرب النصارى.

ومع الأسف! فإن بعض الطامعين في الدنيا من المسلمين قاموا بعقد المعاهدات مع النصارى، وبعضهم دفع عشرة آلاف دينار سنوياً للنصارى وسلمهم بعض ثغور المسلمين، وأطلق بعض أسرى النصارى مقابل الاستعانة بالنصارى في حرب صلاح الدين ، وهكذا يفعل حب الدنيا الأفاعيل، وعندما لا يكون الولاء والبراء الصحيح متمكناً من قلب المسلم، فإنه يفقد توازنه، فمثل هؤلاء الناس لم يكن الولاء والبراء متحققاً في نفوسهم، فصاروا يوالون الكفار ويعادون المسلمين، والولاء والبراء من أساسيات العقيدة، لا يمكن لمسلم أن يجاهد دون أن يتمكن الولاء والبراء من قلبه، ولا يمكن أن يحقق الإيمان بدون أن يتمكن الولاء والبراء من قلبه.

مكث صلاح الدين الأيوبي تسع سنوات من عام (570 - 579هـ) من أجل توحيد بلاد المسلمين، حتى ضم مصر والشام وإقليم الجزيرة وأخضع الموصل ليصبح أقوى ملوك الشرق قاطبة.

وأما تجديد صلاح الدين في الجهاد فلم يكن رجلاً يخلط خلط عشواء، وإنما كان رحمه الله يعلم عظم المهمة التي انتدب نفسه لأجلها، ويعلم بأن هؤلاء النصارى ليسوا من السهولة أبداً، ولذلك أنت عندما تدقق في إصلاحات صلاح الدين في الجهاد، تعلم علم اليقين أن الرجل كان يعد العدة المكافئة للكفرة، وكان يطبق قول الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].

ولذلك فإنك لتستغرب أشد الاستغراب من تلك العقلية الفذة التي هيأها الله سبحانه وتعالى لترتيب صفوف المسلمين، وتطمئن اطمئناناً فعلياً إلى عناية الله عز وجل بهذه الأمة، وأنت تتأمل وتتمعن في تخطيط صلاح الدين لإعداد الأمة للجهاد، لم يكن الرجل يعد نفسه وأهل بيته فقط ولا المدن التي كانت حوله فقط، كان يعد الأمة الإسلامية قاطبة لحرب الصليبيين.

وابتدأت المسألة من جوانب الاقتصاد، وإعداد السلاح، والجند والجيوش، والدواوين، والأسلحة، والمؤن، والذخائر، والعتاد، والخطط الحربية، وسنأتي على كل شيء بلمحات تبين عظم تلك العقلية التي قيضها الله سبحانه وتعالى.

صلاح الدين وإقطاع الأراضي الزراعية لخدمة الجهاد

جعل صلاح الدين رحمه الله الإقطاعات الزراعية لخدمة الجهاد، وكان يقطع الأراضي الزراعية والقرى للقادة الحربيين، على عادة نور الدين رحمه الله سابقاً، ولكن مع تطويرات إضافية، وكان يأخذ الإقطاع من كل أمير يهمل في واجباته، وكان صلاح الدين يعطي مثلاً: أرضاً زراعية لهذا القائد العسكري ممن معه فيستفيد منها، لا يتملكها هو ولا يورثها لأولاده، يستفيد منها ومن محاصيلها وخيراتها بشروط مقابل الخدمات الحربية.

فمثلاً: لا بد لهذا الأمير الذي أقطعه صلاح الدين هذه الأراضي أن يقدم العساكر في وقت الحرب، وأن ينفق على عساكره، وأن يعدها، وأن يلحق بالسلطان على رأس فرقته الحربية إذا طلب منه ذلك، وأن يرسل العتاد والسلاح والجند، وكذلك على هذا الأمير الذي أقطع هذا الإقطاع أن يراقب تحركات الأعداء، ويقر الأمن الداخلي في الإقطاع الذي أقطعه إياه، وكان لدى صلاح الدين رحمه الله ديوان جيش منظم لضبط الإقطاعات.. فيه أسماء الجند، ومراتبهم، ورواتبهم، ويصدر هذا الديوان إحصائيات دورية فيها أعداد الجند وقدراتهم، وكان هذا الديوان يصرف على العمائر والتحصينات وبناء الأسوار والقلاع، وكان فيه مسئولون يحاسبون أمراء الإقطاعات على تقصيراتهم، ويرفعون بشأنهم إلى صلاح الدين رحمه الله.

صلاح الدين وتطوير السلاح والعتاد

وأما بالنسبة لجانب الأسلحة والمؤن والعتاد، فإنه كان رحمه الله يحرص على إعداد ما يكافئ المهمة، وقد اهتم بقضية السلاح اهتماماً كبيراً حتى طلب من أحد رجاله أن يؤلف له كتاباً حول الموضوع يشمل أنواع السلاح، وطرق صناعتها، وكذا استخدم الأسلحة التي تناسب الغرض المنشود من الأثقال والأحمال من العدد الواقية، والدروع السابغة، والنصال، والخوذ، والنقود، والمنجنيقات العادية والتركية والإفرنجية، وكان لدى صلاح الدين خبراء بالمنجنيقات، وطور المسلمون سلاحاً مهماً جداً من خلال الحروب الصليبية بفضل الله، ثم بدعم صلاح الدين وهو سلاح النفط؛ وسلاح النفط جمع صلاح الدين من أجله النفاطين والزراقين؛ النفاطين: خبراء في هذا النفط، وطوروا سلاحاً وهو خليط من خلطة من الزيوت، والنورة المطفأة وغير المطفأة، والنفط، والصمغ، والكبريت، والخل، وشحوم الحيوانات، ونخالة الحنطة، وهي تخضع لعمليات شبه كيميائية، لها طرق حتى تصبح هذه الخلطة مثل الألغام المتفجرة تقريباً، وكانت هذه الخلطة ترمى من المنجنيقات بواسطة النشاب وعلى ظهور الخيل، وتوضع في قشر البيض بعد إخراج ما في البيضة، فتوضع الخلطة داخل هذه البيضة ويغلق عليها وترمى من أقواس مخصوصة، كما طوروا أنواعاً من سلاح النفط يسير على الماء دون أن ينطفئ ليصطدم بمراكب العدو، ويحرقها ويغرقها في البحر أشبه بالألغام المائية الموجودة الآن.

وساعد الخليفة العباسي الذي أسدى له صلاح الدين خدمات جليلة بإرسال حمولات من النفط ومعهم جماعة من النفاطين وجماعة من الزراقين -خبراء الرمي- النفاطين: خبراء النفط التركيبة، والزراقين: خبراء الرمي، فكان عندهم هذه الزراقات أنابيب خاصة لرمي هذه المواد الملتهبة.

وكان من الأسلحة التي استخدمها صلاح الدين أيضاً: المثلثات والمسدسات؛ والمثلثات: عبارة عن حديدة لها شوكتان تغرس في الأرض وشوكة على ظاهر الأرض، والمسدسات: ثلاث شوكات في الأرض وثلاثة على سطح الأرض، حتى إذا داستها خيول الأعداء نفرت وأوذيت إيذاءً شديداً، وطاحت في الأرض وطرحت من عليها، وكانت ترمى في الطرق التي من المتوقع أن يسلكها الأعداء.

وطور المسلمون كذلك سلاح الدبابات؛ والدبابة كانت عبارة عن بناء من الخشب.. تصميم معين، يغلف بقطع من القماش والستائر المبلولة بالخل، والخشب المضادة للنيران، وكانت تسير على عجلات خشبية، وكان يستتر في داخلها الجند، أو تملأ بالمواد الملتهبة لتدفع دفعاً إلى الأسوار لتدمرها، وكانت تحمي من بداخلها.

وكذلك تستخدم هذه الستائر التي صنعها المسلمون لحماية الأبراج والدبابات والسفن والمنجنيقات، هذا بخلاف السيوف والرماح والتروس والدروع والجنديات التي كان يسير بها مجموعة من الجنود تقيهم ما أمامهم، وكان لدى جنود صلاح الدين مطارق خاصة لتهشيم خوذ الأعداء وضربهم على رءوسهم.

مهارة صلاح الدين في تنظيم الجيش واستحداث أساليب جديدة في الحرب

وأما بالنسبة لتنظيم الجيش، فقد كانت مهمة صلاح الدين كبيرة جداً، وبشكل خاص في تنظيم الجيش، فكان لديه أنواع من الجند:

منهم: العسكر السلطاني المتفرغون تماماً للجهاد؛ الذين يستخدمهم في الإغارة وصنع الكمائن دائماً.

وكان لديه أيضاً نوع آخر وهم: جند الأمراء الذين يستدعون وقت الحرب فقط ويستريحون بعدها ويذهبون إلى أهاليهم وقت الشتاء، وكان لديه أيضاً صنف ثالث: وهم المتطوعة، والقوات المساعدة من العلماء والصلحاء والقضاة والمتحمسين من المسلمين الذين يهبون كلما استدعاهم صلاح الدين.

وكان لديه من أبناء القبائل من يدله على الدروب والمسالك، وكان يدعم جنده بالعناصر الجيدة التي كان ينتخبها من الأقطار الإسلامية المختلفة ويعمد إلى أمراء الإقطاعات أن ينتخبوا له مجموعة كلما أراد أن يدعم جيشه لمعركة مهمة.

وهؤلاء المتطوعة من بين هذه الأصناف هم أشد الناس بلاءً وأحسنهم قتالاً؛ لأنهم لا يأخذون مرتبات، وليست لهم أموال تدفع للجهاد -ليس لهم رواتب- ولذلك كان منهم: العلماء، والقضاة، وكان لوجودهم أثر كبير في تحميس المسلمين؛ بل إنهم شاركوا في اختراع وسائل جديدة، وابتكار طرق مثلما حدث في معركة حطين عندما أثار بعض المتطوعة وقاموا بإشعال النار في مناطق فيها حشائش كثيرة يابسة استغلوا اتجاه الريح التي كانت تسير باتجاه الصليبيين حتى يجتمع عليهم حر هذه الأعشاب المحترقة مع دخانها مع انقضاض المسلمين عليهم.

وعمد صلاح الدين رحمه الله تعالى إلى تجميع أساليب القتال، فكان عنده نظام تعبئة، ونظام اصطفاف، وتنظيم للجيش في داخل الخيام عندما يخيمون، حتى إذا صاح قام أهل الميمنة إلى أماكنهم، وأهل الميسرة إلى أماكنهم، دون أي لخبطة.

وكان لديه حركات استكشاف، وقوات استطلاع، وعلامات بينه وبين الجنود يعرفون بها وقت الانقضاض وبدء الهجوم، وكان لديه قضاء داخل الجيش لفصل الخصومات عند حدوثها بين بعض المسلمين.

وكان لديه مجلس مشورة خاص وعام يرأسه هو، وكان يفتتحه هو ويأخذ بآراء جنوده، وأحياناً يفضل آراء المستشارين على رأيه الخاص، مع أنه كان يرى أحياناً أن رأيه أصوب تأليفاً لقلوبهم، وتطبيقاً لقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] ومن افتتاحياته في مجلس الشورى في شعبان عام (585هـ) في حصار عكا قوله: اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا؛ أجلب بخيله ورجله، وأناخ بكلكله كله، وقد برز بالكفر كله إلى الإسلام كله، وجمع حشده، وحشد جمعه، واستنفذ وسعه، وإن لم يعالج الآن فريقه المضل؛ عظم داؤه، وتعذر غداً لقاؤه.

وكان لديه جواسيس كما فعل في كشف خبر ملك الألمان الذي اخترق معسكره بعض جنود صلاح الدين.

وكان رحمه الله يستخدم الحمام الهادي في نقل الرسائل كما حصل في حرب عكا .

وكان يستخدم الحرب الخاطفة، والكر والفر، ويرسل المسلمين لحصد غلات الصليبيين؛ الصليبيين كان لديهم مزارع، فكان صلاح الدين يرسل جنوداً لحصد غلات الصليبيين والإتيان بها إلى المسلمين.

ويستخدم أساليب التمويه والخداع؛ فيظهر أنه خارجٌ من جهة ويأتي من جهة أخرى.

وكانت لديه غارات، وتخريب لممتلكات، وكمائن، وشن حرب عصابات كما هجم جماعة من المسلمين أثناء حصار عكا عام (585هـ) سوق الخمارات، وسبوا عدداً من النساء الفواجر.

وكان بعض المسلمين يتسللون إلى معسكرات الصليبيين لخطف الجنود.

وكان من سياساته أنه يتفق مع المستأمنين من القادمين من النصارى يطلبون الأمان من صلاح الدين ، يقول لهم: في طريقكم أغيروا على سبل النصارى وسلبها بيني وبينكم، فإذا جاءوا بالسلب أعطاهم كلهم، وكان هذا سبب في إسلام شطر منهم.

وكان رحمه الله يعرف كيف يستدرج العدو إلى المكان المناسب، وكيف يوفر المواد اللازمة لجنوده كالماء والعشب للدواب، ويراعي درجة حرارة الشمس واتجاه أشعة الشمس، كما حصل في معركة حطين .

وكان يتبع طريقة النوبات في حصار حصون الأعداء، ويهتم بتحصين المناطق، وتسوير المدن التي يخشى عليها من الصليبيين، وتجديد آلات الدفاع، ويهتم بحفر الخنادق، وبناء الأبراج، وعمل الجسور.

وأنشأ دوراً خاصة لصناعة الأسطول الإسلامي في مصر بعد أن أحرقه الكفار، وكان يجلب أخشاب الصنوبر والأرز من لبنان والحديد من جبالها من قرب بيروت ، وحصل من إيطاليا عبر اتفاقية عقدها مع الإيطاليين على معاهدات تجارية استطاع أن يأتي من خلالها بأخشاب ومواد يحتاجها لبناء الأسطول الإسلامي، وكان لديه ثمانين سفينة في الأسطول؛ خمسين سفينة لحماية سواحل مصر ، وثلاثين سفينة لحرب الصليبيين في بلاد الشام وحماية الحجاج الذين يأتون عن طريق البحر، ويهتم بتقوية أجهزة الدفاع والحراسة الساحلية في سواحل مصر والشام ، وجعل في دمياط سلسلة لإعاقة دخول العدو في حالة الطوارئ.

وكان يهتم بوضع الخطط لإدخال المؤن إلى الموانئ والأماكن المحاصرة؛ فمن ذلك: الحصار المفاجئ واستخدام القوة لفتح ثغرة في صفوف العدو مثلما حدث في حصار عكا ، أو يدخل المؤن قبل ذلك إلى الأماكن المتوقع حصارها، أو كان يستخدم مهاجمة العدو وإشغاله في طرف حتى يتمكن فريق آخر من إدخال المؤن من الطرف الآخر.

وكان يشن هجوماً برياً لكي يشغل الأعداء عن أسطول المسلمين القادم من مصر بالمؤن والذخائر.

وأعد صلاح الدين في بيروت سفينة كبيرة محملة بالمؤن (400) غرارة من القمح والجبن والميرة والبصل والغنم والنفط، واستخدم المسلمون وسيلة عظيمة لإدخال المؤن إلى ميناء عكا المحاصر، وكانت هذه الخطة: أن المسلمين على ظاهر هذه السفينة المحملة بالمؤن قاموا بما يلي:

علقوا الصلبان في صدورهم، ولبسوا ملابس الفرنج وتزيوا بزيهم، بل إنهم وضعوا الخنازير فوق السفينة بشكل ظاهر، ودخلوا بهذه السفينة وسط سفن النصارى التي تحاصر عكا ، وصاروا يقتربون من مدينة عكا ويعتذرون للنصارى بأن الريح تدفعهم بهذا الاتجاه، والنصارى يظنونهم منهم، حتى دخلت هذه السفينة إلى عكا ، ففرج الله بها عن المسلمين تفريجاً كبيراً.

وكان صلاح الدين رحمه الله يهتم باستثارة الناس للجهاد؛ فكان يرسل الرسل والكتب إلى الخليفة العباسي ويطلعه على سير الفتوحات كما حدث في معركة حطين ، وأرسل رسالة إلى البلاد التي لم تكن خاضعة للخلافة العباسية يستنجد بهم، كالتركمان في الشرق، ودولة الموحدين في الغرب، كما استعان بخطباء المساجد بالدعاء لجيشه بالنصر، وحث الناس على الجهاد.

وكان حريصاً على شن المعارك يوم الجمعة في التوقيت التي تقام صلاة الجمعة؛ تبركاً بدعوة الخطباء على المنابر.

وكان يستعين بالقضاة والفقهاء لتأليب الناس على الجهاد، وفي ساحات المعارك، وفي المدن التي كان يفتحها.

وكان يسير بين صفوف الجيش بنفسه يحثهم على الجهاد، وينادي: يا للإسلام، كما حدث في حصار عكا ، وكان من ضمن فقرات الرسالة التي أرسلها إلى ملك المغرب المسلم من الموحدين يقول له: لا ترضى أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الإسلام الإسلام.

يقول له: هؤلاء الكفار يعينون بعضهم، أنت لا ترضى بذلك، ألا ترضى أن يعين المسلمون المسلمين؟!!

هذه نبذة عن التجهيزات التي قام بها صلاح الدين لمحاربة النصارى، ومنها نعلم أن صلاح الدين رحمه الله ما قام على الحماس الفارغ أبداً، ولا دخل في المعارك دون أن يعد العدة، ولا ألقى بأبناء المسلمين غنيمة سهلة للكفار أبداً، رجل يعرف حجم المهمة، بل إنه لم يبدأ بحرب النصارى حرباً جدية إلا بعد أن وحد بلاد المسلمين؛ وصلاح الدين يعلم تماماً أنه بدون توحيد المسلمين لا يتمكن من حرب النصارى، بل إنه تعلَّم درساً من معركة هزم فيها أمام النصارى قبل أن يستكمل توحيد بلاد المسلمين، تعلم من ذلك أنه لا بد من استكمال عملية التوحيد؛ وهذا درس عظيم ينبغي أن يهتم به المسلمون في هذا الزمان، وبالذات طائفة الشباب المتحمسين الذين يظنون أن المهم هو إلقاء النفس إلى العدو فقط، وأن الله ينصر المسلمين بأي شيء، ولا يتمعنون في قول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] ليعلم أولئك المتحمسون أن النصر لا يأتي بهذه السهولة، وأن أخذ العدة العسكرية والمعنوية بعد تهيئة الناس عموماً للجهاد، تريد أن تجاهد بنفر من المتحمسين للجهاد الذين تتوق أنفسهم للجنة، وهناك أعداد كبيرة جداً من المسلمين ركنوا إلى الدنيا ولم يعبأ الناس للجهاد، كيف ستقوم بهذه المهمة؟!

ولذلك فإننا مع تحرقنا للجهاد في سبيل الله، وتشوقنا لجنة عرضها السماوات والأرض إن شاء الله، وتوطيننا العزم لهذا اليوم الموعود، فإننا أبداً لا يمكن أن ننساق وراء الحماس الفارغ دون إعداد العدة وتجهيز الأمة، ولا بد من التربية الواعية، ولا بد من قيام المصلحين، والعلماء، والدعاة، والخطباء، والمدرسين كلٌ في مكانه، وكلٌ في ثغرته، بشحذ همم الأمة وإعدادها للجهاد، وليس فقط الإعداد الحماسي بالخطب والكتب والتآليف والكلمات الرنانة، بل بإعداد العدة العسكرية حقيقة لأجل الوصول إلى هذا الهدف، وليس المهم أن يحدث طفرة في مكان واحد من الأمكنة فقط! كلا.

وإنني أقول بهذه المناسبة أيها الإخوة: إن الله عز وجل إذا علم من المسلمين صدقاً وإخلاصاً، فإنه يوفقهم وينصرهم.

وكم كانت رءوس المسلمين مطأطئةً فما رفعت إلا بعد الجهاد الأفغاني، الجهاد هو الذي يحيي في الأمة الروح ويبعثها بعثاً جديداً، الجهاد هو الذي يوقظ الطاقات كما سيمر معنا بعد قليل.

جعل صلاح الدين رحمه الله الإقطاعات الزراعية لخدمة الجهاد، وكان يقطع الأراضي الزراعية والقرى للقادة الحربيين، على عادة نور الدين رحمه الله سابقاً، ولكن مع تطويرات إضافية، وكان يأخذ الإقطاع من كل أمير يهمل في واجباته، وكان صلاح الدين يعطي مثلاً: أرضاً زراعية لهذا القائد العسكري ممن معه فيستفيد منها، لا يتملكها هو ولا يورثها لأولاده، يستفيد منها ومن محاصيلها وخيراتها بشروط مقابل الخدمات الحربية.

فمثلاً: لا بد لهذا الأمير الذي أقطعه صلاح الدين هذه الأراضي أن يقدم العساكر في وقت الحرب، وأن ينفق على عساكره، وأن يعدها، وأن يلحق بالسلطان على رأس فرقته الحربية إذا طلب منه ذلك، وأن يرسل العتاد والسلاح والجند، وكذلك على هذا الأمير الذي أقطع هذا الإقطاع أن يراقب تحركات الأعداء، ويقر الأمن الداخلي في الإقطاع الذي أقطعه إياه، وكان لدى صلاح الدين رحمه الله ديوان جيش منظم لضبط الإقطاعات.. فيه أسماء الجند، ومراتبهم، ورواتبهم، ويصدر هذا الديوان إحصائيات دورية فيها أعداد الجند وقدراتهم، وكان هذا الديوان يصرف على العمائر والتحصينات وبناء الأسوار والقلاع، وكان فيه مسئولون يحاسبون أمراء الإقطاعات على تقصيراتهم، ويرفعون بشأنهم إلى صلاح الدين رحمه الله.

وأما بالنسبة لجانب الأسلحة والمؤن والعتاد، فإنه كان رحمه الله يحرص على إعداد ما يكافئ المهمة، وقد اهتم بقضية السلاح اهتماماً كبيراً حتى طلب من أحد رجاله أن يؤلف له كتاباً حول الموضوع يشمل أنواع السلاح، وطرق صناعتها، وكذا استخدم الأسلحة التي تناسب الغرض المنشود من الأثقال والأحمال من العدد الواقية، والدروع السابغة، والنصال، والخوذ، والنقود، والمنجنيقات العادية والتركية والإفرنجية، وكان لدى صلاح الدين خبراء بالمنجنيقات، وطور المسلمون سلاحاً مهماً جداً من خلال الحروب الصليبية بفضل الله، ثم بدعم صلاح الدين وهو سلاح النفط؛ وسلاح النفط جمع صلاح الدين من أجله النفاطين والزراقين؛ النفاطين: خبراء في هذا النفط، وطوروا سلاحاً وهو خليط من خلطة من الزيوت، والنورة المطفأة وغير المطفأة، والنفط، والصمغ، والكبريت، والخل، وشحوم الحيوانات، ونخالة الحنطة، وهي تخضع لعمليات شبه كيميائية، لها طرق حتى تصبح هذه الخلطة مثل الألغام المتفجرة تقريباً، وكانت هذه الخلطة ترمى من المنجنيقات بواسطة النشاب وعلى ظهور الخيل، وتوضع في قشر البيض بعد إخراج ما في البيضة، فتوضع الخلطة داخل هذه البيضة ويغلق عليها وترمى من أقواس مخصوصة، كما طوروا أنواعاً من سلاح النفط يسير على الماء دون أن ينطفئ ليصطدم بمراكب العدو، ويحرقها ويغرقها في البحر أشبه بالألغام المائية الموجودة الآن.

وساعد الخليفة العباسي الذي أسدى له صلاح الدين خدمات جليلة بإرسال حمولات من النفط ومعهم جماعة من النفاطين وجماعة من الزراقين -خبراء الرمي- النفاطين: خبراء النفط التركيبة، والزراقين: خبراء الرمي، فكان عندهم هذه الزراقات أنابيب خاصة لرمي هذه المواد الملتهبة.

وكان من الأسلحة التي استخدمها صلاح الدين أيضاً: المثلثات والمسدسات؛ والمثلثات: عبارة عن حديدة لها شوكتان تغرس في الأرض وشوكة على ظاهر الأرض، والمسدسات: ثلاث شوكات في الأرض وثلاثة على سطح الأرض، حتى إذا داستها خيول الأعداء نفرت وأوذيت إيذاءً شديداً، وطاحت في الأرض وطرحت من عليها، وكانت ترمى في الطرق التي من المتوقع أن يسلكها الأعداء.

وطور المسلمون كذلك سلاح الدبابات؛ والدبابة كانت عبارة عن بناء من الخشب.. تصميم معين، يغلف بقطع من القماش والستائر المبلولة بالخل، والخشب المضادة للنيران، وكانت تسير على عجلات خشبية، وكان يستتر في داخلها الجند، أو تملأ بالمواد الملتهبة لتدفع دفعاً إلى الأسوار لتدمرها، وكانت تحمي من بداخلها.

وكذلك تستخدم هذه الستائر التي صنعها المسلمون لحماية الأبراج والدبابات والسفن والمنجنيقات، هذا بخلاف السيوف والرماح والتروس والدروع والجنديات التي كان يسير بها مجموعة من الجنود تقيهم ما أمامهم، وكان لدى جنود صلاح الدين مطارق خاصة لتهشيم خوذ الأعداء وضربهم على رءوسهم.

وأما بالنسبة لتنظيم الجيش، فقد كانت مهمة صلاح الدين كبيرة جداً، وبشكل خاص في تنظيم الجيش، فكان لديه أنواع من الجند:

منهم: العسكر السلطاني المتفرغون تماماً للجهاد؛ الذين يستخدمهم في الإغارة وصنع الكمائن دائماً.

وكان لديه أيضاً نوع آخر وهم: جند الأمراء الذين يستدعون وقت الحرب فقط ويستريحون بعدها ويذهبون إلى أهاليهم وقت الشتاء، وكان لديه أيضاً صنف ثالث: وهم المتطوعة، والقوات المساعدة من العلماء والصلحاء والقضاة والمتحمسين من المسلمين الذين يهبون كلما استدعاهم صلاح الدين.

وكان لديه من أبناء القبائل من يدله على الدروب والمسالك، وكان يدعم جنده بالعناصر الجيدة التي كان ينتخبها من الأقطار الإسلامية المختلفة ويعمد إلى أمراء الإقطاعات أن ينتخبوا له مجموعة كلما أراد أن يدعم جيشه لمعركة مهمة.

وهؤلاء المتطوعة من بين هذه الأصناف هم أشد الناس بلاءً وأحسنهم قتالاً؛ لأنهم لا يأخذون مرتبات، وليست لهم أموال تدفع للجهاد -ليس لهم رواتب- ولذلك كان منهم: العلماء، والقضاة، وكان لوجودهم أثر كبير في تحميس المسلمين؛ بل إنهم شاركوا في اختراع وسائل جديدة، وابتكار طرق مثلما حدث في معركة حطين عندما أثار بعض المتطوعة وقاموا بإشعال النار في مناطق فيها حشائش كثيرة يابسة استغلوا اتجاه الريح التي كانت تسير باتجاه الصليبيين حتى يجتمع عليهم حر هذه الأعشاب المحترقة مع دخانها مع انقضاض المسلمين عليهم.

وعمد صلاح الدين رحمه الله تعالى إلى تجميع أساليب القتال، فكان عنده نظام تعبئة، ونظام اصطفاف، وتنظيم للجيش في داخل الخيام عندما يخيمون، حتى إذا صاح قام أهل الميمنة إلى أماكنهم، وأهل الميسرة إلى أماكنهم، دون أي لخبطة.

وكان لديه حركات استكشاف، وقوات استطلاع، وعلامات بينه وبين الجنود يعرفون بها وقت الانقضاض وبدء الهجوم، وكان لديه قضاء داخل الجيش لفصل الخصومات عند حدوثها بين بعض المسلمين.

وكان لديه مجلس مشورة خاص وعام يرأسه هو، وكان يفتتحه هو ويأخذ بآراء جنوده، وأحياناً يفضل آراء المستشارين على رأيه الخاص، مع أنه كان يرى أحياناً أن رأيه أصوب تأليفاً لقلوبهم، وتطبيقاً لقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] ومن افتتاحياته في مجلس الشورى في شعبان عام (585هـ) في حصار عكا قوله: اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا؛ أجلب بخيله ورجله، وأناخ بكلكله كله، وقد برز بالكفر كله إلى الإسلام كله، وجمع حشده، وحشد جمعه، واستنفذ وسعه، وإن لم يعالج الآن فريقه المضل؛ عظم داؤه، وتعذر غداً لقاؤه.

وكان لديه جواسيس كما فعل في كشف خبر ملك الألمان الذي اخترق معسكره بعض جنود صلاح الدين.

وكان رحمه الله يستخدم الحمام الهادي في نقل الرسائل كما حصل في حرب عكا .

وكان يستخدم الحرب الخاطفة، والكر والفر، ويرسل المسلمين لحصد غلات الصليبيين؛ الصليبيين كان لديهم مزارع، فكان صلاح الدين يرسل جنوداً لحصد غلات الصليبيين والإتيان بها إلى المسلمين.

ويستخدم أساليب التمويه والخداع؛ فيظهر أنه خارجٌ من جهة ويأتي من جهة أخرى.

وكانت لديه غارات، وتخريب لممتلكات، وكمائن، وشن حرب عصابات كما هجم جماعة من المسلمين أثناء حصار عكا عام (585هـ) سوق الخمارات، وسبوا عدداً من النساء الفواجر.

وكان بعض المسلمين يتسللون إلى معسكرات الصليبيين لخطف الجنود.

وكان من سياساته أنه يتفق مع المستأمنين من القادمين من النصارى يطلبون الأمان من صلاح الدين ، يقول لهم: في طريقكم أغيروا على سبل النصارى وسلبها بيني وبينكم، فإذا جاءوا بالسلب أعطاهم كلهم، وكان هذا سبب في إسلام شطر منهم.

وكان رحمه الله يعرف كيف يستدرج العدو إلى المكان المناسب، وكيف يوفر المواد اللازمة لجنوده كالماء والعشب للدواب، ويراعي درجة حرارة الشمس واتجاه أشعة الشمس، كما حصل في معركة حطين .

وكان يتبع طريقة النوبات في حصار حصون الأعداء، ويهتم بتحصين المناطق، وتسوير المدن التي يخشى عليها من الصليبيين، وتجديد آلات الدفاع، ويهتم بحفر الخنادق، وبناء الأبراج، وعمل الجسور.

وأنشأ دوراً خاصة لصناعة الأسطول الإسلامي في مصر بعد أن أحرقه الكفار، وكان يجلب أخشاب الصنوبر والأرز من لبنان والحديد من جبالها من قرب بيروت ، وحصل من إيطاليا عبر اتفاقية عقدها مع الإيطاليين على معاهدات تجارية استطاع أن يأتي من خلالها بأخشاب ومواد يحتاجها لبناء الأسطول الإسلامي، وكان لديه ثمانين سفينة في الأسطول؛ خمسين سفينة لحماية سواحل مصر ، وثلاثين سفينة لحرب الصليبيين في بلاد الشام وحماية الحجاج الذين يأتون عن طريق البحر، ويهتم بتقوية أجهزة الدفاع والحراسة الساحلية في سواحل مصر والشام ، وجعل في دمياط سلسلة لإعاقة دخول العدو في حالة الطوارئ.

وكان يهتم بوضع الخطط لإدخال المؤن إلى الموانئ والأماكن المحاصرة؛ فمن ذلك: الحصار المفاجئ واستخدام القوة لفتح ثغرة في صفوف العدو مثلما حدث في حصار عكا ، أو يدخل المؤن قبل ذلك إلى الأماكن المتوقع حصارها، أو كان يستخدم مهاجمة العدو وإشغاله في طرف حتى يتمكن فريق آخر من إدخال المؤن من الطرف الآخر.

وكان يشن هجوماً برياً لكي يشغل الأعداء عن أسطول المسلمين القادم من مصر بالمؤن والذخائر.

وأعد صلاح الدين في بيروت سفينة كبيرة محملة بالمؤن (400) غرارة من القمح والجبن والميرة والبصل والغنم والنفط، واستخدم المسلمون وسيلة عظيمة لإدخال المؤن إلى ميناء عكا المحاصر، وكانت هذه الخطة: أن المسلمين على ظاهر هذه السفينة المحملة بالمؤن قاموا بما يلي:

علقوا الصلبان في صدورهم، ولبسوا ملابس الفرنج وتزيوا بزيهم، بل إنهم وضعوا الخنازير فوق السفينة بشكل ظاهر، ودخلوا بهذه السفينة وسط سفن النصارى التي تحاصر عكا ، وصاروا يقتربون من مدينة عكا ويعتذرون للنصارى بأن الريح تدفعهم بهذا الاتجاه، والنصارى يظنونهم منهم، حتى دخلت هذه السفينة إلى عكا ، ففرج الله بها عن المسلمين تفريجاً كبيراً.

وكان صلاح الدين رحمه الله يهتم باستثارة الناس للجهاد؛ فكان يرسل الرسل والكتب إلى الخليفة العباسي ويطلعه على سير الفتوحات كما حدث في معركة حطين ، وأرسل رسالة إلى البلاد التي لم تكن خاضعة للخلافة العباسية يستنجد بهم، كالتركمان في الشرق، ودولة الموحدين في الغرب، كما استعان بخطباء المساجد بالدعاء لجيشه بالنصر، وحث الناس على الجهاد.

وكان حريصاً على شن المعارك يوم الجمعة في التوقيت التي تقام صلاة الجمعة؛ تبركاً بدعوة الخطباء على المنابر.

وكان يستعين بالقضاة والفقهاء لتأليب الناس على الجهاد، وفي ساحات المعارك، وفي المدن التي كان يفتحها.

وكان يسير بين صفوف الجيش بنفسه يحثهم على الجهاد، وينادي: يا للإسلام، كما حدث في حصار عكا ، وكان من ضمن فقرات الرسالة التي أرسلها إلى ملك المغرب المسلم من الموحدين يقول له: لا ترضى أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الإسلام الإسلام.

يقول له: هؤلاء الكفار يعينون بعضهم، أنت لا ترضى بذلك، ألا ترضى أن يعين المسلمون المسلمين؟!!

هذه نبذة عن التجهيزات التي قام بها صلاح الدين لمحاربة النصارى، ومنها نعلم أن صلاح الدين رحمه الله ما قام على الحماس الفارغ أبداً، ولا دخل في المعارك دون أن يعد العدة، ولا ألقى بأبناء المسلمين غنيمة سهلة للكفار أبداً، رجل يعرف حجم المهمة، بل إنه لم يبدأ بحرب النصارى حرباً جدية إلا بعد أن وحد بلاد المسلمين؛ وصلاح الدين يعلم تماماً أنه بدون توحيد المسلمين لا يتمكن من حرب النصارى، بل إنه تعلَّم درساً من معركة هزم فيها أمام النصارى قبل أن يستكمل توحيد بلاد المسلمين، تعلم من ذلك أنه لا بد من استكمال عملية التوحيد؛ وهذا درس عظيم ينبغي أن يهتم به المسلمون في هذا الزمان، وبالذات طائفة الشباب المتحمسين الذين يظنون أن المهم هو إلقاء النفس إلى العدو فقط، وأن الله ينصر المسلمين بأي شيء، ولا يتمعنون في قول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] ليعلم أولئك المتحمسون أن النصر لا يأتي بهذه السهولة، وأن أخذ العدة العسكرية والمعنوية بعد تهيئة الناس عموماً للجهاد، تريد أن تجاهد بنفر من المتحمسين للجهاد الذين تتوق أنفسهم للجنة، وهناك أعداد كبيرة جداً من المسلمين ركنوا إلى الدنيا ولم يعبأ الناس للجهاد، كيف ستقوم بهذه المهمة؟!

ولذلك فإننا مع تحرقنا للجهاد في سبيل الله، وتشوقنا لجنة عرضها السماوات والأرض إن شاء الله، وتوطيننا العزم لهذا اليوم الموعود، فإننا أبداً لا يمكن أن ننساق وراء الحماس الفارغ دون إعداد العدة وتجهيز الأمة، ولا بد من التربية الواعية، ولا بد من قيام المصلحين، والعلماء، والدعاة، والخطباء، والمدرسين كلٌ في مكانه، وكلٌ في ثغرته، بشحذ همم الأمة وإعدادها للجهاد، وليس فقط الإعداد الحماسي بالخطب والكتب والتآليف والكلمات الرنانة، بل بإعداد العدة العسكرية حقيقة لأجل الوصول إلى هذا الهدف، وليس المهم أن يحدث طفرة في مكان واحد من الأمكنة فقط! كلا.

وإنني أقول بهذه المناسبة أيها الإخوة: إن الله عز وجل إذا علم من المسلمين صدقاً وإخلاصاً، فإنه يوفقهم وينصرهم.

وكم كانت رءوس المسلمين مطأطئةً فما رفعت إلا بعد الجهاد الأفغاني، الجهاد هو الذي يحيي في الأمة الروح ويبعثها بعثاً جديداً، الجهاد هو الذي يوقظ الطاقات كما سيمر معنا بعد قليل.