خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/35"> الشيخ محمد صالح المنجد . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/35?sub=16019"> خطب عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مفسدات القلوب
الحلقة مفرغة
الاستطاعة في الحج هي الزاد والراحلة وهي شرط في الحج، كما يجب للمرأة الحاجة أن يرافقها محرم لها، وإذا تركت المحرم فإنها آثمة وحجها مقبول، ومن توفرت له أسباب الحج فإنه يبادر به قبل أن يفجأه الموت، ومن لم تتوفر له شروط الحج وحج فحجه صحيح، وإذا أراد أن يحج نفلاً أو نذراً أو نيابة ولم يكن حج عن نفسه حجة الإسلام فإن حجه حينئذ يكون عن الفريضة أولاً.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان، والحمد لله الذي هيأ لنا هذا اللقاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعله مجلساً من مجالس الذكر الذي تحفه ملائكته، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين تنزل عليهم الرحمة والسكينة وتتغشاهم.
أيها الإخوة: نحمد الله على ما من به من نزول هذه الأمطار ونقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم صيباً نافعاً، اللهم صيباً نافعاً، اللهم صيباً نافعاً، ونتفاءل بنزول هذا المطر، نتفاءل بنزول رحمة الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، ونزول نصره عليهم، ونزول عذابه على الكفرة المشركين، وعلى اليهود والمنافقين وأعداء الدين، وربما سأل بعض الإخوان فقال: لماذا لا نجمع الآن؟ فأقول: الجمع في المطر لكي لا يشق على الناس الإتيان إلى المسجد لصلاة العشاء، وما دمنا نحن الآن في المسجد أصلاً فلعل هذه المشقة لا تكون موجودة بالنسبة للأعم والأغلب والحكم للأعم الأغلب، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقد تكلمنا أيها الإخوة في المرة الماضية عن موضوع إصلاح القلوب، وذكرنا فيه نقطتين أساسيتين، أو ثلاثاً، ولعل من المناسب أن نسمي الموضوع الماضي بعنوان: (المسلم بين الزهد والورع). وأن يكون عنوان هذا الدرس في هذه الليلة، (مفسدات القلوب)، لأننا سنتكلم عن مفسدات القلوب، ولا شك أن الموضوع الماضي وهذا الموضع يدخلان في الإطار العام لموضوع إصلاح القلوب.
أيها الإخوة: إن هذا القلب هو الملك على سائر الأعضاء، وهو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) ولما كان القلب هو الملك والجوارح هي الجنود المؤتمرة بأمره، ولما كان هو المسئول عن الرعية، وهو الراعي والجوارح هي رعيته، لما علم عدو الله إبليس بذلك أجلب على هذا القلب بالوساوس والشهوات، وصار يحاول إفساد قلوب بني آدم بشتى الوسائل التي يستطيعها، وما ذلك إلا أنه قد أخذ على نفسه العهد بأن يفسد من ذرية آدم من يستطيع، والله استثنى خلقاً من خلقه، فقال: "إلا عبادي" هؤلاء العباد ليس لك عليهم سلطان، عباد الله المتقون، وأما الناس الغافلون وأصحاب الشهوات والشبهات، فإن لكل منهم نصيباً من الشيطان، بحسب الضلال الذي أضله به، ولا يمكن أن ينجو الإنسان يوم القيامة إلا إذا جاء بقلب سليم من الشهوات والشبهات، كما قال الله عز وجل: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
كما أن إضلال الشيطان لقلوب العباد على أنواع ومراتب، فإن القلوب أنواع كذلك، بحسب أصحابها، فمن القلوب:
القلب الأول: قلب أسود مرباد كالكوز مجخٍ، قلب أغلف وذلك هو قلب الكافر، لا يدخل إليه النور ولا ينتفع بشيء.
القلب الثاني: قلب منكوس فيه مرض، وهو قلب المنافق.
القلب الثالث: وقلب فيه من النور الإيماني الرحماني ومن شهوات الشيطان والشبهات خلط، فيمده ميزابان، ميزاب النور الإيماني، وميزاب الشهوات والشبهات الشيطانية، فهو لما غلب عليه منهما، فإن كان الأغلب عليه نور الرحمن؛ فإنه ينجو، وإن كان الأغلب عليه مداد الشيطان؛ فإنه يهلك.
القلب الرابع: قلب المخبتين، الذين تخبت قلوبهم لذكر الله وتلين جلودهم لربهم سبحانه وتعالى، وهذا قلب المؤمن الخالص.
وقلوبنا -أيها الإخوة- نحن الضعفاء قلوب فيها الخلط والأمور المختلفة، فيها ما يرضي الله وما لا يرضيه ولذلك فإن المسلم مطالب بتنقية قلبه، وهناك أشياء تُصلح القلب ذكرنا بعضها، ولا يتسع المجال لذكر أمرٍ آخر من الأمور التي تصلح القلب، كالاستطراد في ذكر الله مثلاً، فإنه مما يصلح القلب، والعبادات على تنوعها تُصلح القلب، وهكذا من أنواع الخوف والرجاء والمحبة، والمحاسبة، والمراقبة والطمأنينة، والحياء والمراتب الأخرى التي هي أخلاق القلوب وسنذكر في هذا الليلة بعضاً من المفسدات؛ لأن اجتناب المفسدات من أعظم وسائل إصلاح القلوب، فإن المسألة جلب مصالح ودرء مفاسد.
من مفسدات القلب -أيها الإخوة- خمسة مفسدات مرتبطة ببعضها البعض، وهي كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، وكثرة النوم، وسنضيف إليها موضوع الذنوب، والخواطر السيئة، وحب الرئاسة والرياء، إذا أسعفنا الوقت.
كثرة الاختلاط بالناس
إني لأعلم أن دين محمد من خير أديان البرية دينا |
لو لا الملامة أو حذار مسبـة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا |
فـأبو طالب يعلم بأن دين محمد صلى الله عليه وسلم خير أديان البرية ديناً، لكن يمنعه عن قول لا إله إلا الله، الملامة أو حذار مسبة، أن يلومه قومه، أو يسبوه بعد موته، ويقولون: مات على غير ملة آبائه وأجداده، فهذه الخلطة الشنيعة سببت هذا الوبال الذي حل بـأبي طالب ، ألم يقل الله عن أناس من أهل النار يعتذرون فيقولون: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128] فيقال لهم: النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام:128]
وهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، كما قال الله عز وجل: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25].
اجتماع الناس في مودة على شيء لا يرضي الله، سيكفر بعضهم ببعض يوم القيامة على هذا الاجتماع الذي اجتمعوا عليه، وكثير من الناس الآن يلتقون على مودة، لكن أي مودة؟ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [العنكبوت:25] اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، التقوا مودة، لكنها مودة شركية كفرية، مودة معاصٍ، وأهواء وشهوات، هذه الذي اجتمعوا عليها ففي يوم القيامة سيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، فهذه الخلطة المحرمة، وهذه الخلطة بقرناء السوء هي التي ستردي صاحبها في نار جهنم، فيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين.
فإن قال قائل هل الخلطة أصلاً محرمة؟ وهل الإنسان مطالب أن يعيش وحدانياً ليس له صاحب ولا صديق؟ فنقول: أبداً ليس الأمر كذلك، فإن الإنسان خلق اجتماعياً بطبعه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً [النحل:72] لتسكنوا إليها، وجعل الناس ذوي أشكال أو أرواح فيها تجاذب وفيها تنافر والناس يميل بعضهم إلى بعض، ويرتاح بعضهم إلى بعض، أقسام وجماعات وشيع، لكن لا بد أن نقول: إن الخلطة منها ما هو شرعي، مثل ما خاطب الله المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136] والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة) معناه: أن المسلم مطالب أن يكون في جماعة، إذا لم يكن في جماعة يشذ ومن شذ، شذ في النار.
وإذا لم يكن في جماعة فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية؛ لأن الجماعة هي التي تقويه وتشد أزره وتغذي وريد إيمانه، وهي التي تشجعه، فيتقوى بعضهم ببعض، وتنعقد أواصر الأخوة في الله، إذاً: الجماعة الصالحة مطلوب من المسلم أن يختلط بها، ومطلوب من المسلم أن ينضوي تحت لوائها، ومطلوب من المسلم أن يكون فرداً من أفرادها، المجموعة الصالحة والرفقة الطيبة، لا بد من الاختلاط بها، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة، فلا يمكن للإنسان أن يقول: إننا من أجل إصلاح القلوب ينبغي أن نعيش منفردين ولا نخالط الناس، لكن أين الخطأ وأين الخطر؟
الجواب: الخطر في مخالطة أهل السوء، والاجتماع بقرناء السوء، وهذه الوحشة التي تحصل من امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، الذين دائماً يسيرون على الخطأ ولا يتوبون إلى الله ولا يرجعون، هؤلاء أنفاسهم دخان ينعقد في القلب، فيعلون القلب من هذا النتن، ومن هذا الران، مالا يعلمه إلا الله.
فإن قال قائل: أعطنا ضابطاً يضبط لنا الأمور في الاختلاط الجيد والاختلاط الرديء فنقول: إذا خالطت الناس في الخير، كالجمعة والجماعات، والأعياد والحج، وتعلم العلم والجهاد في سبيل الله والنصيحة، فهذا اختلاط محمود بل هو مطلوب شرعاً، وينبغي عليك أن تفعل ذلك، وأن تعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإذا رأيتهم على لهو ولعب ومعاصٍ وفسوق، فلا يجوز لك أن تختلط بهم.
وإن قال قائل: إن الأوضاع اليوم لا تيسر لنا اجتماعاً دائماً على الخير، فإنني موظف في شركة، وطالب في مدرسة، وعضو في جامعة، وهذه الشركة، أو المدرسة، أو الجامعة، لا بد أن أذهب إليها، بحكم الدراسة والدوام، ولا بد أن أختلط بالطلبة والموظفين والناس الذين في ذلك المحل، وإنني تاجر وأختلط بالزبائن، فكيف أفعل؟ هل أترك هذه الأماكن لأن فيها سوءاً؟ فإن الأسواق فيها سوء، وكثير من المدارس قد يكون فيها سوء، والشركات فيها سوء، فهل أترك الخلطة في عملي في المستشفى أو الدائرة أو الشركة، وما إلى ذلك من أنوع أماكن التجمعات التي يتجمع فيها الناس لكي يعيشوا في وظائف، أو يعيشوا من الوظائف هذه في هذه التجمعات، هل أترك ذلك؟ فنقول: إن الاختلاط هنا أمر صار شبه مفروض عليك، ولا تستطيع أن تترك الاختلاط بهؤلاء الناس، في الشركة أو المستشفى، أو المدرسة، أو الجامعة أو السوق، فإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم، ولم يمكنك اعتزالهم وهم يفعلون أموراً من الشر؛ لأنك لن تعدم أحداً يدخن أو يغتاب أو يلعب الألعاب المحرمة، أو يأتي بمنكرات في المجلس الذي أنت فيه سواء في الشركة، أو الجامعة أو السوق أو المستشفى، أو المكان الذي أنت موجود فيه، ولا يمكن أن نقول للناس: عطلوا المستشفيات؛ لأن فيها اختلاطاً، وغادروا الشركات؛ لأن فيها مدراء سوء، واتركوا الجامعات؛ لأن فيها شللاً منحرفة، بل نحن مطالبون بالإصلاح ومطالبون بأن يكون لنا دور عملي نغير به الواقع، فيكون واقعاً يرضي الله عز وجل، فأنت طبيب في المستشفى، فلا بد أن تغير الواقع وتسعى في تغييره ليكون مرضياً لله، فتقاوم الاختلاط والسفور والخلوة المحرمة، وأنت طالب في المدرسة ينبغي أن تدافع المنكرات وتغير الواقع، وتقاوم قرناء السوء، وتقاوم الصورة المحرمة، والفلم المحرم الذي قد يجلب، والألعاب المحرمة، والنكت والطرائف المحرمة، وأنت في السوق ينبغي أن تقاوم البيوع المحرمة والتعامل الحرام مع الزبائن، والتحدث مع النساء مع تكسرهن في الكلام، ودعوتهن بالشهوات والمظاهر التي تجلب الشقاء للنفس، إذاً: نحن مهمتنا المدافعة وتغيير المنكر إلى ما يرضي الله عز وجل.
فإذا دعتنا الظروف لأن نكون مختلطين في هذا الواقع فماذا نفعل؟ لأن الواقع هذا قد يفسد القلب أو يقسيه، إنهم أناس لا يتورعون عن فعل الشر، وفي نفس الوقت لا يمكن أن نتركهم، ولا بد أن نختلط بهم في حكم عملنا، وهذا مجال كسب ووظيفة، ولا بد أن نكون فيه فما هو الحل؟
فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم وهم على أمور من المنكرات والشر، ولا يمكنك اعتزالهم أبداً -لأنه قد يمكن اعتزالهم في الشر- وإذا جاء وقت المباحات أو الخير اختلطت بهم، لكن إذا لم يمكن، فالحذر الحذر أن توافقهم على منكرهم وشرورهم، وأن تصبر على أذاهم، لأنك ستدعو وتواجه بأنواع من الأذى؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلقى أذى، فإذا لم يجد الأذى معناه أن في سيره خطأ، إما أنه يداهن أو شيء من هذا القبيل، وإذا لم يجد في إنكاره أذى أبداً، فمعنى أن في إنكاره خطأ، طبعاً لا يشترط أن يكون الأذى كل مرة، فقد يجد قلباً متفتحاً وأذناً سامعة، وإنساناً مستجيباً ويثني عليه، فلا يشترط أن يجد الأذى كل مرة، ولكن في أحوال كثيرة، أو في بعض الأحيان، لا بد أن يجد شيئاً من الأذى، فالحذر أن توافقهم، واصبر على أذاهم.
وإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، في أشياء من المباحات، فاجتهد أن تقلب ذلك المجلس طاعة لله، وأن تشجع نفسك على هذا الأمر وأن لا تستجيب للشيطان إذا قال لك هذا رياء، وأنت تريد أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر وأن تفتح مواضيع إسلامية، أنت مراءٍ، أنت تريد أن تبرز بينهم، على أنك أنت الشيخ وأنت الواعظ المذكر، وهذا رياء فلا تستجب للشيطان، وادع وذكّر: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]واستعن بالله عليهم، وأخلص في عملك، فإن أعجزتك المقادير فلم تستطع أن تغير أو أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر، فماذا تفعل؟ قال: ابن القيم رحمه الله فيمن هذا شأنه: "فليسل قلبه من بينهم، سل الشعرة من العجين وليكن فيهم حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، نائماً يقظاً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، وما أصعب هذا، وما أشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه".
أحياناً يضطر الإنسان أن يجلس في مجلس أو في مكان لا يمكن أن يتحول عنه يميناً أو يساراً ويعتزل هؤلاء الناس، فينبغي له أن يحاول، فإذا لم يستطع ولم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
مثلاً: نفرض أن فتاة ملتزمة بدينها، تعيش في بيت فيه معاصٍ ومنكرات، أقل ما فيها يرفعون صوت الموسيقى والأغاني في البيت، ماذا تفعل؟ هل تستطيع أن تعتزل البيت وتسكن في الشارع، أو في بيت آخر؟ ماذا تفعل وهي إنسانة مغلوبة على أمرها لا حول لها ولا قوة؟ في هذه الحال مثلاً لا يمكن أن تعتزلهم، لا يوجد مكان في البيت لا يصل إليها أذاهم فيه، فماذا تفعل؟ عند ذلك تطبق هذا الكلام النفيس: فليسل قلبه من بينهم سل الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضراً غائباً، حاضراً بجسده غائباً بقلبه، قريباً بعيداً، قريباً بجسده، بعيداً عنهم في ذكره لله عن هذه الأمور الشيطانية، نائماً يقظاً، نائماً عما هم فيه من المنكرات، لا يحس بها، يقظاً بذكر الله، ويلهج لسانه وقلبه بذكر الله، ينظر إليهم ولا يبصرهم، يراهم بعينه، لكن لا يبصرهم بقلبه؛ لأن قلبه في مكان آخر، ويسمع كلامهم ولا يعيها وقد يغنون ويغتابون، فإذا نهاهم ولم يجد فائدة، فيجلس يسمع الكلام لكن لا يعيه؛ لأنه لا يركز فيه الآن وينسجم معه وينساق مع الألحان، لكن لا يعي لأن قلبه في مكان آخر وهو لا يعي كلامهم؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم، وألقى به إلى الملأ الأعلى وما أصعب هذا وأشقه على النفوس وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه. هذا بالنسبة لأمر من مفسدات القلب وهو الخلطة المحرمة، وذكرنا الخلطة الشرعية، وذكرنا ماذا تفعل في حالة الضرورة، إذا اضطررت بالاختلاط بأناس من أصحاب المنكرات ولم يمكنك التغيير، ولا الاعتزال.
التمني
يعلق النفس بالأماني، ويقول: سيغفر الله لي، أليس الله بغفور رحيم! فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة تتلاعب براكب بحر التمني، وكل حسب حاجته، فمنهم من يعتمد على رحمة الله ويعصي ويحلم بالأماني، ويحلم بجنة عرضها السماوات والأرض، ولكن لا يفكر في أنها أعدت للمتقين، هؤلاء المتكلون على رحمة الله، مما ضيعهم مسألة مهمة جداً ما هي؟
إذا تأملت حالهم وجدتهم ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، هذه عبارة مهمة جداً، ذكرها علماؤنا، "ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم"، هؤلاء أصحاب الأماني، ما هي مشكلتهم ومصيبتهم؟ إنهم ينظرون في حقهم على الله، فيقولون: لا بد أن الله يغفر لنا، فنحن موحدون، ونحن مسلمون، قلنا: لا إله إلا الله، أليس من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ أليـس؟ أليس؟ أكيد أن الله سيغفر لنا، فينظرون في حقهم على الله، والآن كل تفكيرهم وجل همهم ماذا سيفعل الله لهم من أنواع النعيم المقيم وجنات النعيم، ولكنهم لا يفكرون في حق الله عليهم، لو فكروا في حق الله عليهم وأنهم ينبغي أن يعبدوه وأن يصلحوا شأنهم معه؛ لعرفوا تقصيرهم، ولعرفوا أنهم مهما قدموا من الصالحات فلا يزالون مقصرين، إلا إذا تداركهم الله برحمته، و(لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فإذاً: هذا التمني من الدواهي التي تصيب القلب فتهلكه؛ لأن الإنسان لا يزال في أحلام وتخيلات، في أنواع الجزاء الذي سيأخذه يوم القيامة، وهو قد نأى بنفسه عن التفكير في حق الله عليه.
ومن الناس من يجعل تمنياته في القدرة والسلطان، فيحلم وينظر إلى المستقبل أو ينظر إلى نفسه، يتمنى أن يكون أميراً أو كبيراً أو وزيراً أو رئيساً أو زعيماً، أو مديراً أو نائب مدير، أو نائب المدير العام .. ونحو ذلك من الأشياء.
ومنهم من أمانيه في الضرب في الأرض والتطواف في البلدان، في السياحات، ورؤية البلدان والمناظر الخلاّبة ...إلخ.
وهذا أمانيه محصورة بهذا الجانب، ومنهم أناس من أمنياتهم أو أمانيهم في الأموال والأثمان، تاجر وربح وكسب، وتضاعف رأس ماله ولا خسارة تذكر وهكذا وتوسعت الشركات، وفتحت الفروع، وعملت الأعمال، وهكذا.. فهو محصور في عملية الأثمان والأموال والتجارات وكل متمن بحسبه.
ومشكلة التمني أنه يصور الأمر لهذا المتمني أنه قد فاز بمطلوبه؛ لأنه عندما يفكر أنه قد وصل وأنه حصل على هذه الأشياء، وهذا مجرد تفكير وخيالات يرتاح فيها مؤقتاً، ويلتذ لذة وهمية، لأنه لم يحصل له شيء من هذا، وإنما هي أمنيات، فبينما هو على هذه الحال إذا استيقظ فوجد الحصير في يده، ليس عنده إلا الحصير.
فلابد أن نقف وقفة بسيطة، نقول: هل خطأ أن الإنسان يتمنى مالاً، أو غنىً أو جاهاً، هل هذا خطأ في الشرع، نقول: لا. لكن الخطأ ورد في حديث مهم جداً، ذكره عليه الصلاة والسلام: ذكر أربعة من الرجال وذكر أحوالهم، فكان مما قاله في أحد الأحاديث: (ورجل يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان) إنسان غني يعمل صالحات، وينفق أموالاً وزكوات وصدقات وكفالة أيتام ويبني المساجد ويعمل الملاجئ والأوقاف وآخر يقول: لو أن لي مال فلان لعملت بعمله، وكلمة لو أن لي مال فلان، تعتبر تمنياً وهذا هو التمني المحمود؛ لأنه يتمنى لو أن له مال فلان لعمل فيه بعمل فلان، أي لتصدق وزكى وأنفق وبنى المساجد وكفل الأيتام، وتصدق على الفقراء، وأخرج المجاهدين وعمل أوقافاً إلى آخره، وطبع الكتب، ودعم الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، وعمل مراكز ربما في الخارج، وأنفق على دعاة، وجعل رواتب للدعاة لكي يتفرغوا للدعوة، وفكر في أشياء، هذا الإنسان يؤجر على أمنيته، يؤجر على نيته الطيبة، ولو ما عنده مال، يقول عليه الصلاة والسلام: (فهما في الأجر سواء).
وآخر عنده مال عمل فيه بمعصية الله، سافر السفريات المحرمة، وأنفق الأموال على أهل الفواحش، وأرباب الفسق وقرناء السوء، وظلم في هذه المال، وقطع رحماً، ومنع زكاةً ولم يكن من المصلين، ولم يحض على طعام المسكين، ونهر السائل، وقهر اليتيم ... الخ. هذا إنسان آثم ولا شك، وشخص آخر يقول: لو أن لي مال فلان، لعملت بعمله، لو أن لي مال فلان، لركبت السيارات، ولبست الساعة الذهب الفلانية، وسافرت إلى المحلات الفلانية، وعملت الفواحش، وعملت الموبقات، ووضعت في البنك الربوي الفلاني وجاءتني الفوائد الفلانية، إذاً: هذا الإنسان ليس له مال، لكن مجرد الأمنية هذه يأثم عليها، فيقول: عليه الصلاة والسلام: (فهما في الوزر سواء) مع أنه ليس له مال، ولكن تصور حتى تعلم أن القلب يعبد الله أو يعصي الله، يؤجر على ما في القلب ويأثم على ما في القلب، وهذا الإثم من إنسان مريد عاقد النية، لو كان له مال فلان لعمل فيه وهذا غير الخواطر، لأنه قد يقول قائل: إن الإنسان لا يأثم على الخواطر، نقول: نعم. لا يأثم على الخواطر السيئة إذا طردها، جاءت ومرت، لكن هذا عازم، لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، معناها أن هذا الإنسان مصمم على المعصية وعاقد العزم عليها، وقلبه متجه إليها بكليته غير الشخص الذي يعي قول الله: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] فلا تتناقض في النصوص الشرعية.
هل يمكن أن تحجب التمني عن إنسان تقول له أنت يا فلان لا تتمنّ أبداً ولا تتخيل أي شيء؟ لا يمكن؛ لأن التمني شيء من ضروريات التفكير والعقل، ولا بد منه، وكل شخص يتمنى شيئاً ما.
فإذاً: ذكرنا تمنيات أهل الفسق والفجور، فما هي تمنيات أهل الصلاح؟ ذكرنا بعض التمنيات التي تصرف الإنسان عن الله في الأثمان والنسوان والسلطان ... الخ. فما هي تمنيات أصحاب الهمة العالية؟ مثلاً: رجل يتمنى أن يحفظ صحيح البخاري ، أو يحفظ القرآن قبل ذلك، ويتمنى أن يكون قد قرأ كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، ويتمنى أنه قد درس عند الشيخ الفلاني، أو يتمنى أنه كان في روابي أرض الجهاد فيجاهد في سبيل الله، يتمنى الخير ويقول: لو أن لي مالاً لعملت به بعمل فلان من الأتقياء، يتقي فيه ربه، ويخرج حقه، ويصل رحمه. هذا التمني هو الذي ينبغي أن يكون في نفس المؤمن، يتمنى أن يقاتل أعداء الله، يتمنى أن يرفع لواء للجهاد فيكون من أوائل الخارجين في سبيل الله، هذه الأمنيات ينبغي أن تكون موجودة في القلب وهي ليست مهلكة، ولا آثمة، وإنما هي أماني المؤمن، ولكل إنسان أمانيه، فما هي أمنيتك أيها المسلم؟ إن العصاة يتمنون أن يعصوا الله بأموالهم وصاحب الدنيا يتمنى سيارة فارهة، وبيتاً من عدة أدوار، وسلطان، وأهل الآخرة أمنياتهم تختلف عن أهل الفسق تمام الاختلاف.
التعلق بغير الله
أيها الإخوة: التعلق بغير الله له عدة نواحٍ والكلام فيه من عدة فروع، فمن التعلق بغير الله: التعلق بالدنيا، وقد مثله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود تمثيل في قوله عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) هذا الرجل المتعلق بغير الله، فمن الناس من يتعلق بالأموال، فيعمل لها كل همه، فيخرج من الصباح ويسعى ويعمل ويكدح إلى الليل، وربما سهر إلى الساعة الثالثة في الفجر، كما قال بعضهم: امرأة تشتكي زوجها قالت: يخرج الصباح فلا يرجع إلا الساعة الثالثة في الليل، مضيع لزوجته ولأولاده ولبيته ويقول لها: هذه حياتي تريدين العيش أهلاً وسهلاً، لا تريدين هذا الباب مع السلامة.
فهذا الشخص عبد الدينار والدرهم، وجعل همه للدرهم والدينار، إن رضي فللمال، وإن غضب فللمال وإن سخط فللمال، وإن أعطى فللمال، وإن منع فلأجل المال، وهكذا، فجعل هذا الدرهم والدينار هو معبوده من دون الله، وهو إلهه الذي يسعى في مرضاته، والكلام في هذا الموضوع كثير، وسبق أن طرحناه عدة مرات في مجالات أوسع من هذا، ولكن هنا فقط إشارة، وهناك أناس يتعلقون مثلاً بمدير أو رئيس مثلاً، فيجعل هذه الرئيس إلهاً يعبد من دون الله، فيطيعه في معصية الله، ويجعل همه في إرضائه، ويتجنب إسخاطه بكل وسيلة ولو أسخط ربه، ويجعل هذا الرئيس إلهاً يعبد، ويكون هو عنده بمثابة الخادم العبد الذليل الذي يفعل له كل شيء، من أجل أن يرضيه، ولا يفكر في إرضاء ربه سبحانه وتعالى، تعس عبد هذا الرئيس.
ومن الناس من قد يتعلق أو يجعل همه إرضاء زوجته، تعس عبد الزوجة، فلو أمرته بمعصية الله أطاع، وجرته إلى مكان معصية ذهب، وهكذا من الأشياء التي قد يقع فيها بسبب إسلامه القيادة لامرأة فاسقة عاصية.
ومن التعلق بغير الله: العشق، وهذا أمر خطير جداً، قد وقع فيه كثير من الناس في القديم والحديث، وقالوا فيه الأقاويل والأشعار حتى أوضحت لنا مكنونات أولئك الناس، فإذا أردت أن تعرف عذاب العاشق في الدنيا، فإنه إنسان فانٍ في محبة معشوقة، ومع ذلك ربما يقرب منه ويبعد عنه ذاك المعشوق ولا يفي له، ويهجره ويصل عدوه، فمعشوقه قليل الوفاء كثير الجفاء، كثير الشركاء سريع التغير، عظيم الخيانة، لا يدوم له معه وصل، فكيف إذا هجره ونأى عنه بالكلية، فإنه يكون عند ذلك جاءه العذاب الأليم، والسم الناقع، الذي يجعل حياته جحيماً لا تطاق، فالمشكلة تبدأ بالتعلق، أو بالإعجاب، قد يعجب بشخص من الأشخاص، ثم يتزايد هذا الإعجاب فيقوى، حتى يصبح تعلقاً بحيث إنه لا بد له من أن يلقاه في كل وقت، وفي كل حين، وأن يجلس إليه، وينظر إليه، ويسمع كلامه، ثم تتطور الأمور حتى تصبح عشقاً، فيصبح متيماً بهذا الشخص، همه إرضاء هذه الشخص قد غلبت محبته لهذا الشخص محبته لله عز وجل، فلذلك يعبده من دون الله ويستولي على قلبه، ويتمكن منه، فصار العاشق عابداً للمعشوق، يسعى في مرضاته ويؤثره على حب الله، بل يقدم رضاه على رضا الله، وحبه على حب الله، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاة هذا المعشوق ما لا ينفق في مرضاة الله، ويتجنب في سخط هذا المعشوق ما لا يتجنبه من سخط الله، فعند ذلك يكون عبداً له بالكلية، ويكون مشركاً مع الله سبحانه وتعالى.
وتأمل كيف قاد العشق امرأة العزيز إلى أن وقعت في المهاوي وعمدت إلى الفاحشة، وركبت رأسها، وغلقت الأبواب، ودعت يوسف وخانت زوجها، وأودى الأمر إلى أن يتكلم فيها نساء المدينة، ومع ذلك هي مصرة على غوايتها، وتقول: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32].
فإذاً: أودى العشق بهذه المرأة في مهاوٍ، والشرك قرين للعشق، والتوحيد يبعد عن العشق تماماً، ولذلك كافأ الله يوسف بتوحيده لربه فأبعده عن الهلاك والرذيلة، وجعل تلك المرأة بشركها ملومة مذمومة يتكلم الناس عنها، حتى اعترفت بذنبها في النهاية، وبرأت يوسف عليه السلام.
وتكلمنا في محاضرة سابقة عن موضوع العشق لكنه -أيها الإخوة- ولم يجر عادة الكلام فيه، من شاء فليرجع إليه، لكن ينصح في هذا الموضوع بقراءة ما كتبه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ، وكتاب إغاثه اللهفان من مصائد الشيطان ، تكلم عنه في موضع من المجلس الأول وفي المجلد الثاني ربما كان الكلام أكثر في أواخره تقريباً، فموضوع العشق هو نتيجة ضعف الإيمان، والقلوب التي لا يكون فيها إيمان مستقر، فإنه يتطرق إليها العشق، وأنتم أيها الإخوة: لو تأملتم في أكثر كلمات الأغاني لوجدتم أنها تدور على معاني العشق، وكلها صدرت من أشخاص قد جربوا العشق أو عشقوا سواء كان الملحن أو المؤلف أو المغني أو السامع، فإن غالب الكلام إذا تأملت فيه وتبصرت فعلاً بنور الإيمان في كلام هؤلاء المغنين، لوجدته وصفاً لأحوال العشق، وأنه قد عبر أمامه وأن قلبه قد أنشد إليه، وأنه أحسن ما في الدنيا، وأنه إذا أعطاه كلمة واحدة من الثناء، فإن له بالدنيا وما له بالدنيا وما فيها، ولذلك تقرأ حتى في بعض أشعارهم: (لو كانت ليلى في جهة المشرق، وأنا أصلي للغرب؛ لتيممت نحوها في صلاتي، ولو أنه بين الحطيم وزمزم) والكلام كله يدور على معاني العشق، وهذه الأغاني قد دمرت القلوب تدميراً، ولعله يتاح لي الفرصة للكلام على مساوئ الأغاني وترسيخ العشق في قلوب الناس السامعين، لأن بعض الناس يقول: لماذا أنتم تعقدون الأمور جداً، والأغاني ماذا فيها؟! موسيقى وكلمات، لكن صدق -بالله العظيم- أن هذه الكلمات والألحان تجر إلى الشرك بالله عز وجل، وتزين العشق للسامعين وللناس، ومن نتائج سماع الأغاني المتكررة، أن يبدأ هؤلاء السامعون للأغاني في عشق النساء والمردان وعشق الصور الجميلة -طبعاً الأشخاص- المحرمة، وينبني عليها فساد عظيم في الدنيا وفي الآخرة، وينبني عليها ثوران الشهوات وينبني عليها تخريب العلاقة برب العالمين، وينبني عليها فساد العبادات، يقول: إياك نعبد وإياك نستعين، الفاتحة، وقلبه متعلق بامرأة أو شخص وهكذا المسألة تسير في هذه الناحية فيجعل جل همه في إرضاء هذا المعشوق وفي طاعته، وباختصار في عبادته من دون الله.
وينبغي أيها الإخوة: أن نعلم أن العشق قد يرتبط بالمحبة، لأن العشق هو عبارة عن محبة، زادت جداً جداً حتى وصلت إلى مرحلة أنه صار متيماً بهذا الأمر، وبلغ فيه النهاية القصوى، وتخلل قلبه محبة هذا المتعلق به، فينبغي أن نعلم بأن المحبة، نوعان:
النوع الأول: محبة نافعة.
النوع الثاني: محبة محرمة.
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: محبة الله وهي الأساس.
النوع الثاني: المحبة في الله، فنحن نحب الأنبياء لأي شيء ؟ لصورهم وأشكالهم !! لأن الله أرسلهم، لأننا نحب الله، وهؤلاء جاءوا رسلاً من الله، فنحن نحبهم لأنهم جاءوا من محبوبنا الأعظم من الله سبحانه وتعالى الذي نحبه أكثر من كل شيء، أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر.
ثانياً: المحبة في الله.
النوع الثالث: محبة ما يعين على طاعة الله.
والمحبة السيئة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: محبة مع الله، هذا شرك: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] وهذا يقع فيه العاشقون، يقعون في هذا النوع من الشرك وهو المحبة مع الله، فهذا من أحسن أحوال بعضهم، وإلا فإن بعضهم نسي الله عز وجل تماماً، وصار كل همه في محبة المعشوق محبة مع الله.
النوع الثاني: محبة ما يبغضه الله، وهي مذمومة أيضاً.
النوع الثالث: محبة ما يقطع عن الله، إذا كان محبتك لشيء تقطعك عن الله، فمحبتك لهذا الشيء حرام، إذا كان التلفزيون يقطعك عن الله، فمحبتك له حرام، إذا كانت الألعاب -أي لعبة لو كانت مباحة- فلو قال قائل: المحبة مع الله شرك عرفناه، محبة ما يبغضه الله عرفناها، ولو كانت أفلاماً محرمة، أو أغاني إلى آخره عرفنا أنها محرمة وأن محبتها محرمة وأن الله عز وجل يبغضها وأن محبة ما يبغضه الله حرام، لكن ما معنى محبة ما يقطع عن الله؟
يعني: أن هناك أشياء مباحة أصلاً لا يبغضها الله، لكن إذا كانت محبتك لها تقطعك عن الله، فينبغي أن تبغضها، ولا تحب الأشياء التي تقطعك عن الله ولو كانت مباحة مادامت تقطعك عن الله مثلاً: إنسان محبته لزوجته تمنعه من الخروج إلى صلاة الفجر، ما حكم محبة الزوجة؟ مباح، بل شيء طيب، بل لا يمكن أن تستقيم الأسرة إلا إذا أحب الرجل زوجته والعكس، لكن لو أن هذه المحبة صارت إلى درجة أن الرجل من تعلقه بزوجته صار لا يمكن أن يفارقها، لإجابة نداء المؤذن في صلاة الفجر، فماذا يكون الحكم؟ هنا صار الأمر محرماً، لأن هذه المحبة في هذا الأمر قد قطعته عما يحبه الله، فصار تعطيلاً عن العبادة ومنعاً من أدائها، وصار أمراً لا يجوز، وقد أجاب ابن القيم رحمه الله في موضوع العشق في إغاثة اللهفان عن مسألة قال: ما حكم عشق الرجل لزوجته؟ فقال: إنه جائز إلا إذا كان يشغل عن عبادة الله. لا يمانع أن الإنسان يحب زوجته جداً، بشرط ألا يقع في الشرك لكن إذا وصل الأمر إلى أنها توقعه في معصية وتصرفه عن طاعة، فعند ذلك يصبح أمراً محرماً.
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، كان عشقه للصور أوقع وأكثر في نفسه.
كثرة الطعام
الشيء الثاني: أطعمة مباحة، لكن الإنسان أسرف وجاوز الحد في المباح، والمباحات لها حدود فإذا جاوزت الحد في المباح تقع في المحذور، فالإسراف في الحلال في هذه المطعومات يؤدي إلى الشبع المفرط، والشبع المفرط يشغل عن الطاعة، وذلك لأنه يسبب بطنة، ومحالة إزالتها أو الوقاية من أمراضها، فيكون شيئاً مذموماً، ثم إن الشبع التام يقوي الشهوة، ويوسع مجاري الشيطان ومن أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً فخسر كثيراً، ولا يمكن أن نقارن بين التوسع في الحلال وبين الأكل الحرام، لكن أيهما أعظم؟ الأصل أن الأكل من الحرام أعظم، والتوسع في المباح يصير مذموماً إذا شغل عن عبادة الله عز وجل، ودعوني أقول لكم فائدة ذكرتها الآن:
جاءني سؤال في ذات مرة، قال: رجل يأكل ثم يذهب ويستفرغ، ثم يعود يأكل ثم يذهب ويستفرغ، لماذا ؟ قال: لأن هذا الإنسان يحب الطعام جداً، ولا يمكن أنه لا يأكل، أو يتلذذ بالطعام، ولكنه في نفس الوقت لا يريد زيادة وزنه فكيف يجمع بين الأمرين ؟ فصار هذا المسكين يأكل ويتلذذ بالطعام، ثم يذهب إلى دورة المياه ويتقيأ ويتقيأ، ثم يعود مرة أخرى، فسألت الشيخ عبد العزيز حفظه الله عن هذا الموضوع قال: لا أدري ما هذا ؟ عبث وأقل أحواله الكراهية الشديدة، لأنه إنسان متلف للمال على غير شيء، يأكل ويذهب ويستفرغ، فصارت المسألة كأنها حياة البهائم.
كثرة النوم
الذنوب والمعاصي
رأيت الذنوب تميت القلـوب وقد يورث الذل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلـوب وخير لنفسك عصيانها |
وكما جعلت حياة البدن بالطعام والشراب، فحياة القلب بدوام ذكر الله والإنابة إليه، وترك الذنوب، وإذا زادت الذنوب علا الران على القلب، حتى يتغلف ولذلك قال بعض السلف : اطلب قلبك في ثلاثة مواطن:
الموطن الأول: عند سماع القرآن.
الموطن الثاني: في مجال الذكر.
الموطن الثالث: في أوقات الخلوة.
فإن لم تجده في هذه المواطن، فاسأل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك.
الخواطر السيئة والاسترسال فيها
فإذاً: متى تصلح أعمالك؟ إذا صلحت خواطرك التي تخطر في قلبك ونفسك، وصارت خواطر طيبة، وإذا صارت الخواطر السيئة دائماً تخطر ببال الإنسان كالفواحش والحرام، والكسب المحرم، ويخطر بباله الظلم وأنه يريد أن يبطش. إذا كثرت الخواطر السيئة والإنسان لم يدافعها ولا استعاذ بالله منها، واسترسل فيها وتمادى، تتحول إلى ملكات في النفس راسخة، ثم تضغط على الجوارح حتى تصبح فعلاً، فيفعل ما خطر بباله من المحرمات، والإنسان لا يمكنه منع نفسه من الخواطر، إلا أن قوة الإيمان تعين على دفع الخواطر الرذيلة.
انظر إلى حال الصحابة، يعني: أحياناً تأتي لأحدهم الخواطر في ذات الله سبحانه وتعالى، (قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحترق حتى يصير حمماً، أحب إليه من أن يتكلم به) تأتينا أحياناً خواطر في ذات الله، لو أني ترديت من جبل أو احترقت حتى صرت فحماً ولا أن أتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ذاك صريح الإيمان ) يعني: إذا أنت توصلت إلى التحرج من هذه الخواطر لدرجة أنك تتردى من جبل، وتهلك وتحترق ولا تتكلم بها معناه أنك إنسان عندك إيمان قوي، ولذلك خنس الشيطان في نفسك ولم يقدر عليك إلا بهذه الخواطر تكرهها وتدافعها ما استطعت، والله سبحانه وتعالى خلق النفس شبيهة الرحى، ما هو الرحى؟ آلة الطحن، ولا تسكن، خلق النفس شبيهة بالرحى لا تسكن، هذا تمثيل جيد، ذكره ابن القيم رحمه الله وهذه الرحى التي لا تسكن لا بد لها من حب تطحنه، فإذا طحنت حباً خرج دقيقاً جديداً، كان الحب قمحاً فخرج طحيناً جيداً، وإذا كان تراباً وحصىً ماذا يخرج الطحن؟ وإذا كان في الطاحون شيء من القمح، ثم جاء إنسان بسطل من التبن وفتح الطاحون ووضعه فيه، فماذا سيحدث ؟ يختلط الطيب والرديء، فانظر في نفسك ما هي الأفكار التي تدور فيها ؟ فإذا كان ما يدور في نفسك قمحاً جيداً ستكون النتيجة عملاً جيداً، ودقيقاً نافعاً.
وإذا كانت الخواطر التي تدور في نفسك خواطر سوء معناها أن النتيجة التي ستخرج بعد الطحن ستكون أعمالاً سيئة، وإذا كان مخلوط بينهما، يخرج لك مثل الدقيق المخلوط بالتبن والعلف وهذا حال النفس وما يأتي فيها من الخواطر الطيبة والرديئة.
حب الرئاسة
أما بالنسبة لحب الرئاسة فإن حب الرئاسة شهوة خفية في النفس، وطمع يسعى إليه كل من في قلبه شيء من محبة هذه الأمور، فإن أكثر الناس يحب أن يكون ظاهراً ومعظماً، رئيساً مطاعاً وإليه الأمر في الأمور، وأن يؤخذ برأيه ومشورته، ونحو ذلك. ونظراً لأن حب الرئاسة أو لأن الرئاسة إذا حصلت، يقع كثير من الناس بسببها في الظلم وفساد النية؛ لأن أصحاب المراكز دائماً الأنظار والأضواء مسلطة عليهم، جاء فلان وحضر فلان، فيقع في نفس الشخص شيء من كثرة ذكره بين الناس، وأنه شخص مهم، وبالتالي يقع فساد في قلبه من جراء هذا الأمر خصوصاً إذا بدأ الناس يتزلفون إليه، وقد يصرفون إليه شيئاً من الأشياء التي لا تجوز إلا لله، من أجل أن يحصلوا على مكاسب من ورائه فيتخذونه سلماً ويصرفون إليه أشياء من هذه الأمور التي فيها معاني العبودية، نظراً لذلك كانت الرئاسة مسألة خطيرة، وكان للسلف مواقف منها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه واحد يطلب إمارة لم يعطه، قال: (إنّا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله) جاء واحد يسأل الإمارة فقال: (يا
فإن قال قائل، لكن الناس لا بد لهم من رؤساء، ولا بد لهم من قواد، فكيف نفعل؟ فنقول: في الوضع الإسلامي والجو الإسلامي، عندنا نماذج ما حدث في عهد أبي بكر وعمر ، وقول أبي بكر لما بويع، طلب من الناس إذا وجدوه على خير أن يعينوه وإذا وجدوه على باطل أن ينقدوه ويصوبوه، وكان عمر دقيقاً في محاسبة الولاة، وكان يعزل ويولي على أشياء بالدقة والإتقان، ويجعل العيون على الولاة، وكانت تأتي إليه أخبارهم بالدقة دائماً وهذا في عهد السلف ولا بد أن نفهم هذه القضية، في عهد السلف كان الأكفاء وأهل العلم كثر، إذا تدافعوا القضاء سيتولى واحد من أهل العلم، لأن أهل العلم كثر، وكذلك إذا ولي فلان ولايات، هناك من الأكفاء وأهل ا
أيها الإخوة! إن كثرة الاختلاط بالناس اختلاطاً شديداً بحيث لا يبقى للإنسان وقت يتفرغ فيه لنفسه ولا يتفطن فيه لعيوبه، ولا يصلح فيه قلبه، كثرة الخلطة مسألة سيئة، يتسبب عن كثرة الخلطة، وإمتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، حتى يسود ويسبب تشتت القلب، وتفرقه ويسبب الهم والغم، وإضاعة المصالح والاشتغال بقرناء السوء، وينقسم الفكر عند كثرة الاختلاط بالناس، الاختلاط غير الشرعي، يقسم الفكر في أودية مطالب هؤلاء المخالطين، يتقسم الفكر في أودية مطالبهم وإراداتهم فماذا سيبقى في القلب لله والدار الآخرة؟! وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان أضر على أبي طالب من قرناء السوء؟ فلم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة توجب له سعادة الأبد، وهي كلمة التوحيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه يقول: يا عم قل كلمة، كلمة حق أشفع لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله، وأبو جهل وغيره من عتاة قريش على رأسه من الجانب الآخر يقولون: تموت على غير ملة عبد المطلب ، وهو يقول:
إني لأعلم أن دين محمد من خير أديان البرية دينا |
لو لا الملامة أو حذار مسبـة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا |
فـأبو طالب يعلم بأن دين محمد صلى الله عليه وسلم خير أديان البرية ديناً، لكن يمنعه عن قول لا إله إلا الله، الملامة أو حذار مسبة، أن يلومه قومه، أو يسبوه بعد موته، ويقولون: مات على غير ملة آبائه وأجداده، فهذه الخلطة الشنيعة سببت هذا الوبال الذي حل بـأبي طالب ، ألم يقل الله عن أناس من أهل النار يعتذرون فيقولون: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128] فيقال لهم: النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام:128]
وهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، كما قال الله عز وجل: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25].
اجتماع الناس في مودة على شيء لا يرضي الله، سيكفر بعضهم ببعض يوم القيامة على هذا الاجتماع الذي اجتمعوا عليه، وكثير من الناس الآن يلتقون على مودة، لكن أي مودة؟ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [العنكبوت:25] اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، التقوا مودة، لكنها مودة شركية كفرية، مودة معاصٍ، وأهواء وشهوات، هذه الذي اجتمعوا عليها ففي يوم القيامة سيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، فهذه الخلطة المحرمة، وهذه الخلطة بقرناء السوء هي التي ستردي صاحبها في نار جهنم، فيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين.
فإن قال قائل هل الخلطة أصلاً محرمة؟ وهل الإنسان مطالب أن يعيش وحدانياً ليس له صاحب ولا صديق؟ فنقول: أبداً ليس الأمر كذلك، فإن الإنسان خلق اجتماعياً بطبعه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً [النحل:72] لتسكنوا إليها، وجعل الناس ذوي أشكال أو أرواح فيها تجاذب وفيها تنافر والناس يميل بعضهم إلى بعض، ويرتاح بعضهم إلى بعض، أقسام وجماعات وشيع، لكن لا بد أن نقول: إن الخلطة منها ما هو شرعي، مثل ما خاطب الله المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136] والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة) معناه: أن المسلم مطالب أن يكون في جماعة، إذا لم يكن في جماعة يشذ ومن شذ، شذ في النار.
وإذا لم يكن في جماعة فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية؛ لأن الجماعة هي التي تقويه وتشد أزره وتغذي وريد إيمانه، وهي التي تشجعه، فيتقوى بعضهم ببعض، وتنعقد أواصر الأخوة في الله، إذاً: الجماعة الصالحة مطلوب من المسلم أن يختلط بها، ومطلوب من المسلم أن ينضوي تحت لوائها، ومطلوب من المسلم أن يكون فرداً من أفرادها، المجموعة الصالحة والرفقة الطيبة، لا بد من الاختلاط بها، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة، فلا يمكن للإنسان أن يقول: إننا من أجل إصلاح القلوب ينبغي أن نعيش منفردين ولا نخالط الناس، لكن أين الخطأ وأين الخطر؟
الجواب: الخطر في مخالطة أهل السوء، والاجتماع بقرناء السوء، وهذه الوحشة التي تحصل من امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، الذين دائماً يسيرون على الخطأ ولا يتوبون إلى الله ولا يرجعون، هؤلاء أنفاسهم دخان ينعقد في القلب، فيعلون القلب من هذا النتن، ومن هذا الران، مالا يعلمه إلا الله.
فإن قال قائل: أعطنا ضابطاً يضبط لنا الأمور في الاختلاط الجيد والاختلاط الرديء فنقول: إذا خالطت الناس في الخير، كالجمعة والجماعات، والأعياد والحج، وتعلم العلم والجهاد في سبيل الله والنصيحة، فهذا اختلاط محمود بل هو مطلوب شرعاً، وينبغي عليك أن تفعل ذلك، وأن تعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإذا رأيتهم على لهو ولعب ومعاصٍ وفسوق، فلا يجوز لك أن تختلط بهم.
وإن قال قائل: إن الأوضاع اليوم لا تيسر لنا اجتماعاً دائماً على الخير، فإنني موظف في شركة، وطالب في مدرسة، وعضو في جامعة، وهذه الشركة، أو المدرسة، أو الجامعة، لا بد أن أذهب إليها، بحكم الدراسة والدوام، ولا بد أن أختلط بالطلبة والموظفين والناس الذين في ذلك المحل، وإنني تاجر وأختلط بالزبائن، فكيف أفعل؟ هل أترك هذه الأماكن لأن فيها سوءاً؟ فإن الأسواق فيها سوء، وكثير من المدارس قد يكون فيها سوء، والشركات فيها سوء، فهل أترك الخلطة في عملي في المستشفى أو الدائرة أو الشركة، وما إلى ذلك من أنوع أماكن التجمعات التي يتجمع فيها الناس لكي يعيشوا في وظائف، أو يعيشوا من الوظائف هذه في هذه التجمعات، هل أترك ذلك؟ فنقول: إن الاختلاط هنا أمر صار شبه مفروض عليك، ولا تستطيع أن تترك الاختلاط بهؤلاء الناس، في الشركة أو المستشفى، أو المدرسة، أو الجامعة أو السوق، فإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم، ولم يمكنك اعتزالهم وهم يفعلون أموراً من الشر؛ لأنك لن تعدم أحداً يدخن أو يغتاب أو يلعب الألعاب المحرمة، أو يأتي بمنكرات في المجلس الذي أنت فيه سواء في الشركة، أو الجامعة أو السوق أو المستشفى، أو المكان الذي أنت موجود فيه، ولا يمكن أن نقول للناس: عطلوا المستشفيات؛ لأن فيها اختلاطاً، وغادروا الشركات؛ لأن فيها مدراء سوء، واتركوا الجامعات؛ لأن فيها شللاً منحرفة، بل نحن مطالبون بالإصلاح ومطالبون بأن يكون لنا دور عملي نغير به الواقع، فيكون واقعاً يرضي الله عز وجل، فأنت طبيب في المستشفى، فلا بد أن تغير الواقع وتسعى في تغييره ليكون مرضياً لله، فتقاوم الاختلاط والسفور والخلوة المحرمة، وأنت طالب في المدرسة ينبغي أن تدافع المنكرات وتغير الواقع، وتقاوم قرناء السوء، وتقاوم الصورة المحرمة، والفلم المحرم الذي قد يجلب، والألعاب المحرمة، والنكت والطرائف المحرمة، وأنت في السوق ينبغي أن تقاوم البيوع المحرمة والتعامل الحرام مع الزبائن، والتحدث مع النساء مع تكسرهن في الكلام، ودعوتهن بالشهوات والمظاهر التي تجلب الشقاء للنفس، إذاً: نحن مهمتنا المدافعة وتغيير المنكر إلى ما يرضي الله عز وجل.
فإذا دعتنا الظروف لأن نكون مختلطين في هذا الواقع فماذا نفعل؟ لأن الواقع هذا قد يفسد القلب أو يقسيه، إنهم أناس لا يتورعون عن فعل الشر، وفي نفس الوقت لا يمكن أن نتركهم، ولا بد أن نختلط بهم في حكم عملنا، وهذا مجال كسب ووظيفة، ولا بد أن نكون فيه فما هو الحل؟
فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم وهم على أمور من المنكرات والشر، ولا يمكنك اعتزالهم أبداً -لأنه قد يمكن اعتزالهم في الشر- وإذا جاء وقت المباحات أو الخير اختلطت بهم، لكن إذا لم يمكن، فالحذر الحذر أن توافقهم على منكرهم وشرورهم، وأن تصبر على أذاهم، لأنك ستدعو وتواجه بأنواع من الأذى؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلقى أذى، فإذا لم يجد الأذى معناه أن في سيره خطأ، إما أنه يداهن أو شيء من هذا القبيل، وإذا لم يجد في إنكاره أذى أبداً، فمعنى أن في إنكاره خطأ، طبعاً لا يشترط أن يكون الأذى كل مرة، فقد يجد قلباً متفتحاً وأذناً سامعة، وإنساناً مستجيباً ويثني عليه، فلا يشترط أن يجد الأذى كل مرة، ولكن في أحوال كثيرة، أو في بعض الأحيان، لا بد أن يجد شيئاً من الأذى، فالحذر أن توافقهم، واصبر على أذاهم.
وإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، في أشياء من المباحات، فاجتهد أن تقلب ذلك المجلس طاعة لله، وأن تشجع نفسك على هذا الأمر وأن لا تستجيب للشيطان إذا قال لك هذا رياء، وأنت تريد أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر وأن تفتح مواضيع إسلامية، أنت مراءٍ، أنت تريد أن تبرز بينهم، على أنك أنت الشيخ وأنت الواعظ المذكر، وهذا رياء فلا تستجب للشيطان، وادع وذكّر: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]واستعن بالله عليهم، وأخلص في عملك، فإن أعجزتك المقادير فلم تستطع أن تغير أو أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر، فماذا تفعل؟ قال: ابن القيم رحمه الله فيمن هذا شأنه: "فليسل قلبه من بينهم، سل الشعرة من العجين وليكن فيهم حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، نائماً يقظاً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، وما أصعب هذا، وما أشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه".
أحياناً يضطر الإنسان أن يجلس في مجلس أو في مكان لا يمكن أن يتحول عنه يميناً أو يساراً ويعتزل هؤلاء الناس، فينبغي له أن يحاول، فإذا لم يستطع ولم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
مثلاً: نفرض أن فتاة ملتزمة بدينها، تعيش في بيت فيه معاصٍ ومنكرات، أقل ما فيها يرفعون صوت الموسيقى والأغاني في البيت، ماذا تفعل؟ هل تستطيع أن تعتزل البيت وتسكن في الشارع، أو في بيت آخر؟ ماذا تفعل وهي إنسانة مغلوبة على أمرها لا حول لها ولا قوة؟ في هذه الحال مثلاً لا يمكن أن تعتزلهم، لا يوجد مكان في البيت لا يصل إليها أذاهم فيه، فماذا تفعل؟ عند ذلك تطبق هذا الكلام النفيس: فليسل قلبه من بينهم سل الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضراً غائباً، حاضراً بجسده غائباً بقلبه، قريباً بعيداً، قريباً بجسده، بعيداً عنهم في ذكره لله عن هذه الأمور الشيطانية، نائماً يقظاً، نائماً عما هم فيه من المنكرات، لا يحس بها، يقظاً بذكر الله، ويلهج لسانه وقلبه بذكر الله، ينظر إليهم ولا يبصرهم، يراهم بعينه، لكن لا يبصرهم بقلبه؛ لأن قلبه في مكان آخر، ويسمع كلامهم ولا يعيها وقد يغنون ويغتابون، فإذا نهاهم ولم يجد فائدة، فيجلس يسمع الكلام لكن لا يعيه؛ لأنه لا يركز فيه الآن وينسجم معه وينساق مع الألحان، لكن لا يعي لأن قلبه في مكان آخر وهو لا يعي كلامهم؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم، وألقى به إلى الملأ الأعلى وما أصعب هذا وأشقه على النفوس وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه. هذا بالنسبة لأمر من مفسدات القلب وهو الخلطة المحرمة، وذكرنا الخلطة الشرعية، وذكرنا ماذا تفعل في حالة الضرورة، إذا اضطررت بالاختلاط بأناس من أصحاب المنكرات ولم يمكنك التغيير، ولا الاعتزال.