ثغرات في بيوت الدعاة


الحلقة مفرغة

لما نقض بنو قريظة العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أراد الله تعالى أن يعاقبهم بعقاب يستحقونه، حتى يكونوا عبرة لغيرهم، فلما رجع رسول الله من غزوة الخندق أتاه جبريل فأمره أن يخرج إلى بني قريظة، فخرج إليهم يحدوه النصر والعزة، ثم حاصرهم أياماً، وبعدها نزلوا على حكمه فحكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه أن تقتل رجالهم وتقسم أموالهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله).

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أيها الإخوة: إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وظيفة الرسل، وهي مهمة شريفة، وخطيرة أيضاً، ولها شأن عظيم وخطرٌ كبير، ذلك أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يبذل جهده ووقته لله رب العالمين وهو يسير في دعوته، وينبغي عليه أن يسير كما أمر الله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ولا شك أن الداعية إلى الله عز وجل تصلي عليه الملائكة والحيتان في البحر، لأنه ممن يعلمون الناس الخير.

والداعية إلى الله عز وجل لا بد أن يكون متميزاً عن غيره، فهو ليس مسلماً عادياً كما يقول بعض الناس، وإنما هو فوق ذلك، بل إنه ليس شخصاً ملتزماً بالدين فحسب، بل هو فوق ذلك، إنه رجلٌ أو امرأة عرف الله وعرف الطريق، فقام يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى سبيل هذا الدين ورفعته، ومن هنا فإن ما يتعلق بهذا الداعية ينبغي أن يكون غير عادي أيضاً بالنسبة إلى غيره من الناس، كما أن وظيفته غير عادية بالنسبة إلى غيره من العوام، وبعض الناس حين يسمع كلمة الدعاة وخصوصاً من المقصرين يظن أن الكلام لا يعنيه، وهذا خطأ كبير؛ فإنه يجب علينا جميعاً أن نكون دعاةً إلى الله سبحانه وتعالى، لأننا مأمورون بذلك: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] والخطاب للجميع، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (بلغوا عني ولو آية) والتبليغ هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

فلا تظنن أيها المسلم -مهما كان مستواك أو كانت منزلتك في العلم أو الالتزام بالدين- أنك خارج عن دائرة هذا الموضوع، وذلك لأن الدعوة إلى الله واجب علينا جميعاً، وهذه المحاضرة بعنوان: ( ثغراتٌ في بيوت الدعاة )

والمقصود المعالجة والكلام عن بعض الظواهر السلبية الموجودة في بعض البيوت، وإذا كانت موجودة في بيوت بعض الدعاة فلأن تكون موجودة في بيت غيرهم من باب أولى وأكثر منها، ولكن لعلنا نخص الكلام عن الدعاة إلى الله عز وجل نظراً لخطورة هذا الموضوع.

فكما أن الداعية شخص غير عادي، فكذلك يجب أن يكون البيت الذي يسكن فيه أيضاً بيتاً غير عادي؛ والمقصود أن يكون الالتزام فيه بالإسلام أكثر ما يمكن، فإنه لا يمكن أن يتصور أن يدعو إنسان إلى الله في الشارع وبين الناس، ثم بعد ذلك إذا انقلب إلى بيته وجده بيتاً يعج بالمنكرات، أو بعيد عن شرع الله، أو لا توجد فيه الإيمانيات المطلوبة الموجودة في هذا الدين.

ليست المسألة فقط مسألة أن يكون البيت على مستوى الدعوة، ولكن القضية مسئولية عند الله عز وجل قال تعالى:: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] ثم إن الله سيسأله يوم القيامة عما استرعاه؛ أحفظ ذلك أم ضيع؟

ومن حساسية هذا الموضوع أن بعض الدعاة إلى الله عز وجل يجتهد في دعوة الآخرين ثم يقصر هو في دعوة أهل بيته؛ إنه يساهم في تطهير بيوت الآخرين من المنكرات، لكنه غير مهتمٍ بتطهير بيته، إنه يساعد في إعطاء المناهج والعلم للآخرين في بيوتهم، وحثهم على إصلاح زوجاتهم وتربية أولادهم؛ لكنه قد يكون مصاباً هو في قعر بيته، ولا شك أنه سيسأل عما استرعاه الله سبحانه وتعالى أحفظ ذلك أم ضيعه.

فلا يليق به مطلقاً أن يكون جيداً في الصعيد الخارجي ومقصراً في الصعيد الداخلي، بل من الطبيعي أن ينطلق الإنسان من الأقرب الأقرب فالأقرب، هذا هو الأمر السليم، وكذلك فإن بيت الداعية إلى الله سبحانه وتعالى إذا كان بيتاً سليماً نظيفاً طاهراً نقياً؛ فإنه يكون من الأشياء التي تحمس للانطلاق في الدعوة وتعينه في ذلك، أما إذا أصيب الرجل في بيته الخاص به، والذي يسكن فيه ويأوي إليه؛ فإنه يكون قد أصيب في مقتل، فإن هذا البيت الذي قد أصيب يعطله عن الدعوة ويجعل بينه وبينها عوائق، بل أقل ما يمكن أن يقال: إنه يشغله عن متابعة سيره في الدعوة إلى الله عز وجل.

إن بيت الداعية من الاختلافات التي يختلف بها عن بيوت بقية الناس، أنه بيتٌ يغشى للخير، يغشى للتعلم، يغشى للتدريس، يغشى للانتفاع، يغشى للإكرام أيضاً.

روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة : أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة ، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير -يعني: الثياب المزينة- ولا يخدمني فلانٌ ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء -يعني: الأرض- من الجوع، وإن كنت لأستقرض الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس -هذا هو الشاهد- وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب -ولذلك كان يلقب بـأبي المساكين - وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة -قربة من الجلد يحفظ فيها السمن- حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها.

فرضي الله عنه؛ يخرج العكة وليس فيها شيء إلا البقايا على جدرانها وأطرافها، فيشقها ليلعق ضيوفه ما فيها، فالداعية إلى الله كريم، بل ينبغي أن يكون بيته مفتوحاً للمساكين والفقراء، وأن يتخذ الإكرام وسيلة للدعوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يجعل من إكرامه للناس وسيلة لاستمالة قلوبهم، كان يجيز الضيف ويعطيه، وإذا فتح الله عليه بشيء وزعه على الناس .. يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، حتى كان ذلك سبباً في إزالة الشحناء من قلوب كثير من أعدائه، ودخول الألداء من خصومه في دين الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن بيتاً بهذه المهمات ينبغي أن يكون ذا مواصفاتٍ عالية، لأنه بيت ينطلق منه الخير، ويشع بالعلم، ويستقبل الناس الراغبين في الهداية والتعلم، بل ربما يستقبل بعض المصابين بالأمراض والذين فيهم ضلال، فيكرمون في هذا البيت، فيكون ذلك سبباً في هدايتهم وانقيادهم للحق وإلى طريق الله المستقيم، ولذلك كان الاهتمام ببيت الداعية من الأمور المهمة جداً.

قلة العبادة

من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة: خلوها من العبادة، أو قلة العبادة فيها، وعبادة الله سبحانه وتعالى لا شك أنها تجعل البيت منيراً مشرقاً بذكر الله سبحانه وتعالى، البيت الذي لا يذكر الله فيه كالميت، كيف يكون البيت وسيلة لهداية الناس ولا يذكر الله فيه؟!

والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) وذلك حتى يكون البيت حياً بذكر الله سبحانه وتعالى، وعامراً بعبادة الله عز وجل، وإذا رأينا البيت لا قرآن فيه ولا نوافل، لا الزوجة ولا الأولاد يرون أباهم يرفع يديه ويدعو، أو يصلي في هذا البيت، أو يفتح المصحف ويقرأ، فكيف سيعيشون؟ وعلى أي شيءٍ سيتربون؟

إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على عمارة بيته بذكر الله، وكان حريصاً على الصلاة فيه، وكانت هذه الصلاة وسيلة لتربية من في البيت، روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، قام ابن عباس فتوضأ نحو وضوئه صلى الله عليه وسلم، ثم قام عن يساره، فأخذ بأذنه صلى الله عليه وسلم فحوله عن يمينه، قال ابن عباس : فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة).

إذن لما كان البيت فيه عبادة تشجع الولد على القيام للصلاة -لما رأى زوج الخالة- وهكذا عندما يرى الولد أباه يصلي يقوم معه؛ بل إن كثيراً من الأطفال الصغار جداً في البيت إذا رأوا من يصلي قاموا يشابهونه بالحركات (يحاكونه بحركاته).

فهذه مسألة في غاية الأهمية، فإذا كانت بيوت الناس مقفرة من العبادة فينبغي أن يكون بيت الداعية حياً بالعبادة.

فساد الزوجة

ومن الثغرات الخطيرة جداً في بيت الداعية: الزوجة غير المتدينة؛ فإن رجلاً مسلماً داعية إلى الله عز وجل يريد أن ينطلق في الدعوة، وهداية الناس وإرشادهم، ودلالتهم إلى طريق الحق، إذا أصيب في بيته في أقرب الناس إليه، وابتلي بزوجة سيئة غير متدينة، لا تقيم للمعروف وزناً ولا تحذر من المنكر، فأي حالٍ سيكون فيها هذا الرجل؟ وكيف سيكون انطلاقه في الدعوة وهو مصاب في عقر داره وفي أقرب الناس إليه؟.

- أسباب عدم تدين الزوجة:-

أول من يحتاج إلى دعوته زوجته ولا شك، ولا شك أن هؤلاء الشباب الذين يتساهلون في الأمر ويقول الواحد منهم: أتزوجها الآن ثم بعد ذلك ستتدين بالتدريج، وتلتزم بالتدريج؛ لا شك أن هؤلاء يخاطرون مخاطرةً عظيمة، فإن المسألة ليست مضمونة، وكثيراً ما تبقي الزوجة على حالها.

ثم إن الداعية إلى الله عز وجل من طبيعته الانشغال بدعوته، فهل سيكون متفرغاً لها بحيث يتابعها ويدعوها الدعوة التي تصلح شأنها، ويبذل لها المجهود المناسب لهدايتها، بإذن الله طبعاً؛ الهداية من الداعية هداية الدلالة والإرشاد، وليست هداية التوفيق والإلهام، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي من يشاء، فهل يا ترى سيتفرغ لذلك، أم أنه سيظن أنه سيفعل ثم لا يفعل؟ لأن الواقع الذي سيعيش فيه سيجره لانشغالات كثيرةٍ خارج البيت، فإذا كان ظهره في البيت غير مؤّمن، وإذا كان لا يخرج من درعٍ حصينة، فلا شك أنه سيكون مكشوفاً، ويكون مضطرباً قلقاً، ولذلك تجد بعض الناس الذين يفعلون بعض النجاحات الخارجية في دعوتهم إلى الله عز وجل يعانون من مصائب داخلية في بيوتهم؛ فيعانون من مشكلات كثيرة في زوجاتهم هم.

كما أن بعض النساء المتدينات أيضاً يعشن هذا الهاجس، وتحت مطرقة الزوج المنحرف، وبسبب أن منشأ القضية كان خطئاً: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فحث الرجل على الاهتمام والانتقاء واختيار المرأة الصالحة، وأخبر أن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، بل أمر فقال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولسانا ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة) أوصى بذلك وأمر به، وكذلك أمر أهل المرأة أن ينتقوا لبنتهم صاحب الخلق والدين، إذا كان منشأ القضية الغلط، فلم يحصل الانتقاء ولا الاختيار فلا يلوم بعد ذلك أو يتبرم الداعية ويقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي، أو تتبرم المرأة وتقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي؛ لأن المسألة خطأ من أصلها وبدايتها، وكان ينبغي أن يكون الحرص على صاحبة الدين وعلى صاحب الدين، وأن يكون الدين هو محور الاختيار، وهو الأساس في الانتقاء.

أما إذا لم يحصل ذلك فلا تقل بعد ذلك يا أيها الداعية: كيف أشتغل في دعوة الناس وزوجتي عندها انحرافات؟

كيف أتفرغ لهم وعندي ما يشغلني في الجبهة الداخلية؟

نقول: أنت السبب؛ نعم الإنسان قد يبتلى، وقد يلبس عليه في أشياء، لكن إذا كان حريصاً فلا شك أن هذا الجانب سيكون قليلاً جداً وضيقاً، والزوجة غير المتدينة ستطالب زوجها بأمور منها منكرات ومحرمات، أو على الأقل شبهات، ولن تصمد أمام أقربائها والآخرين إذا دعوهم لإدخال شيءٍ من المنكرات إلى البيوت، بل ستطالب الزوج، وربما تجعل حياته جحيماً لا يطاق.

إن الزوجة غير المتدينة لن تحتسب في غياب زوجها في الدعوة إلى الله وطلب العلم، ولن تصبر على افتقاده في البيت، ولا على بكاء الأطفال، ولا على تأخر الأغراض، ولا شك أن الإنسان إذا أمن الجبهة الداخلية ارتاح إذا انطلق في الخارج، وهذه مسألة لا يقدرها إلا من جربها.

- علاج المشكلة:-

لكن لنأتي الآن إلى الحل والعلاج فيما لو حصل شيء من التقصير من الزوجة؛ لو أنه ابتلي بزوجة غير متدينة، أو أنه تزوج امرأة متدينة ثم حصل منها تقصير، ومسألة الانتكاس أو التراجع شيء واقع موجود، فلو حصل هناك ضعف من جانب الزوجة أو الزوج فما هو الواجب إذن؟

ينبغي القيام أولاً بالتربية؛ تربية الزوجة وحثها على فعل الخيرات، وحضها على الصلاة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وعلى تلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار، والحث على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية، واستماع الأشرطة المفيدة، واختيار الحلقة التي تعينها بصويحباتها على أمر الآخرة، ودرء الشر وسد منافذه.

انظر إليه صلى الله عليه وسلم في بيته ماذا حصل لما وقعت عائشة في شيءٍ من القصور أو التقصير عن غير علمٍ منها؛ لكن المحرم يبقى محرماً، والمنكر يبقى منكراً، سواءً كانت الزوجة تعلم الحكم أولا تعلم الحكم، ولا بد أن يكون للزوج موقف، ولا بد أن يكون الموقف حاسماً، يتناسب مع العلاقة بينهما.

روى البخاري رحمه الله: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيما رواه أنها أخبرت القاسم بن محمد (أنها اشترت نمرقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل!! -والنمرقة: هي الوسادة التي يجلس عليها- فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها -يعني نيتي صالحة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وقال: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة).

وفي كتاب المظالم والغصب أخرج رحمه الله تعالى الحديث عن عائشة : أنها كانت اتخذت على سهوةٍ لها ستراً فيه تماثيل، فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم -هتكُه تدَّخل لتغييره بيده- فاتخذت منه نمرقتين، قد زالت التصاوير المحرمة عنها بالشق، فكانتا في البيت يجلس عليهما صلى الله عليه وسلم.

بل إنه عليه الصلاة والسلام في أدق من ذلك، وهي الأشياء التي تلهي عن الصلاة وإن لم تكن محرمة؛ لكن من أجل أنها تلهي عن الصلاة بزخارفها مثلاً كان يحارب ذلك، فقد أخرج البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة، عن أنس بن مالك : كان قرامٌ لـعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي).

وينبغي أن يكون موقف الزوج -كما سبق- موقفاً واضحاً جداً، وموقفاً مبنياً على الشريعة، لا بد أن يكون عنده علم، لأن الزوجة قد تسأله عن الدليل على تحريم هذا الشيء، فينبغي أن يكون عنده دليل.

كذلك بعض الأزواج يمشي الأمور في بيته، فيقع منكر بسيط فيرضى به ويسكت، ثم يوضع شيء فيه منكر أكبر قليلاً؛ قد يكون الأول من المشتبهات، والثاني الشبهة فيه أكبر، والثالث محرم من المحرمات التي ليست بالكبيرة، وهكذا تتدرج الأمور، فينبغي أن يكون العلاج من البداية علاجاً حاسماً، وينبغي أن يظهر أثر إنكار المنكر على وجه الزوج؛ لأنه قد جاء في الرواية أيضاً عند البخاري رحمه الله عن عائشة قالت: حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادةً فيها تماثيل -كأنها نمرقة- فجاء فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم!! فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: (ما بال هذه الوسادة؟ قلت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وأن من صنع الصورة يعذب يوم القيامة يقول: أحيوا ما خلقتم) الزوج المتعلم يسهل عليه إقناع زوجته؛ لكن الجاهل الذي لا يعرف الحكم، ولا يعرف الدليل، ولا يعرف السبب فإنه لو سألَتْه: لماذا؟ يقول: افعلي ولا تناقشي، ولا شك أن هذه الطريقة ليست طريقة مؤثرة في العلاج أو إزالة المنكر، ولذلك الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون عالماً بما يأمر، عالماً بما ينهى، حليماً فيما يأمر، حليماً فيما ينهى، وهكذا.

- أهمية صلاح الزوجة:-

ونعود مرةً أخرى فنقول: إن حياة الداعية تحتاج من زوجته إلى تضحيات؛ إن حياته للناس، فهو كما ينبغي أن يكون وقفاً لله تعالى وينبغي عليه أن يترك وقتاً لأهله؛ لكن لا شك أن الإنسان صاحب الارتباطات، الذي يغشى مجامع الناس وملتقياتهم وأنديتهم؛ ليقوم بواجب الدعوة والتذكير والنصح؛ لا شك أنه سيكون منشغلاً، إنه قد يلقي درساً أو موعظةً، أو يذهب في زيارةٍ، أو يمر على أماكن للتعليم فيها والإنكار والنصح ونحو ذلك، ويشترك في مناسبات تربوية لا شك أن هذه الأشياء تأخذ وقتاً منه.

والمرأة بطبيعتها تحب أن يكون زوجها سلماً سالماً لها لا يشاركها فيه أحد، وإذا كانت لا تقدر هذه الأشياء فمن الذي يقدر؟ لا شك أنها إذا كانت متدينة تفقه هذه الأمور فإنها ستقدر، وأما إذا كانت امرأة عادية لا تفقه ولا تفهم هذه الأشياء فإنها لن تقدر الواقع، فلذلك تتبرم من تأخره وتتضجر من تغيبه عن البيت.

ثم المسألة- أيها الإخوة- أعمق من ذلك، ولعلنا ندخل في شيءٍ من هذا العمق من خلال الرواية التالية في فائدة الأهل الطيبين، فائدة الزوجة الصالحة والأولاد الصالحين، والكلام ليس فقط عن الزوجة الصالحة؛ لأن أهل البيت يعينون أباهم أو يعينون الذي يرعاهم على الدعوة إلى الله، سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ زوجات أو بنات، أولاداً ذكوراً أو إناثاً، المقصود أن يكون بيت الداعية صالحاً، ومن فيه صلحاء حتى يعينوه.

أقول: إن مسألة حساسية أهل البيت وصلاحهم، لا شك أن له أثراً كثيراً في نجاح الداعية في حياته، وتمعنوا معي الآن في هذه الرواية:

روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين وعلفهما أربعة أيام استعداداً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة : (فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل لـأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً؛ في ساعة لم يكن يأتينا فيها؛ لأن نحو الظهيرة هذا من أوقات القيلولة والاستراحة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد جاء متخفياً متقنعاً فقال أبو بكر : فداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ - أي: عظيم- قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر : أخرج من عندك -هناك نبأ مهم خاص لا يصلح أن يشاع ويعرف، أخرج من عندك؛ هناك سرٌ أريد أن أقوله لك- فقال أبو بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله) يعني اطمئن، فأهل بيتي على مستوى الثقة وحفظ الأسرار، لا تخش من هذه الناحية، إذاً تربية أهل البيت تعود بالنفع في أشياء كثيرة؛ منها حفظ الأسرار والأمور الخطيرة.

إنما هم أهلك يا رسول الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام لما اطمئن: قد أذن لي في الخروج- يعني الهجرة، طبعاً هذا نبأ سري جداً لا يصلح أن يعرف، لأنه لو عرف وانتقل إلى كفار قريش حدثت المصيبة- فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله -أي: أطلب الصحبة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم تصحبني، قال أبو بكر : فخذ إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن، قالت عائشة -وهذا أيضاً شاهد في موضوعنا -فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها فربطت به على فم الجراب، ما وجدت شيئاً تربط به فشقت من هذا الحزام والنطاق الذي في وسطها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين .

إذن أهل البيت عندما يكونون على مستوى جيد من التربية، تكون منهم الإعانة وتدبير الأمور، وتسهيل الأشياء في المراحل الخطيرة والحساسة، وحفظٍ الأسرار، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور .

هل من الهين على البنتين البقاء في البيت، وأن يغيب الراعي والأب ويخرج ليهاجر تاركاً البلد، وماذا يحدث لهما بعد ذلك؟ الله أعلم! فقد ينتقم منهما الأعداء، وقد روي أن أبا جهل وأبا سفيان جاءا للتحقيق في موضوع خروج أبي بكر الصديق ، وحدث أنه لطم أسماء ، إذن قد يتعرض بيت الداعية وأهله للأذى بسبب شيء تقتضيه المصلحة الشرعية، كما اقتضت هنا خروج النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر مفارقين للبلد، مهاجرين إلى بلد آخر.

إذن أنت تأمل -يا أخي- الآن في وضع حل من أجل صلاح الأهل والأولاد، الوزن الكبير في نجاح الداعية في حركته، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال، فهل انتهت مهمة الأهل في البيت؟

لا.. يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلامٌ شابٌ ثقفٌ لقنٌ، فيدلج من عندهما بسحرٍ، فيصبح مع قريش في مكة كبائت، فلا يسمع أمراً يُختانان به إلا وعاه، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر أباه ويخبرهما الخبر كل ليلة.

حتى هذا الولد لما صار على هذا المستوى من التربية، صار الحزب في الداخل والخارج، والرعاية في الداخل والخارج، والتزويد والتموين قائم، فالمسألة كبيرة جداً ولها أبعاد عظيمة جداً إذا صلح أهل بيت الرجل، وليس المقصود بالصلاح المحافظة على الصلوات فقط أو قراءة القرآن، المسألة تحتاج إلى تربية كذلك في جوانب الأخلاق والآداب وحفظ الأسرار، تحتاج المسألة إلى تربية على الصبر والتضحية، الصبر على غياب العائل لأجل مصلحة هذا الدين، أبو بكر غاب عن بيته لأجل مصلحة الدين، ماذا سيحدث لبناته؟ الله أعلم!

ما هو المصير الذي ستواجهه؟ الله أعلم!

لكن الثقة بالله، اليقين، الإيمان والدين.

ثم الزوجة إذا كانت على مستوى أن تضحي سهل على الرجل أن يقوم بعبادات لا يستطيع أن يقوم بها لو كانت زوجته لا تضحي.

خذ هذا المثل مما رواه البخاري رحمه الله كذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء -أي: ما عندنا شيء نضيف الضيف- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء -هل هذا شيء سهل؟- فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها على غير طعام، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفئته - بحركة تمثيلية أطفئت السراج حتى لا يحرج الضيف- فجعلا يريانه أنهما يأكلان هو وزوجته، فباتا طاويين هما والأولاد على جوع، والطعام الذي كان موجوداً ولا يكفي إلا للأولاد أكله الضيف، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما! فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]) لو كانت هذه المرأة ليست على مستوى التضحية والتحمل لصعب عليها أن تتحمل نوم أولادها جياعاً، وتقديم الطعام للضيف، وربما تقول: اخرج أنت وضيفك! ولا يمكن أن أقدمكما على أولادي! لكن عندما تكون المرأة عندها هذه التربية على الإيثار يسهل على الرجل أن يقوم بهذه العبادة.

وكذلك -أيها الأخوة- فإن من أسباب حصول هذه الثغرة في البيت: تقصير الداعية في حق أهله، التقصير في إبراز القدوة الصالحة، عدم الاهتمام بتربية الزوجة، وربما يكون من السياسة الحكيمة الاهتمام بالزوجة في البداية، حتى إذا حصلت شيئاً جيداً جعل الرجل بعد ذلك همه للناس، وشيء من التركيز في البداية يريح الإنسان فيما بعد.

الخلافات الزوجية

ومن الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة، والتي تؤثر كثيراً على دعوتهم: قضية الخلافات الزوجية؛ والخلافات الزوجية نارٌ يكتوي بها كثير من الناس، والشخص إذا كان صاحب عمل عادي ربما لا يتأثر كثيراً لأنه إذا خرج إلى العمل ارتاح من زوجته، وإذا رجع بعد ذلك يدبر أمره، لكن الداعية يدرك خطورة البيت، وما ينبغي أن يكون عليه أهله؛ فإذا دخل في أتون الخلافات الزوجية فإنه سيتأثر وتتأثر دعوته ويتأثر طلبه للعلم؛ كيف يركز في حلقة العلم وبينه وبين زوجته ما قام بين داحس والغبراء؟ كيف سيكون صاحب عطاء في الدعوة إلى الله وهناك مشاتماتٌ وسبابٌ وهجرٌ وقطيعةٌ ومخاصمة بينه وبين زوجته؟

لا شك أن الحزن الذي سيسببه ويخلفه هذا الخلاف سيؤثر في عطائه في الدعوة إلى الله؛ لأن الإنسان عندما ينطلق مرتاحاً بالدعوة وطلب العلم لا شك أنه سيكون مهيأ أكثر؛ ذهنه صاف، نفسه متطلعة ومنفتحة لأجل العطاء والتحصيل، لكن إذا كان مهموماً بالخلافات يعيش ويكتوي بنارها، ويصطلي بحرها، فكيف إذاً سيكون عطائه؟

وهذه الخلافات قد يكون سببها الداعية نفسه! قد يكون عنده شيء من الاستبداد، قد يكون عنده تحكمٌ ليس فيه حكمة، قد يكون مقصراً في الحقوق الزوجية، قد يكون عنده إهمال وتفريط مما يثير نقمة زوجته عليه، وبعضهم يغيب غياباً طويلاً جدا،ً ويهمل حاجات البيت فلا يأتي بما تحتاج إليه الزوجة، بل حتى النفقة يقصر فيها، فيكون باختصار هو السبب.

وقد يجعل الداعية زوجته تعيش في غموض كبير، ويكثر من التوريات عليها فتفقد الثقة به! لأنه لابد من مستوى معين من المصارحة، نعم هو غير ملزم أن يعطيها جميع التفصيلات عن دقائق أموره، لكن لا بد أن يخبرها بأشياء، لا يمكن مثلاً أن يسافر ولا يخبرها أنه مسافر!

وقد يرهقها بكثرة العمل أو الضيوف، بشيءٍ فوق المستوى المعقول، ومعاملة الزوجة بهذا الغموض وإخفاء الأشياء باستمرار حتى التي لا ضرر فيها ولا حرج، لا شك أن ذلك سيضايق الزوجة كثيراً، فإذاً الخلافات الزوجية قد يكون سببها الداعية!.

وبعض الدعاة إلى الله يقرءون في أساليب الدعوة، والحكمة في الدعوة، ويقرءون في مراعاة الأولويات، ويقرءون في الوسائل الناجحة، وقد يكونون ناجحين فعلاً في استخدام هذه الوسائل والأساليب، لكنهم ليسوا بناجحين مطلقاً في سياسة زوجاتهم، يمكن أن يهدي مدعوه هديةً يتألف بها قلبه ثم هو لا يهدي زوجته هدية واحدة!

إذاً هذا النجاح على صعيد والفشل على صعيد آخر؛ لا شك أنه يشقي الإنسان، ليس النجاح الذي يشقيه في صعيد الدعوة، لكن الذي يشقيه الفشل على صعيد الحياة الزوجية.

إذاً لا بد من إعطاء الحقوق الزوجية، ولا بد من مصارحة الزوجة بما ليس فيه ضررٌ ولا حرج، لا بد من إشعارها بالاهتمام حتى ولو بالكلام، ولا شك أن المرأة تأنس إذا ما اعترف لها زوجها بتقصيرٍ مثلاً، أو طلب منها السماح في أمرٍ من الأمور، وتنازل عن رأيه في أشياء فتتنازل له بالمقابل عن أشياء كثيرة.

وشيءٌ من الهدية مع شيءٍ من الكلام الطيب والإكرام، وإكرام أهل الزوجة أيضاً، وليس إكرام الزوجة فقط، والمعاملة الحسنة لأهل الزوجة، وتذكرهم في المناسبات؛ لا شك أنه يصلح الأحوال مما يريح الداعية كثيراً في مهماته، وإذا شعرت الزوجة أنه يشاركها في اهتماماتها، بل ويجعل لها من وقته حلقةً أو درساً، أو يقرأ معها من كتاب، أو يوقظها لقيام الليل كما في الحديث: (رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء) لا شك أن هذا الاهتمام يشعر الزوجة أن زوجها ليس صاحب هوى، ولا صاحب استبداد، وإنما هو إنسان يريد الخير لها فعلاً.

ثم إنه إذا أذن لها بالمباح من اللهو؛ فإنها لا شك ستأنس به أكثر، ألم يأتك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين).

فهذا الغناء عبارة عن أشعار تنشد بصوتٍ جميل من قبل بنات صغيرات .. الآن عائشة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها تسع سنوات، وكان عليه الصلاة والسلام يدخل لها صويحباتها ليلعبن معها، وكان يجعل لها ألعاباً، وكان يسألها عن الفرس الذي له أجنحة، وكان عندها لعب تتناسب مع سنها، لا شك أن السماح للزوجة بالصويحبات والجواري اللاتي كن معها بدون محرم، لما ظنه أبو بكر محرماً بين له عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمحرم، (قال أبو بكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) والمزمور يطلق على آلة اللهو المحرم، ويطلق على الصوت الحسن، ولا شك أن المقصود بالرواية هنا الثاني، ولا شك أن الكلام الذي كن ينشدنه ليس فحشاً ولا فجوراً، وإنما هو شيءٌ تقاولت به الأنصار في يوم بعاث، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر أنه ليس بمنكر وقال: (يا أبا بكر إن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا) والترفية عن الزوجة وإتاحة المجال لها في العيد بما يرضي الله عز وجل لا شك أنه أمرٌ مطلوب.

لقد كانت البساطة بينه وبين زوجته عليه الصلاة والسلام عاملاً كبيراً من عوامل الاستقرار والهناء في الحياة الزوجية، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح).

وبالرغم مما سبق كله فهل يقال: إن من المطلوب ألا توجد الخلافات أبداً؟

نقول: هذا محال، فلا بد أن توجد خلافات زوجية، لكن لا بد أن تكون الأوبة سريعة، والخلاف يزول بسرعة، وتتدخل الأطراف التي عندها حكمة في حل الإشكالات.

هل وجد خلافات زوجية على عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا شك في ذلك، وهذا مثال: عن سهل بن سعد قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيءٌ فغاضبني فخرج فلم يقل عندي -أي: ما نام عندي القيلولة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسانٍ: انظر أين هو، فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط ردائه عن شقه وأصابه التراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب .. قم أبا تراب) فالخلافات تعالج بسرعة وفي نفس اليوم، وترجع المياه إلى مجاريها، وليس هناك إصرار وعناد، والزوجة تفتح الباب وتمشي وتجلس عند أهلها الأسابيع والشهور وتقول: لا بد أن يأتي لي بربوة، وهو يقف أيضاً عند كبريائه، وهي تقول: لا أتنازل، وأهلها يقولون: لا ترضخي له، وتتسع المسألة وتتشعب، لا يمكن لإنسان في مثل هذه الحالة أن يعيش حياةً دعويةً سعيدة، أو ينطلق انطلاقة جيدة في دعوته وطلبه للعلم وهو يعاني من آثار هذه الخلافات.

إذاً لو حصل خلاف فليعالج بالحكمة وبالحسنى، والمسألة سهلة بعد ذلك -إن شاء الله- إذا وجدت النية الطيبة من الطرفين.

عدم الاهتمام بتربية الأولاد

من الثغرات الموجودة: عدم الاهتمام بتربية الأولاد؛ فبعض الدعاة إلى الله يهتمون بأولاد الناس وأولادهم يهيمون في الشوارع، بعض الدعاة إلى الله يعلمون الناس الكلام الحسن وأولادهم يتعلمون الكلام القذر من أولاد الشوارع، بعض الدعاة إلى الله عز وجل يحاربون الفحشاء والمنكر وأولادهم ربما وقعوا في الفواحش، نعم .. هذا حاصل موجود، ونسأل الله السلامة.

أليس من العيب إذاً أن يهتم الإنسان بأولاد غيره وهو يهمل أولاده؟ وما هو الانطباع الذي يحصل عند الناس عندما يرون أولاد هذا الداعية يعيشون في هذا الجو من المعاصي؟ الداعية ملتح وابنه حليق، الداعية يصلي الفجر وابنه في البيت نائم، الداعية في سيارته أشرطة القرآن والذكر وولده عنده سيارة يفحط بها وهي مملوءة بأشرطة الأغاني، لا شك أن المسألة فيها جانب كبير من التفريط، نعم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] لكن هل بَذلَ الأسباب؟ هنا السؤال، على الأقل أشرك أولادك مع الآخرين، اجعل لهم رحلةً يخرجون فيها عن البلد يعيشون فيها برنامجاً إسلامياً أو شيئاً طيباً، كما أنك تحرص على ذلك مع أولاد الناس.

إذاً المسألة أيها الإخوة فيها تفريط، وهو الذي يؤدي إلى هذه النتائج، ثم إن الخلافات الزوجية التي أشرنا إليها قبل قليل لها أثر سيئ على الأولاد، وعندما يكون الداعية في طرف وزوجته في طرف يكون هناك معسكران في البيت، لا شك أن هذا الأمر السيئ يلقي بظلاله الثقيل على نفوس الأطفال مما يسبب لهم العقد النفسية، وربما كره الولد طريقة أبيه عموماً بما فيها من الخير؛ نتيجة لبعض السلوكيات من هذا النوع.

الإقدام على تعدد الزوجات قبل الدراسة للوضع

وقبل أن نغادر الجانب الاجتماعي في الحياة الزوجية لعلنا نشير إلى مسألة وهي قضية المشكلات التي يواجهها الداعية إذا كان متزوجاً أكثر من زوجة، فالموضوع ليس هذا محل التوسع فيه والبسط، ولعله سيأتي إن شاء الله، لكن هناك تلميحات سريعة.

بعض الدعاة إلى الله لا يقدر الموقف حق قدره قبل أن يقدم على الزواج بالزوجة الثانية أو الثالثة؛ لو أنه ينطلق من عفته لنفسه لسكتنا، بل وهنأناه، ولا يمكن أن نقول له إلا الخير؛ ولو أنه يحرص على أن يكثر النسل ويربي هذا النسل، لقلنا له كلاماً حسنا موافقين له ومغتبطين بما فعل، لو ضم أرملةً أو ضم إليه ضعيفةً للإحسان إليها لكان مأجوراً عند الله، ولا شك أن من هذه الشريعة تعدد الزوجات، ولا يجادل في ذلك إنسان، لكن المقصود من هذا الكلام الذي نقوله الآن: دراسة الداعية لموقفه قبل أن يقدم على تعديد الزوجات:

هل يطيق ذلك من جميع الجهات مادياً وجسدياً؟

وهل عنده قدرة على العدل أو لا؟ هذه مسألة شرعية: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3].

هل عنده استعداد للإنفاق أم أنه سيجور في النفقة؟

هل عنده استعداد لتربية الأولاد ومتابعة بيتين معاً أم لا؟

هذه من الأشياء المهمة.

ولا يمكن أن يتصور أنه لن تحدث هناك مشكلات البتة، إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعاني من بعض الأشياء التي تحدث بين زوجاته، وقد جاء عن عائشة : أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين؛ فحزبٌ فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، فكلم أم سلمة حزبها فقلن لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهد إليه حيث كان من بيوت نسائه، فكلمته، فلم يقل لها شيئاً، جاءوا إلى فاطمة طلبوا منها أن تكلمه فكلمته: (إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى). كون الناس يهدون إليه في بيت عائشة ليس هو مسئولاً عن هذا، هذا ليس من الإنفاق الذي يفعله هو من فعله، وليس من اللائق أن يقول للناس: لا تجعلوا هداياكم هنا واجعلوها هنا، هذا من شأن الناس؛ من أراد أن يهدي فليهد في الوقت الذي يريد وفي البيت الذي يريد.

فأرسلن زينب بنت جحش حين لم تحصل فائدة من جهة فاطمة ، فأتته فأغلظت وقالت: إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي قحافة ، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة ؛ هل تكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنها بنت أبي بكر ، إذاً من شابه أباه فما ظلم.

فهل كانت تحدث مشاكل؟

نعم.. ألم تكسر عائشة إناءً لإحدى أمهات المؤمنين حين أتت بطعامٍ فيه إلى بيتها، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ إناء التي كسرت السليم وأعطاها إناء بدل الإناء الذي كسر.

إذن كان هناك مشكلات ناتجة عن وجود أكثر من زوجة، فينبغي أن توجد الضوابط الشرعية؛ قيام العدل، النفقة، العدل في المبيت، وغير ذلك.

لكن نعود فنقول: هل هذا الرجل الذي أقدم على التعدد درس المسألة من جهة إمكاناته أم أنه فعل ذلك تقليداً للآخرين وقال: ما أحد أحسن مني؟ ولماذا فلان يتزوج أنا سأتزوج أيضاً.

إذاً نحن الآن نقول: الإنسان لا بد أن يقدر المسألة حق قدرها شرعاً وواقعاً، ثم يقدم على الخطوة إذا وجد ذلك لمصلحته، وأنه مستطيع؛ لكن إذا وجد أنه لا يستطيع، وأنه ليس بحاجة من جهة العفة مثلاً، وإنما يفعل ذلك تقليداً للآخرين، وهو غير مستطيع للعدل فلا يقدم على ذلك، ولا شك أن بعض الذين أقدموا على ذلك قد عانوا جداً في مجال الدعوة إلى الله، وصارت أمورهم في حيص بيص، نتيجة لعدم الدراسة المسبقة والتقدير السليم للموقف.

ثم نقول أيها الأخوة: إن عدم الاعتناء بهذه الثغرة؛ وهي ثغرة الزوجة لا شك أنه يسبب فشلاً كبيراً وعقوبةً عند الله سبحانه وتعالى وربما يكون سبباً في فشل الداعية في دعوته.

وإن من العجب العجاب أن نجد بعض الذين يزعمون الاشتغال بالدعوة؛ يمشي بجانب زوجته التي وضعت نقاباً متسعاً فظهر الحاجب الذي عليه الكحل، وظهر أجزاء من الخد والوجه ونحوه، ولا شك أن هذا عملٌ محرم، أو أن يذهب بها في أماكن الاختلاط والأماكن المشبوهة، وأماكن النزهة المحرمة، فلا شك أن هذا عيبٌ كبير يرتكبه.

عمل الزوجة من غير داع لذلك

ومن الثغرات كذلك عمل الزوجة من غير داعٍ، فلا شك أن عملها وما يتطلبه من مشقة، وما يترتب عليه من انشغال عن البيت والأولاد والزوج؛ لا شك أنه ثغرة في البيت، نعم قد يكون هناك حاجة، أو شرط عليه في العقد؛ فينبغي الوفاء به إذا لم يكن ذلك مصادماً للشرع، فعند ذلك تعمل، لكن عندما لا تكون الحاجة؛ فلماذا تذهب للعمل مع أن عملها الأساسي للبيت، وقد أثبتت التجارب وكلام العقلاء حتى الكفار قالوا: إن خروج المرأة من البيت للعمل مفسدة، وتضييع للبيوت، وتشتيت للأسر، وتشريد للأطفال، وسبب في زيادة الجرائم، وغير ذلك من الأشياء، ولا شك أننا نقول أيضاً: وعلى رأس ذلك فإنه سببٌ للفساد.

من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة: خلوها من العبادة، أو قلة العبادة فيها، وعبادة الله سبحانه وتعالى لا شك أنها تجعل البيت منيراً مشرقاً بذكر الله سبحانه وتعالى، البيت الذي لا يذكر الله فيه كالميت، كيف يكون البيت وسيلة لهداية الناس ولا يذكر الله فيه؟!

والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) وذلك حتى يكون البيت حياً بذكر الله سبحانه وتعالى، وعامراً بعبادة الله عز وجل، وإذا رأينا البيت لا قرآن فيه ولا نوافل، لا الزوجة ولا الأولاد يرون أباهم يرفع يديه ويدعو، أو يصلي في هذا البيت، أو يفتح المصحف ويقرأ، فكيف سيعيشون؟ وعلى أي شيءٍ سيتربون؟

إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على عمارة بيته بذكر الله، وكان حريصاً على الصلاة فيه، وكانت هذه الصلاة وسيلة لتربية من في البيت، روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، قام ابن عباس فتوضأ نحو وضوئه صلى الله عليه وسلم، ثم قام عن يساره، فأخذ بأذنه صلى الله عليه وسلم فحوله عن يمينه، قال ابن عباس : فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة).

إذن لما كان البيت فيه عبادة تشجع الولد على القيام للصلاة -لما رأى زوج الخالة- وهكذا عندما يرى الولد أباه يصلي يقوم معه؛ بل إن كثيراً من الأطفال الصغار جداً في البيت إذا رأوا من يصلي قاموا يشابهونه بالحركات (يحاكونه بحركاته).

فهذه مسألة في غاية الأهمية، فإذا كانت بيوت الناس مقفرة من العبادة فينبغي أن يكون بيت الداعية حياً بالعبادة.

ومن الثغرات الخطيرة جداً في بيت الداعية: الزوجة غير المتدينة؛ فإن رجلاً مسلماً داعية إلى الله عز وجل يريد أن ينطلق في الدعوة، وهداية الناس وإرشادهم، ودلالتهم إلى طريق الحق، إذا أصيب في بيته في أقرب الناس إليه، وابتلي بزوجة سيئة غير متدينة، لا تقيم للمعروف وزناً ولا تحذر من المنكر، فأي حالٍ سيكون فيها هذا الرجل؟ وكيف سيكون انطلاقه في الدعوة وهو مصاب في عقر داره وفي أقرب الناس إليه؟.

- أسباب عدم تدين الزوجة:-

أول من يحتاج إلى دعوته زوجته ولا شك، ولا شك أن هؤلاء الشباب الذين يتساهلون في الأمر ويقول الواحد منهم: أتزوجها الآن ثم بعد ذلك ستتدين بالتدريج، وتلتزم بالتدريج؛ لا شك أن هؤلاء يخاطرون مخاطرةً عظيمة، فإن المسألة ليست مضمونة، وكثيراً ما تبقي الزوجة على حالها.

ثم إن الداعية إلى الله عز وجل من طبيعته الانشغال بدعوته، فهل سيكون متفرغاً لها بحيث يتابعها ويدعوها الدعوة التي تصلح شأنها، ويبذل لها المجهود المناسب لهدايتها، بإذن الله طبعاً؛ الهداية من الداعية هداية الدلالة والإرشاد، وليست هداية التوفيق والإلهام، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي من يشاء، فهل يا ترى سيتفرغ لذلك، أم أنه سيظن أنه سيفعل ثم لا يفعل؟ لأن الواقع الذي سيعيش فيه سيجره لانشغالات كثيرةٍ خارج البيت، فإذا كان ظهره في البيت غير مؤّمن، وإذا كان لا يخرج من درعٍ حصينة، فلا شك أنه سيكون مكشوفاً، ويكون مضطرباً قلقاً، ولذلك تجد بعض الناس الذين يفعلون بعض النجاحات الخارجية في دعوتهم إلى الله عز وجل يعانون من مصائب داخلية في بيوتهم؛ فيعانون من مشكلات كثيرة في زوجاتهم هم.

كما أن بعض النساء المتدينات أيضاً يعشن هذا الهاجس، وتحت مطرقة الزوج المنحرف، وبسبب أن منشأ القضية كان خطئاً: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فحث الرجل على الاهتمام والانتقاء واختيار المرأة الصالحة، وأخبر أن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، بل أمر فقال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولسانا ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة) أوصى بذلك وأمر به، وكذلك أمر أهل المرأة أن ينتقوا لبنتهم صاحب الخلق والدين، إذا كان منشأ القضية الغلط، فلم يحصل الانتقاء ولا الاختيار فلا يلوم بعد ذلك أو يتبرم الداعية ويقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي، أو تتبرم المرأة وتقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي؛ لأن المسألة خطأ من أصلها وبدايتها، وكان ينبغي أن يكون الحرص على صاحبة الدين وعلى صاحب الدين، وأن يكون الدين هو محور الاختيار، وهو الأساس في الانتقاء.

أما إذا لم يحصل ذلك فلا تقل بعد ذلك يا أيها الداعية: كيف أشتغل في دعوة الناس وزوجتي عندها انحرافات؟

كيف أتفرغ لهم وعندي ما يشغلني في الجبهة الداخلية؟

نقول: أنت السبب؛ نعم الإنسان قد يبتلى، وقد يلبس عليه في أشياء، لكن إذا كان حريصاً فلا شك أن هذا الجانب سيكون قليلاً جداً وضيقاً، والزوجة غير المتدينة ستطالب زوجها بأمور منها منكرات ومحرمات، أو على الأقل شبهات، ولن تصمد أمام أقربائها والآخرين إذا دعوهم لإدخال شيءٍ من المنكرات إلى البيوت، بل ستطالب الزوج، وربما تجعل حياته جحيماً لا يطاق.

إن الزوجة غير المتدينة لن تحتسب في غياب زوجها في الدعوة إلى الله وطلب العلم، ولن تصبر على افتقاده في البيت، ولا على بكاء الأطفال، ولا على تأخر الأغراض، ولا شك أن الإنسان إذا أمن الجبهة الداخلية ارتاح إذا انطلق في الخارج، وهذه مسألة لا يقدرها إلا من جربها.

- علاج المشكلة:-

لكن لنأتي الآن إلى الحل والعلاج فيما لو حصل شيء من التقصير من الزوجة؛ لو أنه ابتلي بزوجة غير متدينة، أو أنه تزوج امرأة متدينة ثم حصل منها تقصير، ومسألة الانتكاس أو التراجع شيء واقع موجود، فلو حصل هناك ضعف من جانب الزوجة أو الزوج فما هو الواجب إذن؟

ينبغي القيام أولاً بالتربية؛ تربية الزوجة وحثها على فعل الخيرات، وحضها على الصلاة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وعلى تلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار، والحث على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية، واستماع الأشرطة المفيدة، واختيار الحلقة التي تعينها بصويحباتها على أمر الآخرة، ودرء الشر وسد منافذه.

انظر إليه صلى الله عليه وسلم في بيته ماذا حصل لما وقعت عائشة في شيءٍ من القصور أو التقصير عن غير علمٍ منها؛ لكن المحرم يبقى محرماً، والمنكر يبقى منكراً، سواءً كانت الزوجة تعلم الحكم أولا تعلم الحكم، ولا بد أن يكون للزوج موقف، ولا بد أن يكون الموقف حاسماً، يتناسب مع العلاقة بينهما.

روى البخاري رحمه الله: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيما رواه أنها أخبرت القاسم بن محمد (أنها اشترت نمرقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل!! -والنمرقة: هي الوسادة التي يجلس عليها- فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها -يعني نيتي صالحة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وقال: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة).

وفي كتاب المظالم والغصب أخرج رحمه الله تعالى الحديث عن عائشة : أنها كانت اتخذت على سهوةٍ لها ستراً فيه تماثيل، فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم -هتكُه تدَّخل لتغييره بيده- فاتخذت منه نمرقتين، قد زالت التصاوير المحرمة عنها بالشق، فكانتا في البيت يجلس عليهما صلى الله عليه وسلم.

بل إنه عليه الصلاة والسلام في أدق من ذلك، وهي الأشياء التي تلهي عن الصلاة وإن لم تكن محرمة؛ لكن من أجل أنها تلهي عن الصلاة بزخارفها مثلاً كان يحارب ذلك، فقد أخرج البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة، عن أنس بن مالك : كان قرامٌ لـعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي).

وينبغي أن يكون موقف الزوج -كما سبق- موقفاً واضحاً جداً، وموقفاً مبنياً على الشريعة، لا بد أن يكون عنده علم، لأن الزوجة قد تسأله عن الدليل على تحريم هذا الشيء، فينبغي أن يكون عنده دليل.

كذلك بعض الأزواج يمشي الأمور في بيته، فيقع منكر بسيط فيرضى به ويسكت، ثم يوضع شيء فيه منكر أكبر قليلاً؛ قد يكون الأول من المشتبهات، والثاني الشبهة فيه أكبر، والثالث محرم من المحرمات التي ليست بالكبيرة، وهكذا تتدرج الأمور، فينبغي أن يكون العلاج من البداية علاجاً حاسماً، وينبغي أن يظهر أثر إنكار المنكر على وجه الزوج؛ لأنه قد جاء في الرواية أيضاً عند البخاري رحمه الله عن عائشة قالت: حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادةً فيها تماثيل -كأنها نمرقة- فجاء فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم!! فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: (ما بال هذه الوسادة؟ قلت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وأن من صنع الصورة يعذب يوم القيامة يقول: أحيوا ما خلقتم) الزوج المتعلم يسهل عليه إقناع زوجته؛ لكن الجاهل الذي لا يعرف الحكم، ولا يعرف الدليل، ولا يعرف السبب فإنه لو سألَتْه: لماذا؟ يقول: افعلي ولا تناقشي، ولا شك أن هذه الطريقة ليست طريقة مؤثرة في العلاج أو إزالة المنكر، ولذلك الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون عالماً بما يأمر، عالماً بما ينهى، حليماً فيما يأمر، حليماً فيما ينهى، وهكذا.

- أهمية صلاح الزوجة:-

ونعود مرةً أخرى فنقول: إن حياة الداعية تحتاج من زوجته إلى تضحيات؛ إن حياته للناس، فهو كما ينبغي أن يكون وقفاً لله تعالى وينبغي عليه أن يترك وقتاً لأهله؛ لكن لا شك أن الإنسان صاحب الارتباطات، الذي يغشى مجامع الناس وملتقياتهم وأنديتهم؛ ليقوم بواجب الدعوة والتذكير والنصح؛ لا شك أنه سيكون منشغلاً، إنه قد يلقي درساً أو موعظةً، أو يذهب في زيارةٍ، أو يمر على أماكن للتعليم فيها والإنكار والنصح ونحو ذلك، ويشترك في مناسبات تربوية لا شك أن هذه الأشياء تأخذ وقتاً منه.

والمرأة بطبيعتها تحب أن يكون زوجها سلماً سالماً لها لا يشاركها فيه أحد، وإذا كانت لا تقدر هذه الأشياء فمن الذي يقدر؟ لا شك أنها إذا كانت متدينة تفقه هذه الأمور فإنها ستقدر، وأما إذا كانت امرأة عادية لا تفقه ولا تفهم هذه الأشياء فإنها لن تقدر الواقع، فلذلك تتبرم من تأخره وتتضجر من تغيبه عن البيت.

ثم المسألة- أيها الإخوة- أعمق من ذلك، ولعلنا ندخل في شيءٍ من هذا العمق من خلال الرواية التالية في فائدة الأهل الطيبين، فائدة الزوجة الصالحة والأولاد الصالحين، والكلام ليس فقط عن الزوجة الصالحة؛ لأن أهل البيت يعينون أباهم أو يعينون الذي يرعاهم على الدعوة إلى الله، سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ زوجات أو بنات، أولاداً ذكوراً أو إناثاً، المقصود أن يكون بيت الداعية صالحاً، ومن فيه صلحاء حتى يعينوه.

أقول: إن مسألة حساسية أهل البيت وصلاحهم، لا شك أن له أثراً كثيراً في نجاح الداعية في حياته، وتمعنوا معي الآن في هذه الرواية:

روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين وعلفهما أربعة أيام استعداداً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة : (فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل لـأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً؛ في ساعة لم يكن يأتينا فيها؛ لأن نحو الظهيرة هذا من أوقات القيلولة والاستراحة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد جاء متخفياً متقنعاً فقال أبو بكر : فداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ - أي: عظيم- قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر : أخرج من عندك -هناك نبأ مهم خاص لا يصلح أن يشاع ويعرف، أخرج من عندك؛ هناك سرٌ أريد أن أقوله لك- فقال أبو بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله) يعني اطمئن، فأهل بيتي على مستوى الثقة وحفظ الأسرار، لا تخش من هذه الناحية، إذاً تربية أهل البيت تعود بالنفع في أشياء كثيرة؛ منها حفظ الأسرار والأمور الخطيرة.

إنما هم أهلك يا رسول الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام لما اطمئن: قد أذن لي في الخروج- يعني الهجرة، طبعاً هذا نبأ سري جداً لا يصلح أن يعرف، لأنه لو عرف وانتقل إلى كفار قريش حدثت المصيبة- فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله -أي: أطلب الصحبة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم تصحبني، قال أبو بكر : فخذ إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن، قالت عائشة -وهذا أيضاً شاهد في موضوعنا -فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها فربطت به على فم الجراب، ما وجدت شيئاً تربط به فشقت من هذا الحزام والنطاق الذي في وسطها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين .

إذن أهل البيت عندما يكونون على مستوى جيد من التربية، تكون منهم الإعانة وتدبير الأمور، وتسهيل الأشياء في المراحل الخطيرة والحساسة، وحفظٍ الأسرار، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور .

هل من الهين على البنتين البقاء في البيت، وأن يغيب الراعي والأب ويخرج ليهاجر تاركاً البلد، وماذا يحدث لهما بعد ذلك؟ الله أعلم! فقد ينتقم منهما الأعداء، وقد روي أن أبا جهل وأبا سفيان جاءا للتحقيق في موضوع خروج أبي بكر الصديق ، وحدث أنه لطم أسماء ، إذن قد يتعرض بيت الداعية وأهله للأذى بسبب شيء تقتضيه المصلحة الشرعية، كما اقتضت هنا خروج النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر مفارقين للبلد، مهاجرين إلى بلد آخر.

إذن أنت تأمل -يا أخي- الآن في وضع حل من أجل صلاح الأهل والأولاد، الوزن الكبير في نجاح الداعية في حركته، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال، فهل انتهت مهمة الأهل في البيت؟

لا.. يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلامٌ شابٌ ثقفٌ لقنٌ، فيدلج من عندهما بسحرٍ، فيصبح مع قريش في مكة كبائت، فلا يسمع أمراً يُختانان به إلا وعاه، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر أباه ويخبرهما الخبر كل ليلة.

حتى هذا الولد لما صار على هذا المستوى من التربية، صار الحزب في الداخل والخارج، والرعاية في الداخل والخارج، والتزويد والتموين قائم، فالمسألة كبيرة جداً ولها أبعاد عظيمة جداً إذا صلح أهل بيت الرجل، وليس المقصود بالصلاح المحافظة على الصلوات فقط أو قراءة القرآن، المسألة تحتاج إلى تربية كذلك في جوانب الأخلاق والآداب وحفظ الأسرار، تحتاج المسألة إلى تربية على الصبر والتضحية، الصبر على غياب العائل لأجل مصلحة هذا الدين، أبو بكر غاب عن بيته لأجل مصلحة الدين، ماذا سيحدث لبناته؟ الله أعلم!

ما هو المصير الذي ستواجهه؟ الله أعلم!

لكن الثقة بالله، اليقين، الإيمان والدين.

ثم الزوجة إذا كانت على مستوى أن تضحي سهل على الرجل أن يقوم بعبادات لا يستطيع أن يقوم بها لو كانت زوجته لا تضحي.

خذ هذا المثل مما رواه البخاري رحمه الله كذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء -أي: ما عندنا شيء نضيف الضيف- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء -هل هذا شيء سهل؟- فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها على غير طعام، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفئته - بحركة تمثيلية أطفئت السراج حتى لا يحرج الضيف- فجعلا يريانه أنهما يأكلان هو وزوجته، فباتا طاويين هما والأولاد على جوع، والطعام الذي كان موجوداً ولا يكفي إلا للأولاد أكله الضيف، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما! فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]) لو كانت هذه المرأة ليست على مستوى التضحية والتحمل لصعب عليها أن تتحمل نوم أولادها جياعاً، وتقديم الطعام للضيف، وربما تقول: اخرج أنت وضيفك! ولا يمكن أن أقدمكما على أولادي! لكن عندما تكون المرأة عندها هذه التربية على الإيثار يسهل على الرجل أن يقوم بهذه العبادة.

وكذلك -أيها الأخوة- فإن من أسباب حصول هذه الثغرة في البيت: تقصير الداعية في حق أهله، التقصير في إبراز القدوة الصالحة، عدم الاهتمام بتربية الزوجة، وربما يكون من السياسة الحكيمة الاهتمام بالزوجة في البداية، حتى إذا حصلت شيئاً جيداً جعل الرجل بعد ذلك همه للناس، وشيء من التركيز في البداية يريح الإنسان فيما بعد.


استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3615 استماع
التوسم والفراسة 3614 استماع
مجزرة بيت حانون 3544 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3500 استماع
اليهودية والإرهابي 3429 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3429 استماع
حتى يستجاب لك 3396 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3376 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3350 استماع
الزينة والجمال 3340 استماع