احتجاج المذنبين بالقدر


الحلقة مفرغة

إن من معجزات الإسلام العظمى أنه أخرج لنا رجالاً سادوا البلاد والعباد، فبنوا لنا حضارة ما عرف التاريخ مثلها، واختفت عندهم الذلة والسلبية، والأنانية والغلظة، وحقارة الأهداف وتفاهة الطموح، وأصبح الواحد منهم يوزن بأمة بأجمعها، وكان الفوز والفلاح باتباع أثر هؤلاء الرجال، والوصول إلى ما وصلوا إليه.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلَّى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة المسلمون! نتحدث اليوم عن موضوع يتعلق بنفسية التائب إلى الله عز وجل، ومن الأمور التي ذكرناها سابقاً مسألة الاعتذار؛ الاعتذار إلى الله عز وجل عن الذنوب التي ارتكبها العبد.

خطر الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي

وهاهنا -أيها الإخوة- مزلق عظيم يقع فيه كثير من الناس، ويتورطون فيه وهو من مصائد الشيطان، وذلك أن أحدهم إذا جاء ليعتذر إلى ربه عن الذنوب والسيئات التي ارتكبها، فإنه يعتذر إليه بالقدر، يعتذر إلى ربه اعتذار المخاصم، واعتذار الذي كأنه يقول: لست أنا الذي أخطأت وأذنبت، وإنما أنت الذي قدرت عليَّ هذا الذنب، وأنت الذي أجبرتني على فعله.

ولذلك كان هذا المزلق الخطير من الأمور التي تزيد في غضب الرب عز وجل، بدلاً من أن تنقل هذا الإنسان إلى مواقع الرحمة وعظيم رضوان الله تعالى.

وإن كثيراً من الذين يزعمون أنهم يتوبون إنما هم مخاصمون لله عز وجل في مسائل القدر، وأحياناً يكون خصامهم عن جهل، وهو جهل قبيح جداً لا يعذر فيه المسلم، وأحياناً يكون عن شُبَهٍ، وأحياناً يكون عن إصرار وإقدام، فهذا كيف يغفر الله عز وجل له؟

فالذي يزني ثم يقول لربه -بينه وبين نفسه-: أنت الذي قدرت عليَّ الزنا، وأنت الذي أجبرتني عليه، فما هي حيلتي؟ وما هو ذنبي؟

هذا القائل -أيها الإخوة- على خطر عظيم؛ لأنه لم يُرد بالاعتذار التقرب إلى الله عز وجل، وإظهار ضعفه، والمسكنة بين يديه، وتبيان غلبة العدو عليه، ولكنه أراد أن يخاصم ربه، وأن يحتج عليه، فكيف يقبل الله اعتذار هذا الرجل، فمثل هذا الذي يخاصم ربه مخاصمته منافية للتوبة.

فإن العبد أذنب فقال: يا رب هذا قضاؤك، وأنت قدرت عليّ، وأنت حكمت عليَّ، وأنت كتبت عليَّ، فالله يقول له: وأنت عملت، وكسبت، وأردت واجتهدت، وأنا أعاقبك عليه؛ لأن هذا ليس بعذر إطلاقاً، أما إذا كان لسان حال العبد يقول: يا رب أنا ظلمت، وأخطأت، واعتديت، وفعلت، فعند ذلك ترى الله يقول له: وأنا قدرت عليك، وقضيت وكتبت، وأنا أغفر لك.

فالاعتذار أيها الإخوة! اعتذاران: اعتذار ينافي الاعتراف، فهذا مناف للتوبة، واعتذار يقرر الاعتراف، يقول: يا رب أنا فعلت وقصرت، وأخطأت وأذنبت وأجرمت، وأنا مقر بذنوبي ومعترف بها، واعتذر إليك عما فعلت، فهذا الاعتذار -أيها الإخوة- هو الذي يرضاه الله عز وجل، ويقبله.

وأما من خاصم الله تعالى، وقال له: أنت قدرت عليَّ، فما هو ذنبي؟ فعذره غير مقبول، وهذا الاعتذار بالقدَر يتضمن تنزيه الجاني لنفسه، فكأنه يقول لربه: أنا لست مذنباً، فينزه نفسه وهو الذي تمرغ في أوحال الذنوب والمعاصي، وينزه ساحته وهو الظالم الجاهل، الذي قال الله تعالى فيه: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].. إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6] والكنود هو: الكفور الذي يجحد نعم الله، ويعد المصائب وينسى النعم، هو الذي تنسيه الخصلة الواحد من الإساءة، الخصال الكثيرة من الإحسان، هذا هو الكنود.

هذا الظالم الجاهل لو تأمل في حال نفسه، لعلم بأنه هو الذي قعد على طريق مصالحه يقطعها عن الوصول إليه، هذا هو الحجر الذي يمنع تسرب الماء، وهذا هو الغي الذي يمنع شمس الهدى عن التدفق إلى القلب والسطوع عليه، فما أضر هذا الاعتذار السيئ على هذا العبد.

ما تبلغ الأعداء من جاهل     ما يبلغ الجاهل من نفسه

هذا الجاهل نفسه تجني عليه، وهو يتضرر بهذه الأعذار القبيحة أكبر مما يتضرر من اعتداء الأعداء عليه، هذا الرجل ينادي ويقول: طردوني وأبعدوني، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب؛ بل هو الذي أغلقه على نفسه، وأضاع المفاتيح وكسرها.

هذا الرجل الذي يعتذر بالقدر، يقول لله: أنت قدرت عليّ، أنا ليس لي حيلة، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب، وكسر المفاتيح بعدما أغلق الباب، ثم يقول: طردوني وأغلقوا الباب دوني.

هذا الرجل الذي جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفيق وأخذ بحجزته عن النار، يريد أن يمنعه من التقحم في النار، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحمها، ثم يقول: ما حيلتي وقد قدموني إلى هذه الحفرة وقذفوني فيها! ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصحه، وقال له: الحذر الحذر من الوقوع في هذه الحفرة! وبين له مصائر الذين تقحموا فيها قبله، وتلا عليه من الوحي كيف كان الكفار والفسقة والعصاة، وكيف أوردتهم ذنوبهم وكفرهم إلى حفر النار، وهو ينازع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يريد أن يمنعه من جهنم، ينازعه ويتقحم في النار، ثم يقول: هو الذي قذفني فيها.

أمثلة واقعية تبطل الاحتجاج بالقدر

كيف هي عقلية هذا الرجل؟ يا ويله! ظهيراً للشيطان على ربه، خصماً لله مع نفسه، عاجز الرأي، مضياعاً لفرصته، معاتباً لأقدار ربه، يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وأمته.

لو أن إنساناً -أيها الإخوة- قال لأحد أولاده: ائتني بكأس من الماء، أو قال لزوجته: ائتيني بالحاجة الفلانية، ثم إن هذا الولد أو هذه المرأة عصت هذا الرجل، ورفضت الانقياد له، وهذا الولد لم يأتِ لأبيه بكوب الماء، فلما غضب أبوه عليه وقال له: لماذا امتنعت؟ قال: هذا قدر الله، والله قدر علي ألا أطيعك وألا آتيك بالكأس من الماء، ماذا ترى هذا الأب يفعل؟ هل يرضى بهذا العذر السخيف من الولد؟ أم تراه يقوم إليه معاقباً، وعلى رأسه ضارباً ومهدداً ومتوعداً، بهذا العذر السخيف.

فيكف يرضى هذا الرجل أن يعذر نفسه بأعذار لا يقبلها من زوجته ولا من ولده، فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه، أو نهاه عن شيء فارتكبه وقال هذا المذنب: القدر ساقني إلى ذلك لما قبل منه هذه الحجة، ولبادر إلى عقوبته. إذا تسبب أحد الموظفين في خسارة، فلما ناقشه مديره قال: إن القدر ألجئني إلى هذا الشيء، وأنا ليس لي ذنب فيه، هل يرضى المدير من الموظف هذا العذر؟ كلا.

الرد على المحتجين بالقدر

إذاً: لماذا يعتذر ويحتج أولئك الفسقة والعصاة إلى ربهم بهذه الأعذار، ويقول أحدهم: أنا ليس لي حيلة، وليس لي مهرب، أنت الذي قدرت عليَّ، وهذا مع تواتر إحسان الله إلى هذا العبد، أحسن إليك أشد الإحسان، أزاح عللك، ومكنك من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل وهم الرسل، وأعطاك مؤونة السفر، وزودك بالتوجيهات القرآنية والنبوية، وأعطاك ما تحارب به قطاع الطريق من الأبالسة، وشياطين الإنس الذين يوقعونك في المعاصي، وأعطاك ما تحذر منهم، من الأدوات التي تحاربهم بها، وأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر، والنافع والضار، وأرسل إليك رسوله، وأنزل إليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل، وأعانك بمدد من جنده الكرام من الملائكة، يثبتونك ويحرسونك، ويحاربون عدوك، ويطردونه عنك -وهذه من وظيفة الملائكة- ويريدون منك ألا تميل إلى هذا العدو ولا تصالحه.

وأنت تأبى إلاَّ مظاهرة هذا العدو عليهم، واتباع طريق الشيطان، وموالاته دونهم؛ بل تظاهره وتواليه دون وليك الحق الذي هو أولى بك.

لماذا طرد الله إبليس من سمائه؟ ولماذا حرمه الجنة وأبعده عن قربه؟

لأنه رفض أن يسجد لك أنت أيها الإنسان، لكرامتك عند الله طرد إبليس من أجلك؛ لأنه لم يسجد لك واحتقرك وامتهنك، وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

من أجلك أنت طرد الله إبليس عن سمائه، وأخرجه من جنته، ثم أنت توالي هذا الشيطان، وتسير في ركابه، وتسلك طريقه معادياً ربك الذي أكرمك أنت بطرد إبليس.

وبعدما توالي هذا العدو، وتميل إليه وتصالحه تتظلم وتشتكي بالطرد والإبعاد.

أمرك الله بشكره لا لحاجته إليك، ولكن لتنال أنت المزيد من فضله، فجعلت كفر نعم الله والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب زوال النعم، وأمرك الله بذكره ليحسن إليك بالثواب، فجعلت نسيان الله ديدنك، فجعلت الله ينساك: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67].

أيها الإخوة! إن هذا الرجل لا يصلح على عافية ولا على ابتلاء، فالعافية تسبب الزيادة في المعاصي، وكفران النعمة، والابتلاء يجعل الإنسان يشتكي إلى الخلق ويقول: رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:16] دعاك إلى بابه فما وقفت عليه ولا طرقته، ثم فتحه لك فما عرجت عليه ولا ولجته، أرسل إليك رسوله يدعوك إلى دار كرامته فعصيت الرسول، وقلت: لا أبيع ناجزاً بغائب، ولا نقداً بنسيئة.

خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به     في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

هذا لسان حال العصاة، يقول: آخذ النعيم الذي أراه الآن أمامي، لا أنتظر النعيم الآخر المؤجل الغائب عن نظري، أنا أريد هذا النعيم.

إذا وافق حظ هذا الإنسان طاعة الرسول أطاعه؛ لا طاعةً وحباً في رسول الله، ولكن ليحصل على مبتغاه، ومع ذلك فإن الله تعالى لم ييئيسك من رحمته؛ بل قال: متى جئتني قبلتك، إن أتيتني ليلاً قبلتك، وإن أتيتني نهاراً قبلتك، وإن تقربت مني شبراً تقربت منك ذراعاً، وإن تقربت مني ذراعاً تقربت منك باعاً، وإن مشيت إليَّ هرولت إليك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، ومن أعظم مني جوداً وكرماً، عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل إليّ تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.

أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليّ، فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب.

بلغ من رحمة الله أنه يبتلي بعض العباد بالمصائب ليكفر عنهم ذنوبهم، من آثرني على سواي، آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له، اشكر اليسير من العمل، واغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، قال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض مهلكة دوية عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا أيس من حصولها، نام في أصل شجرة ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا هي على رأسه، قد تعلق خطامها بالشجرة، فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته).

أهمية التركيز على موضوع القدر

أيها الإخوة: ما حال كثير من الناس اليوم الذين يعذرون أنفسهم بذنوبهم، ويخاصمون الله تعالى؛ بل إنهم يعذرون العصاة فترى أحدهم إذا رأى رجلاً منغمساً في المعاصي، قال: هذا مسكين معذور! تسلط عليه إبليس.. شهوته قوية لا يستطيع أن يمنع نفسه، وهكذا.

بل بلغت الوقاحة ببعضهم أنه رأى سارقاً قد قطعت يده، فقال: إنه مسكين.. أجبره الله على السرقة، ثم قطع يده عليها، هكذا هؤلاء الكفرة القدرية الذين يخاصمون الله تعالى، وسيكون الله خصمهم يوم القيامة.

واعلموا -أيها الإخوة- إن التركيز على هذا الموضوع من الأهمية بمكان؛ لأنه -وللأسف الشديد- قد تطرق الخلل إلى عقيدة كثير من العامة في هذا الأمر.

كثير من العامة إذا جئت تناقشهم يقول: هذا قدر الله.. ماذا أفعل؟! هذا كتبه الله عليَّ، فما هي حيلتي وما هو ذنبي؟ هذا الخلل خطير جداً في العقيدة، وهذا الخلل قد ينقلك من حظيرة الإسلام إلى دائرة الشرك والكفر.

وهذا الخلل عظيم ينبغي الانتباه إليه اليوم كثيراً، وينبغي لدعاة الإسلام أن يتحسسوا مواطنه في قلوب الناس، ويزيلوا عن أعينهم هذه الأغشية من الشبهات، ويوضحوا عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر، إيضاحاً شافياً كافياً للناس.

إن الله أعطانا الإرادة، وسهل لنا سبيل الخير، وأنزل علينا الكتب، وأرسلنا إلينا الرسل، وقال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:5-10].

جعلنا الله وإياكم من أهل طاعته، وأهل طريق الخير والسعادة، ونسأله أن ييسرنا لليسرى، وصلى الله على نبينا محمد.

وهاهنا -أيها الإخوة- مزلق عظيم يقع فيه كثير من الناس، ويتورطون فيه وهو من مصائد الشيطان، وذلك أن أحدهم إذا جاء ليعتذر إلى ربه عن الذنوب والسيئات التي ارتكبها، فإنه يعتذر إليه بالقدر، يعتذر إلى ربه اعتذار المخاصم، واعتذار الذي كأنه يقول: لست أنا الذي أخطأت وأذنبت، وإنما أنت الذي قدرت عليَّ هذا الذنب، وأنت الذي أجبرتني على فعله.

ولذلك كان هذا المزلق الخطير من الأمور التي تزيد في غضب الرب عز وجل، بدلاً من أن تنقل هذا الإنسان إلى مواقع الرحمة وعظيم رضوان الله تعالى.

وإن كثيراً من الذين يزعمون أنهم يتوبون إنما هم مخاصمون لله عز وجل في مسائل القدر، وأحياناً يكون خصامهم عن جهل، وهو جهل قبيح جداً لا يعذر فيه المسلم، وأحياناً يكون عن شُبَهٍ، وأحياناً يكون عن إصرار وإقدام، فهذا كيف يغفر الله عز وجل له؟

فالذي يزني ثم يقول لربه -بينه وبين نفسه-: أنت الذي قدرت عليَّ الزنا، وأنت الذي أجبرتني عليه، فما هي حيلتي؟ وما هو ذنبي؟

هذا القائل -أيها الإخوة- على خطر عظيم؛ لأنه لم يُرد بالاعتذار التقرب إلى الله عز وجل، وإظهار ضعفه، والمسكنة بين يديه، وتبيان غلبة العدو عليه، ولكنه أراد أن يخاصم ربه، وأن يحتج عليه، فكيف يقبل الله اعتذار هذا الرجل، فمثل هذا الذي يخاصم ربه مخاصمته منافية للتوبة.

فإن العبد أذنب فقال: يا رب هذا قضاؤك، وأنت قدرت عليّ، وأنت حكمت عليَّ، وأنت كتبت عليَّ، فالله يقول له: وأنت عملت، وكسبت، وأردت واجتهدت، وأنا أعاقبك عليه؛ لأن هذا ليس بعذر إطلاقاً، أما إذا كان لسان حال العبد يقول: يا رب أنا ظلمت، وأخطأت، واعتديت، وفعلت، فعند ذلك ترى الله يقول له: وأنا قدرت عليك، وقضيت وكتبت، وأنا أغفر لك.

فالاعتذار أيها الإخوة! اعتذاران: اعتذار ينافي الاعتراف، فهذا مناف للتوبة، واعتذار يقرر الاعتراف، يقول: يا رب أنا فعلت وقصرت، وأخطأت وأذنبت وأجرمت، وأنا مقر بذنوبي ومعترف بها، واعتذر إليك عما فعلت، فهذا الاعتذار -أيها الإخوة- هو الذي يرضاه الله عز وجل، ويقبله.

وأما من خاصم الله تعالى، وقال له: أنت قدرت عليَّ، فما هو ذنبي؟ فعذره غير مقبول، وهذا الاعتذار بالقدَر يتضمن تنزيه الجاني لنفسه، فكأنه يقول لربه: أنا لست مذنباً، فينزه نفسه وهو الذي تمرغ في أوحال الذنوب والمعاصي، وينزه ساحته وهو الظالم الجاهل، الذي قال الله تعالى فيه: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].. إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6] والكنود هو: الكفور الذي يجحد نعم الله، ويعد المصائب وينسى النعم، هو الذي تنسيه الخصلة الواحد من الإساءة، الخصال الكثيرة من الإحسان، هذا هو الكنود.

هذا الظالم الجاهل لو تأمل في حال نفسه، لعلم بأنه هو الذي قعد على طريق مصالحه يقطعها عن الوصول إليه، هذا هو الحجر الذي يمنع تسرب الماء، وهذا هو الغي الذي يمنع شمس الهدى عن التدفق إلى القلب والسطوع عليه، فما أضر هذا الاعتذار السيئ على هذا العبد.

ما تبلغ الأعداء من جاهل     ما يبلغ الجاهل من نفسه

هذا الجاهل نفسه تجني عليه، وهو يتضرر بهذه الأعذار القبيحة أكبر مما يتضرر من اعتداء الأعداء عليه، هذا الرجل ينادي ويقول: طردوني وأبعدوني، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب؛ بل هو الذي أغلقه على نفسه، وأضاع المفاتيح وكسرها.

هذا الرجل الذي يعتذر بالقدر، يقول لله: أنت قدرت عليّ، أنا ليس لي حيلة، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب، وكسر المفاتيح بعدما أغلق الباب، ثم يقول: طردوني وأغلقوا الباب دوني.

هذا الرجل الذي جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفيق وأخذ بحجزته عن النار، يريد أن يمنعه من التقحم في النار، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحمها، ثم يقول: ما حيلتي وقد قدموني إلى هذه الحفرة وقذفوني فيها! ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصحه، وقال له: الحذر الحذر من الوقوع في هذه الحفرة! وبين له مصائر الذين تقحموا فيها قبله، وتلا عليه من الوحي كيف كان الكفار والفسقة والعصاة، وكيف أوردتهم ذنوبهم وكفرهم إلى حفر النار، وهو ينازع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يريد أن يمنعه من جهنم، ينازعه ويتقحم في النار، ثم يقول: هو الذي قذفني فيها.