حق العالم على المسلم


الحلقة مفرغة

الحمد لله العالم ما في السماوات وما في الأرض، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم، وقال له في محكم التنزيل: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113]، وأمر الله نبيه بالاستزادة من شيء واحد لم يأمره بالاستزادة من غيره، فقال جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].

الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس، وما أقبح آثار الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

ولما قال الله جل وعلا في الكتاب العزيز: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ [النساء:59] قال علماؤنا في التفسير: المراد بأولي الأمر: بها العلماء العاملون، الذين يعلمون الوحي ويعملون به ويعلمونه للناس، وأشهد الله العلماء على أعظم حقيقة في هذا الكون، وفضَّلهم بالشهادة عليها على الملائكة، فقال الله جل وعلا: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] هذه أعظم حقيقة أيها الإخوة، من أشهد الله عليها؟ أولو العلم، ونفى الله المساواة بين العلماء والجهال، فقال جل وعلا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

خطر غيبة العلماء أو انتقاصهم

قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في بيان فضل العلماء وخطر شأنهم: واعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12] فالذي يغتاب العلماء إنما يأكل لحماً مسموماً.

وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، إذ أن هؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم أولياء الله جل وعلا، فإذا لم ينتقم من أعداء هؤلاء العلماء فممن ينتقم؟! وقد أخبر أن من أسمائه المنتقم.

فهؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، والأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، وهم وارثو علم الأنبياء.

وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فشهد لهم بأنهم هم الذين يخشونه حق الخشية، علماؤنا -أيها الإخوة- من السلف والخلف الملجأ إليهم بعد الله عند نزول الملمات، عند حلول الكربات، هم الذين يفرجون عن عباد الله ظلمات الجاهلية، ويرفعون عن الناس ظلمات الجهل، إليهم الملجأ بعد الله إذا اشتد الخطب في الأمة.

فضل العلماء في التصدي للفتن

ولذلك -أيها الإخوة- كان لعلمائنا الأجلاء فضل عظيم في الوقوف أمام ظلمات الفتن والأهواء والبدع، فهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى قام في وقت عصيب قد طغت فيه البدعة على السنة، عقد المبتدعة ألوية بدعتهم وقاموا فيها وأعلنوها واستعلنوا بها، فمن الذي رد الناس كلهم إلى الحق مثل الإمام أحمد.

وعندما غزا التتر بلاد الإسلام وولغوا في دماء المسلمين، من الذي أنقذ الله الأمة على يديه؟

إنه مجدد الأمة في عصره الإمام ابن تيمية رحمه الله، فالعالم -أيها الإخوة- في البلد كمثل عين عذبة يرتوي منها كل الناس، وكان علماؤنا في الماضي لهم مكانة عظيمة، وكانت مجالسهم في مدن المسلمين مشهورة مزدحمة، فهذا مجلس عاصم بن علي شيخ البخاري كان يحضره ما يزيد على سبعين ألف إنسان، وكان من ضخامته أنه يكون فيه أناس يسمعون غيرهم، لأن هؤلاء السبعين ألفاً كانوا لا يستطيعون كلهم السماع مباشرة.

قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في بيان فضل العلماء وخطر شأنهم: واعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12] فالذي يغتاب العلماء إنما يأكل لحماً مسموماً.

وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، إذ أن هؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم أولياء الله جل وعلا، فإذا لم ينتقم من أعداء هؤلاء العلماء فممن ينتقم؟! وقد أخبر أن من أسمائه المنتقم.

فهؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، والأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، وهم وارثو علم الأنبياء.

وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فشهد لهم بأنهم هم الذين يخشونه حق الخشية، علماؤنا -أيها الإخوة- من السلف والخلف الملجأ إليهم بعد الله عند نزول الملمات، عند حلول الكربات، هم الذين يفرجون عن عباد الله ظلمات الجاهلية، ويرفعون عن الناس ظلمات الجهل، إليهم الملجأ بعد الله إذا اشتد الخطب في الأمة.

ولذلك -أيها الإخوة- كان لعلمائنا الأجلاء فضل عظيم في الوقوف أمام ظلمات الفتن والأهواء والبدع، فهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى قام في وقت عصيب قد طغت فيه البدعة على السنة، عقد المبتدعة ألوية بدعتهم وقاموا فيها وأعلنوها واستعلنوا بها، فمن الذي رد الناس كلهم إلى الحق مثل الإمام أحمد.

وعندما غزا التتر بلاد الإسلام وولغوا في دماء المسلمين، من الذي أنقذ الله الأمة على يديه؟

إنه مجدد الأمة في عصره الإمام ابن تيمية رحمه الله، فالعالم -أيها الإخوة- في البلد كمثل عين عذبة يرتوي منها كل الناس، وكان علماؤنا في الماضي لهم مكانة عظيمة، وكانت مجالسهم في مدن المسلمين مشهورة مزدحمة، فهذا مجلس عاصم بن علي شيخ البخاري كان يحضره ما يزيد على سبعين ألف إنسان، وكان من ضخامته أنه يكون فيه أناس يسمعون غيرهم، لأن هؤلاء السبعين ألفاً كانوا لا يستطيعون كلهم السماع مباشرة.

أخرج ابن كثير في كتابه البداية والنهاية أن أبا محمد البربهاري الحنبلي، عطس يوماً وهو يعظ في مجلس الوعظ الضخم فشمته الحاضرون، ثم شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة، هؤلاء العلماء -أيها الإخوة- لهم صفات لا بد من معرفتها حتى نعلم من هو العالم الذي تجب طاعته؟ ومن هو العالم الذي يجب الاقتداء به؟ ومن هو العالم الذي نلجأ إليه بعد الله إذا نزل بالبلاد والعباد الكرب وعمت الأهواء؟

ليس أي أحد يلجأ إليه في مثل هذه الأمور، وقد صنف علماؤنا في بيان صفات أهل العلم مصنفات عديدة وليس هذا الدرس مكاناً لذكر صفات العلماء بالتفصيل ولكن نعرج عليها بسرعة:

صفات العلماء المتعلقة بالعلم والعمل

أولاً: لا بد أن يكون العالم ذو علم صحيح، مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، وأن يكون له عموم اطلاع على أقوال أهل العلم المعتبرين، ولا بد أن يكون مخلصاً لله جل وعلا، لا يرجو في إبلاغ علمه للناس جزاءً ولا شكوراً، إلا رضا الله جل وعلا، وكذلك سنَّ علماؤنا نهجاً واضحاً في التخفف من الدنيا والابتعاد عن إذلال النفس وإهانتها، في سبيل تحصيل فضول العيش، وكانوا لا يستنكفون عن القيام بأي عمل يدوي مهما كان حتى يعيشوا من ورائه، وكانت لهم صفة مهمة، كذلك كانوا ملتصقين بالناس ما كانوا يعيشون في كهوف أو تحت الأرض، أوفي الظلام، أو وراء الكواليس لا يدري عنهم أحد ولا يسمع بهم أحد، بل كانوا يظهرون إلى الناس، ويعايشون مشكلات المجتمع ويفتون في المواقف التي تنزل بالمسلمين، لم يكونوا بمعزل عن الحياة.. كانوا يخالطون الناس في مساجدهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، ولذلك نجحوا في علاج مشكلات الناس، وكان لهم وزن في المجتمع، ولذا حاول الاستعمار أو الاستخراب عندما دخل بلاد المسلمين، كان من أول أهدافه: عزل العلماء عن الأمة؛ لأنهم شعروا بخطر القضية.

وكذلك من صفات العلماء العمل بالعلم، فإن الله ذم اليهود؛ فقال جلَّ وعلا: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [الجمعة:5] العالم من اليهود ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] ولذلك كان علماؤنا يحرصون على العمل بالعلم، فهذا الإمام أحمد كان يحرص على ألا يدع حديثاً في مسنده الذي كان مسنداً ضخماً بلغت أحاديثه تقريباً أربعين ألف حديث كان لا يضع حديثاً حتى يعمل به ولو مرة واحدة، وقال عن نفسه: احتجمت فأعطيت الحجام ديناراً؛ لأنه ثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً.

وكانت محبتهم للظهور معدومة، ما كانوا يحبون الظهور بمعنى: المراءاة والتباهي بالعلم، إذا غابوا لم يفتقدوا، كانوا بعيدين عن الأضواء، والمقصود بالأضواء ليس مخالطة الناس، وإنما مجتمعات الثناء والتكريم.. مجتمعات الأعطيات والأموال والهدايا الثمينة كانوا يبتعدون عنها.

وكانوا يتصفون بصحة العقيدة، فإذاً العالم الحق هو الذي يكون صحيح العقيدة، ولا يشترط أن يكون العالم مجتهداً ملماً في جميع الأمور؛ بل قد يكون العالم مختصاً بنوع من أنواع العلوم، ومع ذلك يعتبر عالماً.

موقف العلماء من بعضهم بعضاً

كذلك يا إخواني موقف العلماء بعضهم من بعض يدل على صفات عظيمة يجب أن تكون في العلماء، فثناء بعضهم على بعض كان صفة لازمة للمخلصين منهم، كانوا يثنون على بعضهم في المجالس وفي حلقات العلم، وكان اللاحق منهم يترحم على السابق إذا ذكر فائدة أخذها عنه، وكانوا يستفيدون من كتب بعضهم، وكان يحضر بعضهم مجالس بعض، ما كانوا متكبرين ولا متعالين، ومع أن بعضهم قد يكون حدث بينه وبين بعض العلماء أشياء ولكنهم كانوا رجاعين إلى الحق.

هذا شيخ الهند في عصره وعالمها الإمام صديق حسن خان، كان بينه وبين عبد الحي اللكنوي، منافسات شديدة، فلما توفي اللكنوي تأسف صديق خان بموته تأسفاً شديداً، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وقال حفيده: إنه أمر بإغلاق مدينة بهوبال التي هو ملكها؛ لأنه كان ملكاً عالماً ثلاثة أيام حزناً على الشيخ أبي الحسنات اللكنوي، وقال: اليوم مات ذوق العلم.

وقال: ما كان بيننا من منافسات إنما كان للوقوف على المزيد من العمل والتحقيق.

وهذا شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لا يكاد يجد فرصة يذكر فيها أحد علماء العصر إلا ويثني عليه، تواضعاً منه وما حباه الله به من هذه الصفة العظيمة، فتراه مثلاً يقول عن محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، يقول: لا أعلم تحت أديم السماء رجلاً أعلم منه بالحديث، ولا أشد اشتغالاً ولا تفرغاً ولا عناية به من أحد من أهل العلم بالحديث، وهذا كلام سمعته منه بنفسي، وقد نفى أنه قال: ليس تحت أديم السماء أعلم من الألباني بالحديث، قال: أنا لا أقول بهذا، أنا أقول: لا أعلم شخصياً، يقول الشيخ: لأن الإحاطة لله جل وعلا.

ويثني على الشيخ الشنقيطي رحمه الله، ويثني على الشيخ ابن عثيمين في المجالس، وعلى الشيخ الفوزان وبقية العلماء.

التواضع صفة لازمة، قال الله جل وعلا نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76] ولذلك كانوا يكثرون من قولة: لا أدري، إذا سئلوا عن مسألة لا يعلمونها، يقول أحدهم: لا أدري، وكان لا يستحون من ذكر هذه الكلمة، بل إن ذكرها أيها الإخوة دليل اطمئنان وارتياح للعالم الذي يقولها، لأنك تثق من كلامه عندما يقول في المسألة: لا أدري، لا يزعم الإحاطة والعلم بالأمور ويفتي بغير علم.

وقد سألته مرة حفظه الله: هل الغيرة من الحسد أم لا؟ فلبث ملياً متفكراً، ثم قال: لا أدري، قد يقول قائل: هذه مسألة لا علاقة لها بالفقه وليس فيها أحكام، ولكن فيها درس لكل عالم ولكل طالب علم بالتورع عن القول بما لا يدري، وعن الوقوف ولا ينزل من شأنه أن يقول: لا أدري، وهذا الإمام مالك سئل عن ثمانية وأربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين منها: لا أدري، فقال له السائل: ماذا أقول للناس إذا رجعت إليهم قال: قل لهم: يقول مالك: لا أدري.

رجوع العلماء إلى الحق وعدم اتباع الأهواء

ومن صفاتهم كذلك: الرجوع إلى الحق وعدم اتباع الهوى، ومن صفاتهم: الخشية، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] وبعض الناس تجد عنده علماً لكن ليس لديه خوف من الله جل وعلا ولا خشية، ولذلك قد لا يعمل بعلمه، وقد يفتي بالهوى ويتبع الشهوات والآراء، وهذا حال كثير من المتعالمين الذين يدعون العلم لا تجد عند كثير منهم الخشية، وهي صفة مهمة من صفات العالم، وكان علماؤنا في مرحلة الطلب يحرصون على اختبار مشايخهم قبل الأخذ عنه، يبتلي العالم هل هو الرجل المطلوب أم لا؟ احتياطاً في الدين وورعاً في الأخذ، ما كانوا يأخذون عن أي أحد، وقد جاء في ترجمة أبي نعيم الفضل بن دكين، أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل أتيا يريدان أن يسمعا حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومعهما ولد صغير فعندما أتيا قال يحيى بن معين لـأحمد بن حنبل: نختبر الرجل قبل أن نأخذ عنه، فقال أحمد بن حنبل: الرجل فذ لا يحتاج إلى اختبار، قال: ما نعلم عن حاله بل لابد أن نختبره، فقرأ عليه يحيى بن معين أحاديث ويزيد مع كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، أي: يحيى بن معين كان يحفظ من أحاديث أبي نعيم، فجاء يسأل أبا نعيم يقول له: هل هذه الأحاديث أنت رويتها؟ فيأتي بعشرة أحاديث ثم يأتي على رأس العشرة بحديث ليس من أحاديث أبي نعيم، اختباراً له، وقرأ عليه ثلاثين حديثاً، وبعد أن انتهت الأحاديث قال أبو نعيم الفضل بن دكين: أما هذا الغلام فصغير، وأما أحمد بن حنبل فأورع من أن يفعل هذا، والذي فعل هذا أنت، أي أنه فطن لها، فأخذ رجله وجعل يرفس يحيى بن معين حتى قلبه على قفاه، فقال أحمد بعد أن انتهت القضية، ألم أقل لك: إن الرجل فذ! قال يحيى: والله إن رفسته أحب إلي من كذا وكذا.

فكانوا يختبرون علماءهم قبل أن يأخذوا عنهم، قال البخاري رحمه الله تعالى في أول كتاب الفرائض من صحيحه: قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: [ تعلموا قبل الظانين ] قال البخاري: أي قبل الذين يتكلمون بالظن، قال النووي في مقدمة المجموع ما معناه: تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين قبل ذهابه ومجيء أقوام يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي.

لذلك لا بد من الحرص على لقاء العلماء قبل أن يذهبوا، والعالم إذا مات انثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا مجيء عالم مثله.

حرص العلماء على الأدلة

من صفات العلماء: الحرص على المسائل بأدلتها، وعلى أن يكون موردهم نبع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، لذلك إذا رأيت العالم يقول: قال فلان قال فلان، فقط، فاعلم أنه ليس بعالم، أو الذي يحفظ قول المذهب فقط من غير أدلة، فليس بعالم.

قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وأمد في عمره: والعلماء الذين يصح أن يقال عنهم علماء هم الذين تفقهوا في الإيمان وأخذوا علمهم من الكتاب والسنة وليس العالم هو المقلد لفلان أو فلان، أو الذي يعرف مختصراً من المختصرات، أو كتاباً من الكتب فيقلد، ولا يدري عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

يقول الشيخ عبد العزيز: فهذا لا يعد من العلماء بإجماع أهل العلم، وقال في موضع آخر في مناسبة أخرى: ليس العالم من حفظ متخصر خليل أو زاد المستقنع، العالم من ورد حوض الكتاب والسنة فنهل منهما.

أربعة لا يؤخذ العلم عنهم

قال الإمام مالك في وصف العلماء المعتبرين: لا تأخذوا العلم عن أربعة وخذوا العلم ممن سواهم، لا يؤخذ من سفيه معلوم بالسفه، وإن كان أروى الناس -أي: أكثر الناس رواية- ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من شيخ له عبادة وفضل إذا كان لا يعرف الحديث.

هذا الأخير نوع مهم من الواجب معرفته، صاحب العبادة التقي الورع الذي يداوم على الصلاة والصيام، حاله على الرأس والعين، لكن إذا جئنا إلى قضية الأخذ لا نأخذ منه، فرق بين العابد والعالم، العلم لا يؤخذ عن العباد ولكن يؤخذ عن العلماء، وكثير من الناس يغترون بشخصيات من هذا القبيل، فيبدو على رجل ما سمات الصلاح والتقوى، فيأتي إليه أخونا هذا فيسأله وليس هو بمحل للسؤال، ولذلك يقول الإمام مالك في كلام مشهور: من شيوخي من أستسقي بهم -أي: أطلب منهم أن يدعوا الله بالسقيا- لأني أظن أن دعاءهم مستجاب، ولكني لا آخذ حديثهم.

فالورع والصلاح شيء والعلم الشرعي شيء آخر، أقصد شيئاً آخر في معرفة ممن يتلقى، لكني لا أعني التفرقة بينهما بحيث أن العالم لا يشترط فيه أن يكون صالحاً ولا ورعاً ولا زاهداً، بل سبق الكلام أنه لا بد أن يكون كذلك.

وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: ما حكم الأخذ عن فاسق؟

فقال: ينبغي أن يتحرى الصالحين الطيبين، وإن وجد فائدة عن فاسق أو حتى كافر لا يردها بل يأخذها، فإن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها.

المقصود بالفائدة: أي فائدة صحيحة، لكن هذا لا يعني أن نأخذ العلم عن المبتدعة وأهل الأهواء، كلا وحاشا، وإذا اجتمع اثنان فأكثر فيجب على الإنسان الاجتهاد في أعلمهم، والبحث عن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده إن كان لا يحسن البحث في كتب أهل العلم، ولا سؤال العلماء ومعرفة الأدلة.

الاغترار بطلبة العلم المبتدئين

من هذا -أيها الإخوة- نعلم بأن هناك قضية خطيرة منتشرة بين الناس اليوم وهي الاغترار بطلبة العلم الصغار، نظراً لقلة العلماء في هذا الزمان وندرتهم صار كثير من طلبة العلم يبرزون أحياناً بقصد منهم أو بغير قصد، فلا بد من التنبه إلى هذه المسألة، صغار طلبة العلم لا يُسألون، ولا يستفتون.. أقصد: لا يُعطى لهم مجال للاجتهاد؛ لأنهم ليسوا هم محل الاجتهاد، ومن أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر، فلا يغتر بمثل حال هؤلاء في طلب الفتوى والاجتهاد.

يقول الذهبي رحمه الله تعالى في السير: الفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيراً من السنة لا يسوغ له الاجتهاد أبداً، فكيف يجتهد؟ وما الذي يقول؟ وعلام يبني؟

أي: يبني اجتهاد الفتوى على ماذا؟ ماذا عنده أصلاً؟ وكيف يطير ولما يريش؟ الطائر الذي لم ينبت له ريش هل يطير؟ فكيف يطير هذا ولما يريش، والريش هو أدوات الفتوى والاجتهاد؟

فإن قال قائل: فما وظيفة طلبة العلم إذاً؟

هل طلبة العلم لا نأخذ عنهم وليس لهم مكانة بيننا؟

كلا. فإن لطبلة العلم دوراً مهماً جداً في المجتمع، نظراً لقلة العلماء وعدم تيسر البحث والاتصال بهم في كثير من الأحيان أو الوصول إليهم، خصوصاً لغير العالمين بأحوالهم، فإن طلبة العلم عليهم واجب عظيم ألا وهو تبليغ الناس أقوال أهل العلم وفتاويهم.

هم الجسور والقنوات التي تصل بها المعلومات من أهل العلم إلى الناس؛ لأن كثيراً من الناس لا يتصلون بالعلماء ولا يسمعونهم؛ إما لضعف أو هوى أو عدم مقدرة على ذلك، أو جهل بقيمة العالم وهو الغالب، فيبحث عن أي شخص ويسأله، وهذا ما يفعله جهلة الحجاج، تجدهم عندما تعرض لهم مسألة في الحج يستوقف أي رجل عنده لحية ويسأله، يظن أنه يعلم: ما حكم كذا؟ وبعض الجهلة من هؤلاء إذا سئل وهو لا يدري يفتي بغير علم، فيضل ويضل.

خطورة ظاهرة التعالم وكيفية الوقاية منها

هناك ظاهرة خطيرة لا بد أن يفرد لها مجالات للنقاش وهي ظاهرة التعالم، ظهور أناس على السطح ليسوا بعلماء يدعون العلم فيضلون الناس، وينشرون الكتب ويقيمون المحاضرات في الفتاوي ويقررون أشياء خطيرة، في مسائل مهمة واقعية للناس في هذا العصر ولشيخنا بكر بن عبد الله أبو زيد رسالة مهمة سوف تظهر إن شاء الله عن ظاهرة التعالم وأثرها السيئ في العالم الإسلامي، لذلك أيها الإخوة كان لا بد من سؤال أهل الاختصاص.

العلماء الآن ليسوا على مرتبة واحدة في جميع درجات وأنواع العلوم، فبعضهم يحسن شيئاً لا يحسنه الآخرون، ويفقه في أشياء من العلم لا يفقه فيها العالم الآخر مثله، لذلك دع كل صانع وصنعته، لا بد من اللجوء إلى أهل الاختصاص، فعندما يكون عندك حديثاً لا تعرف حاله اذهب للعالم بالحديث واسأله عنه، ولا بد إن كان في مسألة فقهية تحتاج إلى فقه اذهب إلى رجل مشهور بالفقه واسأله، وإن كان هناك مسألة أصولية اذهب لأهل الاختصاص في الأصول واسألهم، وإن كان هناك مسألة تتعلق بالواقع المعاصر والمذاهب الهدامة، فاذهب إلى العالمين بقضية المذاهب الهدامة وخطرها على الناس، أو ما يتعلق بالواقع المعاصر واسألهم، فليس كل أحد يجيد أي شيء، وهذا واضح، هذا الكلام الذي أقوله ليس بدعاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دل في كلامه على بعض أحوال الصحابة في أشياء تشبه هذا، فمن قوله مثلاً: قال: (أرأف أمتي بأمتي أبي بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان -إلى أن قال- وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرأهم أبي بن كعب، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) لذلك يسبق العلماء برتوة يوم القيامة، رمية سهم.

فالصحابة كان عندهم تخصص، فمنهم من برع بالفرائض، ومنهم من برع بالحلال والحرام، ومنهم من برع بالقضاء والفصل في الخصومات بين الناس، ومنهم من برع بعلم القراءات، فلا بد من الذهاب إلى أهل الاختصاص قدر الإمكان.

أولاً: لا بد أن يكون العالم ذو علم صحيح، مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، وأن يكون له عموم اطلاع على أقوال أهل العلم المعتبرين، ولا بد أن يكون مخلصاً لله جل وعلا، لا يرجو في إبلاغ علمه للناس جزاءً ولا شكوراً، إلا رضا الله جل وعلا، وكذلك سنَّ علماؤنا نهجاً واضحاً في التخفف من الدنيا والابتعاد عن إذلال النفس وإهانتها، في سبيل تحصيل فضول العيش، وكانوا لا يستنكفون عن القيام بأي عمل يدوي مهما كان حتى يعيشوا من ورائه، وكانت لهم صفة مهمة، كذلك كانوا ملتصقين بالناس ما كانوا يعيشون في كهوف أو تحت الأرض، أوفي الظلام، أو وراء الكواليس لا يدري عنهم أحد ولا يسمع بهم أحد، بل كانوا يظهرون إلى الناس، ويعايشون مشكلات المجتمع ويفتون في المواقف التي تنزل بالمسلمين، لم يكونوا بمعزل عن الحياة.. كانوا يخالطون الناس في مساجدهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، ولذلك نجحوا في علاج مشكلات الناس، وكان لهم وزن في المجتمع، ولذا حاول الاستعمار أو الاستخراب عندما دخل بلاد المسلمين، كان من أول أهدافه: عزل العلماء عن الأمة؛ لأنهم شعروا بخطر القضية.

وكذلك من صفات العلماء العمل بالعلم، فإن الله ذم اليهود؛ فقال جلَّ وعلا: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [الجمعة:5] العالم من اليهود ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] ولذلك كان علماؤنا يحرصون على العمل بالعلم، فهذا الإمام أحمد كان يحرص على ألا يدع حديثاً في مسنده الذي كان مسنداً ضخماً بلغت أحاديثه تقريباً أربعين ألف حديث كان لا يضع حديثاً حتى يعمل به ولو مرة واحدة، وقال عن نفسه: احتجمت فأعطيت الحجام ديناراً؛ لأنه ثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً.

وكانت محبتهم للظهور معدومة، ما كانوا يحبون الظهور بمعنى: المراءاة والتباهي بالعلم، إذا غابوا لم يفتقدوا، كانوا بعيدين عن الأضواء، والمقصود بالأضواء ليس مخالطة الناس، وإنما مجتمعات الثناء والتكريم.. مجتمعات الأعطيات والأموال والهدايا الثمينة كانوا يبتعدون عنها.

وكانوا يتصفون بصحة العقيدة، فإذاً العالم الحق هو الذي يكون صحيح العقيدة، ولا يشترط أن يكون العالم مجتهداً ملماً في جميع الأمور؛ بل قد يكون العالم مختصاً بنوع من أنواع العلوم، ومع ذلك يعتبر عالماً.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3529 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3424 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3347 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع