الصبر على طاعة الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

أيها الإخوة! الموضوع الذي سنتحدث عنه موضوع مهم جداً، وإذا تأملت معي -يا أخي المسلم- أهمية هذا الموضوع في الحياة التي نحياها الآن، لوجدته أمراً ذا بال، وأمراً خطيراً جداً.

نحن الآن -أيها الإخوة- عندما نؤدي هذه الأركان وهذه العبادات لله عز وجل، يشعر الإنسان المسلم أحياناً بأنه متثاقل وهو يؤدي هذه العبادات.. يشعر بأن عليه مشقة كبيرة جداً لأداء صلاة الفجر أو أداء صلاة الجماعة في المسجد.

وعندما يخرج الصدقات والزكوات يحس بأنه يجاهد نفسه لكي يخرج هذه الأموال، فيشعر بمشقة.

وكذلك إذا دعا داعي الجهاد في سبيل الله وجدت الأمر صعباً.

وكذلك إذا جاء الإنسان المسلم الذي هداه الله عز وجل ليستقيم على شرع الله، ويلتزم بأحكام الله، وجد المجتمع يؤذيه من كل جانب، ووجد أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه يؤذونه ويثبطونه عن المضي في هذا الطريق.

وامرأة مسلمة هداها الله إلى الإسلام تريد أن تلتزم بالحجاب تحس بأن الالتزام بالحجاب صعب جداً.

وتاجر مسلم يريد أن يطهر أمواله من الربا، وينقيها من الحرام، يحس بأن هذا العمل شاق وصعب وشديد.

الإنسان مع إخوانه في الله وهو يعيش معهم قد ينزغ الشيطان بينه وبينهم في أشياء كثيرة، وتعاملات عديدة، فلا يعجبه تصرف من هذا، أو قولة من ذلك.. إلى آخر تلك الأمور التي تحدث، مما يجعل الإنسان -أحياناً- يفكر في أن يترك إخوانه في الله -مثلاً- فكونه يجلس معهم ويجاهد نفسه للبقاء معهم أمرٌ عسير وشاق؛ هذه الأمور وغيرها -أيها الإخوة- مزاولتها تحتاج إلى صبر شديد؛ هذا الصبر الذي سنتحدث عنه، هو الذي يسهل هذه الأمور ويذلل الصعاب أمام الإنسان المسلم وهو يسير في طريقه إلى الله تعالى.

فتعالوا بنا لنتعرف على هذه الكلمة العظيمة (كلمة الصبر) ونعرف معناها في اللغة والشرع؟ وكيف أتت في القرآن والسنة؟

وما هي أقسام الصبر؟

وما هي الأسباب الجالبة له؟

وما هي أنواعه من حيث تعلقه بأشياء كثيرة؟

اشتقاقات كلمة الصبر في اللغة

اعلموا -رحمكم الله- أن أصل هذه الكلمة -كلمة الصبر- معناها في اللغة: المنع والحبس. يقال: صبر يصبر صبراً، وصبر نفسه، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] معنى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28] أي: احبس نفسك، وامنعها عن تركها هؤلاء، اصبر نفسك معهم واحبسها.

ويقال: "الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والقلب عن السخط".

وكلمة الصبر لها اشتقاقات كثيرة في اللغة تتعلق بما نحن بصدده، من بيان معنى الصبر، فمن اشتقاقاتها -مثلاً- صبر، وتصبر، واصطبر، وصابر، وغيرها.. من الاشتقاقات، وكثير من هذه الألفاظ وردت في القرآن الكريم، بحيث يحتاج المسلم أن يعرف ما هي الفروق بين هذه الألفاظ؟

يقال للإنسان: صبر إذا أتى بفعل الصبر، وإذا تصبر الإنسان المسلم يقال: تصبر إذا تكلف الصبر واستدعاه، تكلف إحضار الصبر إلى نفسه، واستدعى هذا الصبر، فيسمى عندئذٍ تصبر، أي: جلب الصبر واستدعاه وتكلف حضوره، وهذه اللفظة كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى: هي المعنى الوارد في قول الله عز وجل: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [البقرة:177] فقال: البأساء: هو الفقر، والضراء: كل الأذى الذي يحدث في البدن، مثل: المرض.. وغيره فالصابرين في البأساء والضراء، أي: المتصبرين على البأساء والضراء.

الذي يصبر ويستدعي الصبر ويتكلف الصبر، وهو يعيش في جو البأساء ومرارة الحاجة، هذا يسمى متصبر؛ لأنه قد جلب الصبر واستدعاه وتكلف حضوره.

وكذلك يقال في اللغة: اصطبر، أي: تعلم الصبر واكتسبه، فالإنسان إذا كان يتعلم الصبر، ويحاول أن يكتسب الصبر، فإنه يسمى: مصطبراً.

وهذه اللفظة تقودنا إلى شيء مهم جداً: هل الصبر خلق يكتسب؟ أم هو خلق فطري يولد مع الإنسان ولا يمكن الزيادة فيه ولا النقصان منه؟

الصحيح في هذه المسألة: أن الصبر من الفطر التي يفطر الناس عليها، فترى بعض الناس من طبيعتهم أنهم يصبرون، وبعض الناس لا يصبرون، لكن الصبر بالإضافة إلى هذا الكلام يمكن تعلمه واكتسابه، بمعنى: يمكن أن يكون الإنسان غير صابر، فيتعود على أشياء معينة، ويتعلم أشياء معينة تصل به إلى اكتساب الصبر. ما هو الدليل؟

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري : (ومن يتصبر يصبره الله).

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر بأن الإنسان يمكن أن يتصبر -يعلم نفسه الصبر- ويكافح حتى يصل إلى مرحلة يكتسب فيها هذه الخصلة وهي الصبر، فإن المزاولات -مزاولة الشيء- تعطي الملكات ومن زاول شيئاً واعتاده وتمرن عليه صار ملكاً له، وسجيةً، وطبيعة كما يقول ابن القيم رحمه الله.

وقد جعل الله في الإنسان قوة القبول والتعلم لهذه الطبائع- بالرغم من أنها طبائع إلا أنه من الممكن تعلم هذه الطبائع واكتسابها- غير أن العبد أحياناً إذا كان نزقاً لا يصبر، ثم حاول أن يكتسب الصبر ويتعود ويتطبع بالصبر، فقد يكون انتقاله هذا من عدم الصبر إلى الصبر ضعيفاً، فيعود العبد إلى طبعه الأصلي بأدنى فاعل؛ فأدنى وقعة تجعله يعود إلى عدم الصبر الذي كان سجيةً له.

أحياناً يكون التصبر فيه قوة، بحيث لا يعود إلى سجيته الأولى التي هي عدم الصبر والحدة إلا بباعث قوي، فقد يكون في موقف قوي بحيث يخرجه عن هذا التصبر إلى السجية الأولى التي كان عليها، وأحياناً يكون التعلم والاكتساب للصبر قوياً جداً، بحيث يملك على الإنسان نفسه، ولا يعيده إلى ما كان عليه في الماضي.

وإذا جئنا إلى اللفظة الأخرى من اشتقاقات الصبر وهي كلمة صابر؛ فإن لفظة صابر تفيد وقوف الإنسان مع خصمه في عملية الصبر، ولذلك فلفظة: صابر، على وزن فاعل؛ وهذه اللفظة تعني: أنه لا بد من وقوعها بين اثنين على الأقل، مثل: شاتم، هذا شتم فلاناً وفلان شتمه، كذلك صابر، أي: هذا صبر وهذا صبر، كل واحد يصبر من جهة، فأيهم الذي يكون صبره أكثر من صبر الآخر؟

عملية التسابق في الصبر تسمى مصابرة؛ والمصابرة أعلى مرتبة من الصبر، لأن الإنسان يمكن أن يصبر لكن لا يصابر، قد يصبر لفترة معينة لكن لا يصبر مع خصمه إلى النهاية، فيفقد الصبر في منتصف الطريق، فلا يقال: صابر، وإنما يقال: صبر.

الآن بعد أن عرفنا هذه الأشياء.. تأمل قول الله تعالى في آخر سورة آل عمران، تتضح لك معانٍ لم تكن متضحة من قبل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

قد يقول إنسان قبل أن يتعلم هذه الألفاظ: ما هو الفرق بين صبر وصابر؟

كيف يأمر الله الناس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا [آل عمران:200] ما هو الفرق؟

فالآن المقام مقام كلام على المرابطة والجهاد، يأمر الله الناس أن يصبروا ويصابروا الأعداء؛ لأن الأعداء قد يصبرون، فالمؤمنون يجب أن يصابروا عدوهم، حتى يفوقوهم في الصبر والجلد في مجال المعركة.. وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

فالمصابرة: هي حال الإنسان في الصبر مع خصمه، فإن العبد قد يصبر لكنه لا يصابر.

تعريف الصبر شرعاً

أما تعريف الصبر من ناحية الشرع: فقد ذكر بعض العلماء: "أنه خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به الإنسان الصابر من فعل ما لا يحسن ولا يجمل شرعاً".

هذا الخلق الذي يحمل النفس على الامتناع عن الأشياء التي لا تجمل ولا تحسن شرعاً، هذا هو الصبر.

وكذلك قال بعض السلف: "الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب". والصبر والجزع ضدان، ولهذا يقابل أحدهما الآخر، ولذلك قال الله عن أهل النار: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] أهل النار يوم القيامة عندما يطبق عليهم العذاب من كل جانب، يقول بعضهم لبعض: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا [إبراهيم:21] أي: فقدنا الصبر على هذا العذاب أَمْ صَبَرْنَا [إبراهيم:21] على هذا العذاب ليس هناك فائدة، كله واحد مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] أي: ليس هناك مهرب ولا مفر؛ لأنهم لو صبروا على العذاب أو جزعوا فإن النتيجة واحدة، وهي أن العذاب مستمر، فإن صبرهم لن يفيدهم شيئاً.

أيها الإخوة: الصبر إذا كان صبراً عن شهوة الفرج، فإنه يصبح عفة، تأمل في الصبر كيف أنه يداوي ويقلب الصفات الذميمة إلى صفات حسنة، فإذا كان صبراً على شهوة الفرج، فإنه يسمى عفة، وضدها الفجور والزنا.

وإن كان صبراً على شهوة البطن وعدم التسرع في الطعام، أو تناول ما لا يحسن الإنسان أن يتناوله، فإنه يسمى شرف نفس، وشبع نفس، ليس شبع بطن، وضده الشره والدناءة.

وإن كان صبراً على إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام، فإنه يسمى: كتمان سر.

وعكسه إذاعة السر وإفشائه، أو اتهام الناس، أو فحشهم وسبهم، والكذب عليهم وقذفهم والافتراء عليهم، هذا كله ضد صبر النفس وصبر اللسان عن التكلم بما لا يحسن التكلم به شرعاً.

وإن كان صبراً على فضول الدنيا، فإنه يسمى: زهداً.

وإن كان صبراً على قدرٍ يكفي من الدنيا؛ فإنه يسمى: قناعة.

وإن كان صبراً عن إجابة داعي الغضب في النفس، فإنه يسمى: حلماً.

وإن كان صبراً عن إجابة داعي العجلة والتسرع، فإنه يسمى: وقاراً وثباتاً.

وإن كان صبراً عن إجابة داعي الفرار والهرب، فإنه يسمى: شجاعةً.

وإن كان صبراً عن داعي الانتقام، فإنه يسمى: عفواً وصفحاً.

فتأمل معي كيف أن هذا الصبر هو الذي يقلب الأخلاق السيئة في النفس إلى أخلاق حسنة، وهو الذي يداوي الأمراض النفسية ويجعلها تصل بالنفس إلى مراحل عليا.

وعرف بعض العلماء الصبر: "بأنه الثبات على أحكام الكتاب والسنة".

وقال بعضهم: هو الاستعانة بالله.

اعلموا -رحمكم الله- أن أصل هذه الكلمة -كلمة الصبر- معناها في اللغة: المنع والحبس. يقال: صبر يصبر صبراً، وصبر نفسه، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] معنى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28] أي: احبس نفسك، وامنعها عن تركها هؤلاء، اصبر نفسك معهم واحبسها.

ويقال: "الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والقلب عن السخط".

وكلمة الصبر لها اشتقاقات كثيرة في اللغة تتعلق بما نحن بصدده، من بيان معنى الصبر، فمن اشتقاقاتها -مثلاً- صبر، وتصبر، واصطبر، وصابر، وغيرها.. من الاشتقاقات، وكثير من هذه الألفاظ وردت في القرآن الكريم، بحيث يحتاج المسلم أن يعرف ما هي الفروق بين هذه الألفاظ؟

يقال للإنسان: صبر إذا أتى بفعل الصبر، وإذا تصبر الإنسان المسلم يقال: تصبر إذا تكلف الصبر واستدعاه، تكلف إحضار الصبر إلى نفسه، واستدعى هذا الصبر، فيسمى عندئذٍ تصبر، أي: جلب الصبر واستدعاه وتكلف حضوره، وهذه اللفظة كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى: هي المعنى الوارد في قول الله عز وجل: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [البقرة:177] فقال: البأساء: هو الفقر، والضراء: كل الأذى الذي يحدث في البدن، مثل: المرض.. وغيره فالصابرين في البأساء والضراء، أي: المتصبرين على البأساء والضراء.

الذي يصبر ويستدعي الصبر ويتكلف الصبر، وهو يعيش في جو البأساء ومرارة الحاجة، هذا يسمى متصبر؛ لأنه قد جلب الصبر واستدعاه وتكلف حضوره.

وكذلك يقال في اللغة: اصطبر، أي: تعلم الصبر واكتسبه، فالإنسان إذا كان يتعلم الصبر، ويحاول أن يكتسب الصبر، فإنه يسمى: مصطبراً.

وهذه اللفظة تقودنا إلى شيء مهم جداً: هل الصبر خلق يكتسب؟ أم هو خلق فطري يولد مع الإنسان ولا يمكن الزيادة فيه ولا النقصان منه؟

الصحيح في هذه المسألة: أن الصبر من الفطر التي يفطر الناس عليها، فترى بعض الناس من طبيعتهم أنهم يصبرون، وبعض الناس لا يصبرون، لكن الصبر بالإضافة إلى هذا الكلام يمكن تعلمه واكتسابه، بمعنى: يمكن أن يكون الإنسان غير صابر، فيتعود على أشياء معينة، ويتعلم أشياء معينة تصل به إلى اكتساب الصبر. ما هو الدليل؟

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري : (ومن يتصبر يصبره الله).

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر بأن الإنسان يمكن أن يتصبر -يعلم نفسه الصبر- ويكافح حتى يصل إلى مرحلة يكتسب فيها هذه الخصلة وهي الصبر، فإن المزاولات -مزاولة الشيء- تعطي الملكات ومن زاول شيئاً واعتاده وتمرن عليه صار ملكاً له، وسجيةً، وطبيعة كما يقول ابن القيم رحمه الله.

وقد جعل الله في الإنسان قوة القبول والتعلم لهذه الطبائع- بالرغم من أنها طبائع إلا أنه من الممكن تعلم هذه الطبائع واكتسابها- غير أن العبد أحياناً إذا كان نزقاً لا يصبر، ثم حاول أن يكتسب الصبر ويتعود ويتطبع بالصبر، فقد يكون انتقاله هذا من عدم الصبر إلى الصبر ضعيفاً، فيعود العبد إلى طبعه الأصلي بأدنى فاعل؛ فأدنى وقعة تجعله يعود إلى عدم الصبر الذي كان سجيةً له.

أحياناً يكون التصبر فيه قوة، بحيث لا يعود إلى سجيته الأولى التي هي عدم الصبر والحدة إلا بباعث قوي، فقد يكون في موقف قوي بحيث يخرجه عن هذا التصبر إلى السجية الأولى التي كان عليها، وأحياناً يكون التعلم والاكتساب للصبر قوياً جداً، بحيث يملك على الإنسان نفسه، ولا يعيده إلى ما كان عليه في الماضي.

وإذا جئنا إلى اللفظة الأخرى من اشتقاقات الصبر وهي كلمة صابر؛ فإن لفظة صابر تفيد وقوف الإنسان مع خصمه في عملية الصبر، ولذلك فلفظة: صابر، على وزن فاعل؛ وهذه اللفظة تعني: أنه لا بد من وقوعها بين اثنين على الأقل، مثل: شاتم، هذا شتم فلاناً وفلان شتمه، كذلك صابر، أي: هذا صبر وهذا صبر، كل واحد يصبر من جهة، فأيهم الذي يكون صبره أكثر من صبر الآخر؟

عملية التسابق في الصبر تسمى مصابرة؛ والمصابرة أعلى مرتبة من الصبر، لأن الإنسان يمكن أن يصبر لكن لا يصابر، قد يصبر لفترة معينة لكن لا يصبر مع خصمه إلى النهاية، فيفقد الصبر في منتصف الطريق، فلا يقال: صابر، وإنما يقال: صبر.

الآن بعد أن عرفنا هذه الأشياء.. تأمل قول الله تعالى في آخر سورة آل عمران، تتضح لك معانٍ لم تكن متضحة من قبل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

قد يقول إنسان قبل أن يتعلم هذه الألفاظ: ما هو الفرق بين صبر وصابر؟

كيف يأمر الله الناس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا [آل عمران:200] ما هو الفرق؟

فالآن المقام مقام كلام على المرابطة والجهاد، يأمر الله الناس أن يصبروا ويصابروا الأعداء؛ لأن الأعداء قد يصبرون، فالمؤمنون يجب أن يصابروا عدوهم، حتى يفوقوهم في الصبر والجلد في مجال المعركة.. وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

فالمصابرة: هي حال الإنسان في الصبر مع خصمه، فإن العبد قد يصبر لكنه لا يصابر.

أما تعريف الصبر من ناحية الشرع: فقد ذكر بعض العلماء: "أنه خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به الإنسان الصابر من فعل ما لا يحسن ولا يجمل شرعاً".

هذا الخلق الذي يحمل النفس على الامتناع عن الأشياء التي لا تجمل ولا تحسن شرعاً، هذا هو الصبر.

وكذلك قال بعض السلف: "الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب". والصبر والجزع ضدان، ولهذا يقابل أحدهما الآخر، ولذلك قال الله عن أهل النار: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] أهل النار يوم القيامة عندما يطبق عليهم العذاب من كل جانب، يقول بعضهم لبعض: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا [إبراهيم:21] أي: فقدنا الصبر على هذا العذاب أَمْ صَبَرْنَا [إبراهيم:21] على هذا العذاب ليس هناك فائدة، كله واحد مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] أي: ليس هناك مهرب ولا مفر؛ لأنهم لو صبروا على العذاب أو جزعوا فإن النتيجة واحدة، وهي أن العذاب مستمر، فإن صبرهم لن يفيدهم شيئاً.

أيها الإخوة: الصبر إذا كان صبراً عن شهوة الفرج، فإنه يصبح عفة، تأمل في الصبر كيف أنه يداوي ويقلب الصفات الذميمة إلى صفات حسنة، فإذا كان صبراً على شهوة الفرج، فإنه يسمى عفة، وضدها الفجور والزنا.

وإن كان صبراً على شهوة البطن وعدم التسرع في الطعام، أو تناول ما لا يحسن الإنسان أن يتناوله، فإنه يسمى شرف نفس، وشبع نفس، ليس شبع بطن، وضده الشره والدناءة.

وإن كان صبراً على إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام، فإنه يسمى: كتمان سر.

وعكسه إذاعة السر وإفشائه، أو اتهام الناس، أو فحشهم وسبهم، والكذب عليهم وقذفهم والافتراء عليهم، هذا كله ضد صبر النفس وصبر اللسان عن التكلم بما لا يحسن التكلم به شرعاً.

وإن كان صبراً على فضول الدنيا، فإنه يسمى: زهداً.

وإن كان صبراً على قدرٍ يكفي من الدنيا؛ فإنه يسمى: قناعة.

وإن كان صبراً عن إجابة داعي الغضب في النفس، فإنه يسمى: حلماً.

وإن كان صبراً عن إجابة داعي العجلة والتسرع، فإنه يسمى: وقاراً وثباتاً.

وإن كان صبراً عن إجابة داعي الفرار والهرب، فإنه يسمى: شجاعةً.

وإن كان صبراً عن داعي الانتقام، فإنه يسمى: عفواً وصفحاً.

فتأمل معي كيف أن هذا الصبر هو الذي يقلب الأخلاق السيئة في النفس إلى أخلاق حسنة، وهو الذي يداوي الأمراض النفسية ويجعلها تصل بالنفس إلى مراحل عليا.

وعرف بعض العلماء الصبر: "بأنه الثبات على أحكام الكتاب والسنة".

وقال بعضهم: هو الاستعانة بالله.

اعلموا -أيها الإخوة- أن الصبر ينقسم إلى نوعين:

1- صبر بدني.

2- صبر نفساني.

وكذلك فإنه ينقسم إلى نوعين آخرين من جهة أخرى:

1- صبر اختياري.

2- صبر اضطراري.

ولو جمعنا هذين النوعين إلى هذين النوعين لأصبح عندنا أربعة أنواع:

الصبر البدني الاختياري: وهو صبر يتعلق بالبدن لكنه اختياري، يمكن أن يفعله الإنسان ويمكن ألا يفعله، مثل: الصبر على تعاطي الأعمال الشاقة، كالذي يصبر على حمل الأشياء الثقيلة؛ فهذا صبر بدني اختياري.

2- الصبر البدني الاضطراري، كشخص أخذ وعذب وضرب، فهو الآن يضرب من قبل الذي يعذبه، فهذا صبر بدني اضطراري.

3- الصبر النفساني الاختياري: كصبر الإنسان على حبس النفس عن الغضب.

4- الصبر النفساني الاضطراري: كصبر النفس عن محبوبها قهراً إذا حيل بينها وبينه، مثلاً: شخص أراد أن يهاجر في سبيل الله، ولكنه حبس أن يهاجر إلى أقوام صالحين، أو حبس عن إتيان شيء من الأشياء المحمودة شرعاً.

فهذه الأنواع الأربعة بعضها يجتمع في الحيوان، وبعضها لا يكون إلا في الإنسان، هناك نوعان لا يكونان إلا في الحيوان، والنوعان وهما: البدني والاضطراري؛ وهذا من صبر الحيوان؛ لأن الحيوان ليس له اختيار.

إذاً: بعض الناس عندهم صبر بدني، كأن يكون جسمه قوي فيستحمل، وهذا النوع من الناس لا يكون محموداً دائماً، لأنك تجد بعض الكفرة أو بعض الناس الذين يجرون وراء الماديات، عنده استعداد أن يصبر في العمل والكد ويشتغل في اليوم اثنا عشر ساعة أو أربعة عشر ساعة، كسائق الشاحنة الذي يذهب ويرجع على الخطوط ويتنقل ويصبر على هذا التعب؛ فهذا الصبر ليس محموداً دائماً، هذا الصبر فيه من صبر الحيوانات، بل إن بعض الحيوانات تصبر في الصبر البدني أكثر من الإنسان.

وكذلك الصبر الاضطراري، فإن الحيوان يصبر على الآلام اضطراراً، فما هو يا ترى النوع الذي يفترق فيه الإنسان عن الحيوان؟

الصبر الذي يفترق فيه الإنسان عن الحيوان هو الصبر النفساني والصبر الاختياري؛ هذه الأشياء التي يفترق فيها الإنسان عن الحيوان.

ولذلك تجد بعض الناس يعمل بكد ويتعب نفسه ويصبر على هذا التعب البدني؛ لكي يحصل الأموال، فهذا مثل الحيوان ولا يوجد فرق بينهما، وإذا صار فيه مرض صابر غصباً عنه؛ لأنه لا يمكن أن يزيل المرض بالقوة، فيصبر على هذا المرض.

فهذه الأنواع من الصبر ليست هي الأنواع التي ترفع الإنسان إلى المكانة العليا إلا إذا قصد بها وجه الله.

الأشياء التي تحتاج إلى مصابرة فعلاً هي: المصابرة النفسية على أشياء النفس وهواها، وكذلك على الأشياء الاختيارية التي يمكن للإنسان أن يفعلها أو لا يفعلها، وهو مع ذلك يفعلها في الخير؛ هذه الأشياء التي تفرق بين الإنسان والحيوان؛ فالإنسان إذا صابر باعث الهوى ودفعه صار مثل الملائكة في هذا الجانب، وإذا غلبه باعث الهوى والشهوة فإنه يصبح مثل الشياطين، وإذا غلبه طبع الأكل والشرب والجماع فقط فإنه يصبح مثل البهائم.

الصبر ينقسم إلى ثلاثة أنواع:

1- صبر على طاعة الله.

2- صبر عن معصية الله -أي: يصبر عن المعصية فلا يرتكبها.

3- صبر على أقدار الله.

وكلامنا سوف يتركز على النوعين الأوليين: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية.

هذه الثلاثة الأشياء اجتمعت في آية واحدة، وهي قول لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17].

فإن في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ [لقمان:17] فعل الطاعة والصبر على الطاعة.

وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ [لقمان:17] ليس من المعقول أن ينهى عن المنكر وهو يفعل المنكر، فمعنى هذا: أن لقمان يوصي ابنه بالصبر عن المعصية.

وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] الصبر على أقدار الله التي تصيب الإنسان.

فهذه الأشياء: الصبر على الطاعات، والصبر عن المحرمات، والصبر على الأقدار. هل هي واجبة، أو مستحبة، أو مكروهة، أو محرمة؟

الجواب: يجب على الإنسان أن يصبر على هذه الأشياء؛ يصبر على الطاعة.. يصبر على الصلاة، يصبر على الزكاة، وكذلك الصبر عن المحرمات، مثل: الصبر عن الشهوات، فلذلك يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى، في مسألة الاستمناء: من فعل الاستمناء تلذذاً، أو تذكراً، أو عادةً، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كان يجامعها، فهذا كله محرم، لا يقول به أحمد ولا غيره؛ لأن المشهور من مذهب الحنابلة: أن الاستمناء مباح، فيقول شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا لا يقول به أحمد ولا غيره، والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات.

والصبر عن المحرمات واجب وإن كانت النفس تشتهيه وتهواه، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] ما هو الاستعفاف؟

ترك المنهي عنه، وقد سبق أن ذكرنا الشيء الذي إذا صبرت عليه فإنك تصبح عفيفاً.

التفاضل بين أنواع الصبر

إذاً: هذه الأشياء واجبة وليست مستحبة، أو مكروهة.

إن سألت: هل الصبر الاضطراري أفضل أم الصبر الاختياري؟

أي: هل الصبر على الفعل الذي يفعله الإنسان باختياره أفضل أم الصبر على الشيء الذي وقع بدون اختيار؟

هل الصبر على الطاعة التي يمكن أن تفعلها ويمكن ألا تفعلها، أو الصبر عن المعصية التي يمكن أن تفعلها ويمكن ألا تفعلها أفضل؟ أم الصبر على مرض أصابك، أو على بلية حلت بك؟ وهذا كله واجب، فيجب أن تصبر في كل الحالات، لكن أيهما أفضل؟

يقول ابن تيمية رحمه الله: والصبر الاختياري أكمل من الاضطراري، ولهذا كان صبر يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم عن مطاوعة امرأة العزيز أكمل وأفضل من الصبر على ما ناله من الحبس، أو على ما ناله من إلقاء إخوته له في الجب؛ لأن الصبر فيهما صبر اضطراري، لا يمكن ليوسف أن يدفعه عن نفسه، لكن لما صمد أمام امرأة العزيز، وهذا صبر اختياري، لأنه كان يستطيع أن يقع في المحرم لكنه منع نفسه منها، فلهذا صار صبره من هذه الناحية أفضل، وهو وقع في الحالتين -يوسف عليه السلام- فإن صبره على امرأة العزيز صبر اختياري وإيثار ومحبة لله عز وجل.

وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما أمرهم الله من الأوامر وأعطاهم من الشريعة؛ صبرهم باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم لأقوامهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلاء، فكان صبر هؤلاء أكمل من صبر أيوب.

وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم على تنفيذ أوامر الله عز وجل بالذبح، أكمل من صبر يعقوب على فقد ولده. لماذا؟

لأن صبر إبراهيم وإسماعيل صبر اختياري، كان يمكن أن ينفذ الذبح ويمكن ألا ينفذ، ويمكن أن يعترض إسماعيل وممكن ألا يعترض، ولكنهما أسلما لله عز وجل وصبرا صبراً اختيارياً، صبر إيثار ومحبة لله عز وجل، بخلاف صبر يعقوب على فقد ابنه يوسف، فإنه صبر اضطراري؛ فقد ابنه فماذا بإمكانه أن يفعل؟

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهكذا إذا أوذي المسلم على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، فإذا لم يفعل أوذي وعوقب فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه، أو الحبس والخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون؛ هذا كله من أنواع الصبر الاختياري العظيم الأجر، وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبراً اختيارياً، فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره، كان يمكنه أن يتوقف عن الدعوة إلى الله عز وجل، لكنه آثر واختار أن يسير في مشوار الدعوة اختياراً، صبر على هذا صبر اختيار، فكان هذا أعظم من الصبر الاضطراري.

وكذلك فقد حبس المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعب أبي طالب ، ولما مات أبو طالب اشتدوا عليه.

إذاً -أيها الإخوة- هذه الأنواع من الصبر أنواع عظيمة جداً؛ لأن أصحابها قد اختاروا الصبر في ذات الله عز وجل اختياراً من أنفسهم، وهذا هو الذي يحمل الإنسان على المجاهدة في سبيل الله عز وجل، ولذلك كان الأمر الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم موجه لنا أيضاً فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] ما قال: فاصبر كما صبر أيوب، إنما قال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] لأن صبرهم كان قمة صبر الاختيار، وهؤلاء أولو العزم هم الذين صار عليهم مدار الشفاعة يوم القيامة، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله، وصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى محمد صلى الله عليه وسلم.

إن قال إنسان: هل الصبر على فعل المأمور أفضل أم عن فعل المحظور؟

أي: الصبر على الطاعة أفضل أم الصبر عن المعصية؟

هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن الصبر على فعل الطاعة أعلى من الصبر عن فعل المعصية؛ لأن الأصل المأمور، وما جاء النهي عن المحظور إلا تكملة وحفظاً للمأمور، صار الصبر على فعل المأمور أعلى.

ويقول ابن القيم رحمه الله: يكون الصبر في وقت المأمور وفي الوقت المحظور هو الأفضل، فإذا حضرك شيء محظور كان الصبر عنه هو الأفضل في ذلك الوقت، وإذا حضرك شيء مأمور به صار الصبر عليه هو الأفضل في وقته.

أنواع الصبر عند ابن القيم

وقسم بعض العلماء كما يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : الصبر إلى ثلاثة أنواع:

1- صبر لله.

2- صبر مع الله.

3- صبر بالله.

- فأما الصبر الذي بالله: فإن الله إذا لم يصبرك لم تصبر، فلذلك يقول الله تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127] لأن الله عز وجل إذا ما صبرك لا تصبر، لأن الصبر آتي من الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يرزقك الصبر.

وأما الصبر لله: فهو أن يكون لوجه الله، فإن بعض الناس قد يصبرون عن أشياء لكن ليس لوجه الله، -مثلاً- على فعل الصلاة رياء، فيجب أن يكون صبره لله، إنسان يصلي أمام الناس من أول الصلاة إلى آخر الصلاة وهو يصبر نفسه ويحبسها على أفعال الصلاة، ولكن ليس صبراً لله وإنما لمراءاة الناس، فهذا لا يكون صبراً لله.

- وأما الصبر مع الله: فبعض الصوفية يعرفونه بتعريفات منحرفة، ولكن يوجه ابن القيم رحمه الله هذه القضية، فيقول: الصبر مع الله، أي: مع أوامر الله بحيث يدور الإنسان المسلم معها حيث ما دارت، فأينما توجهت به الأوامر توجه معها، فهذا الإنسان يكون صبره دائماً مع الله عز وجل، حيث ما كانت مرضاة الله فهو يصبر.

إذاً: هذه الأشياء واجبة وليست مستحبة، أو مكروهة.

إن سألت: هل الصبر الاضطراري أفضل أم الصبر الاختياري؟

أي: هل الصبر على الفعل الذي يفعله الإنسان باختياره أفضل أم الصبر على الشيء الذي وقع بدون اختيار؟

هل الصبر على الطاعة التي يمكن أن تفعلها ويمكن ألا تفعلها، أو الصبر عن المعصية التي يمكن أن تفعلها ويمكن ألا تفعلها أفضل؟ أم الصبر على مرض أصابك، أو على بلية حلت بك؟ وهذا كله واجب، فيجب أن تصبر في كل الحالات، لكن أيهما أفضل؟

يقول ابن تيمية رحمه الله: والصبر الاختياري أكمل من الاضطراري، ولهذا كان صبر يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم عن مطاوعة امرأة العزيز أكمل وأفضل من الصبر على ما ناله من الحبس، أو على ما ناله من إلقاء إخوته له في الجب؛ لأن الصبر فيهما صبر اضطراري، لا يمكن ليوسف أن يدفعه عن نفسه، لكن لما صمد أمام امرأة العزيز، وهذا صبر اختياري، لأنه كان يستطيع أن يقع في المحرم لكنه منع نفسه منها، فلهذا صار صبره من هذه الناحية أفضل، وهو وقع في الحالتين -يوسف عليه السلام- فإن صبره على امرأة العزيز صبر اختياري وإيثار ومحبة لله عز وجل.

وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما أمرهم الله من الأوامر وأعطاهم من الشريعة؛ صبرهم باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم لأقوامهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلاء، فكان صبر هؤلاء أكمل من صبر أيوب.

وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم على تنفيذ أوامر الله عز وجل بالذبح، أكمل من صبر يعقوب على فقد ولده. لماذا؟

لأن صبر إبراهيم وإسماعيل صبر اختياري، كان يمكن أن ينفذ الذبح ويمكن ألا ينفذ، ويمكن أن يعترض إسماعيل وممكن ألا يعترض، ولكنهما أسلما لله عز وجل وصبرا صبراً اختيارياً، صبر إيثار ومحبة لله عز وجل، بخلاف صبر يعقوب على فقد ابنه يوسف، فإنه صبر اضطراري؛ فقد ابنه فماذا بإمكانه أن يفعل؟

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهكذا إذا أوذي المسلم على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، فإذا لم يفعل أوذي وعوقب فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه، أو الحبس والخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون؛ هذا كله من أنواع الصبر الاختياري العظيم الأجر، وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبراً اختيارياً، فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره، كان يمكنه أن يتوقف عن الدعوة إلى الله عز وجل، لكنه آثر واختار أن يسير في مشوار الدعوة اختياراً، صبر على هذا صبر اختيار، فكان هذا أعظم من الصبر الاضطراري.

وكذلك فقد حبس المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعب أبي طالب ، ولما مات أبو طالب اشتدوا عليه.

إذاً -أيها الإخوة- هذه الأنواع من الصبر أنواع عظيمة جداً؛ لأن أصحابها قد اختاروا الصبر في ذات الله عز وجل اختياراً من أنفسهم، وهذا هو الذي يحمل الإنسان على المجاهدة في سبيل الله عز وجل، ولذلك كان الأمر الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم موجه لنا أيضاً فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] ما قال: فاصبر كما صبر أيوب، إنما قال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] لأن صبرهم كان قمة صبر الاختيار، وهؤلاء أولو العزم هم الذين صار عليهم مدار الشفاعة يوم القيامة، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله، وصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى محمد صلى الله عليه وسلم.

إن قال إنسان: هل الصبر على فعل المأمور أفضل أم عن فعل المحظور؟

أي: الصبر على الطاعة أفضل أم الصبر عن المعصية؟

هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن الصبر على فعل الطاعة أعلى من الصبر عن فعل المعصية؛ لأن الأصل المأمور، وما جاء النهي عن المحظور إلا تكملة وحفظاً للمأمور، صار الصبر على فعل المأمور أعلى.

ويقول ابن القيم رحمه الله: يكون الصبر في وقت المأمور وفي الوقت المحظور هو الأفضل، فإذا حضرك شيء محظور كان الصبر عنه هو الأفضل في ذلك الوقت، وإذا حضرك شيء مأمور به صار الصبر عليه هو الأفضل في وقته.

وقسم بعض العلماء كما يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : الصبر إلى ثلاثة أنواع:

1- صبر لله.

2- صبر مع الله.

3- صبر بالله.

- فأما الصبر الذي بالله: فإن الله إذا لم يصبرك لم تصبر، فلذلك يقول الله تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127] لأن الله عز وجل إذا ما صبرك لا تصبر، لأن الصبر آتي من الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يرزقك الصبر.

وأما الصبر لله: فهو أن يكون لوجه الله، فإن بعض الناس قد يصبرون عن أشياء لكن ليس لوجه الله، -مثلاً- على فعل الصلاة رياء، فيجب أن يكون صبره لله، إنسان يصلي أمام الناس من أول الصلاة إلى آخر الصلاة وهو يصبر نفسه ويحبسها على أفعال الصلاة، ولكن ليس صبراً لله وإنما لمراءاة الناس، فهذا لا يكون صبراً لله.

- وأما الصبر مع الله: فبعض الصوفية يعرفونه بتعريفات منحرفة، ولكن يوجه ابن القيم رحمه الله هذه القضية، فيقول: الصبر مع الله، أي: مع أوامر الله بحيث يدور الإنسان المسلم معها حيث ما دارت، فأينما توجهت به الأوامر توجه معها، فهذا الإنسان يكون صبره دائماً مع الله عز وجل، حيث ما كانت مرضاة الله فهو يصبر.


استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3615 استماع
التوسم والفراسة 3614 استماع
مجزرة بيت حانون 3544 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3500 استماع
اليهودية والإرهابي 3429 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3429 استماع
حتى يستجاب لك 3396 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3376 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3350 استماع
الزينة والجمال 3340 استماع